بطريقة مفاجئة وغامضة بخاصة في الظروف الفلسطينية الاستثنائية الراهنة، أتى المرسوم الذي أصدره الرئيس محمود عباس (17/7)، وهو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ورئيس السلطة، وقائد حركة "فتح"، الذي نص على إجراء انتخابات "مجلس وطني" فلسطيني جديد، قبل نهاية عام 2025.
ومع التأكيد على أهمية ومشروعية الانتخابات عموما، كطريقة لاحتساب أوزان الكيانات السياسية السائدة، وتبيّن خيارات الشعب الفلسطيني، من خلال صناديق الاقتراع، وتاليا بناء البيت الفلسطيني على قواعد تمثيلية، وديمقراطية، إلا أن ذلك التوجه يثير كثيرا من التساؤلات والمشكلات.
مثلا، تعيش الحركة الوطنية الفلسطينية نوعا من الازدواجية، أو الخلط، السياسي، فثمة حركة تحرر وطني، تمثلها منظمة التحرير، وسلطة فلسطينية، هي في الواقع مقيدة، أو تحت سلطة الاحتلال.
والمشكلة في هذا الإطار أن منظمة التحرير باتت مهمشة، وغير فاعلة، بسبب التركيز على السلطة، ككيان للدولة الفلسطينية المفترضة في الضفة والقطاع، وإن كانت القيادة الفلسطينية تستدعيها لفرض بعض توجهاتها، باعتبارها، من ناحية نظرية، مرجعية قيادية للسلطة الفلسطينية. هكذا فإن منطوق المرسوم، بالذهاب نحو انتخابات مجلس وطني، يحاول التغطية على استحقاق الذهاب نحو انتخابات رئاسية وتشريعية للسلطة الفلسطينية، طال انتظارهما.
أيضا، يعيش النظام السياسي الفلسطيني على هامش شرعيتين، فثمة شرعية ثورية، باتت متقادمة، وتعتمد نظام المحاصصة الفصائلية ("الكوتة") علما أن معظم الفصائل لم يعد لها أي هوية فكرية أو سياسية، ولا أي دور في مواجهة إسرائيل، ولا أي مكانة في مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، ومن جهة أخرى ثمة شرعية انتخابية، لكن حالها ليس أحسن من سابقتها ("الثورية")، أولا، لأن تلك الشرعية تقتصر على فلسطينيي الضفة والقطاع، دونا عن باقي الفلسطينيين في الـ48 وفي بلدان اللجوء والشتات، وثانيا، لأن تلك الشرعية انتهت، قانونيا، منذ زمن طويل، إذ إن شرعية الرئيس محمود عباس انتهت منذ 2010، أي منذ 15 عاما، وهذه حال المجلس التشريعي، أيضا، الذي تم انتخابه في عام 2006، وانتهت ولايته الدستورية في عام 2010.
إسرائيل ستواصل رفضها إجراء انتخابات فلسطينية في القدس، كما في غزة، التي تشنّ عليها إسرائيل حرب إبادة وحشية، منذ قرابة عامين
ومعلوم أنه تم تعطيل عمل المجلس التشريعي، منذ عام 2006 بسبب الخلافات بين "فتح" و"حماس"، وتاليا بسبب انقسام كيان السلطة، بين سلطة "فتح" في الضفة وسلطة "حماس" في غزة، وأيضا لأن الرئيس الفلسطيني قام بحل ذلك المجلس (أواخر عام 2018).
ثمة مشكلة أخرى، تتعلق بصدقية توجه القيادة الفلسطينية نحو انتخابات مجلس وطني فلسطيني، كونها سابقة فريدة من نوعها، لمجلس وطني تأسس في القدس في عام 1964، ونشأ على التعيين، ثم على نظام المحاصصة "الكوتة"، علما أن هكذا توجه لم يصدر مثله في ظروف دولية وعربية وفلسطينية كانت أفضل بكثير مما هي اليوم، ما يطرح السؤال عن مغزى، وجدية، هذه الخطوة، علما أن الرئيس الفلسطيني كان قد التف على مرسوم له يقضي بانتخابات تشريعية فلسطينية (الرقم-3)، في مايو 2021 بمرسوم آخر (رقمه 12) في عام 2021، بدعوى رفض إسرائيل إجراءها في القدس.
هكذا ففي المرة الماضية جرى الإقلاع عن إجراء انتخابات المجلس التشريعي بتلك الحجة، فكيف إذن ستجري الانتخابات هذه المرة، إذ إن إسرائيل ستواصل رفضها إجراء انتخابات فلسطينية في القدس، كما في غزة، التي تشنّ عليها إسرائيل حرب إبادة وحشية، منذ قرابة عامين، تحت شعار: لا "حماسستان" ولا "فتحستان" في غزة، وربما ولا في الضفة، كما قد يتعذر ذلك، على الأرجح في الأردن وسوريا ولبنان؟
من جهة أخرى، فقد حدد المرسوم عدد أعضاء المجلس الوطني بـ350 على أن يكون ثلثاه يمثلون "الوطن" (أي الضفة والقطاع)، والثلث الآخر يمثلون الخارج والشتات، وضمنها مجتمعات اللاجئين في بلدان اللجوء (الأردن وسوريا ولبنان)، في تكريس لتراجع، أو انحسار، مكانة اللاجئين الفلسطينيين في العملية الوطنية الفلسطينية، علما أنهم دفعوا ثمن النكبة، المؤسسة لقضية فلسطينية، كما دفعوا غاليا ثمن انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة (1965)، مع ما يتضمنه ذلك من شرعنة لتحول السردية الوطنية الجامعة لشعب فلسطيني، من النكبة (1948) إلى ملف الاحتلال (1967)، مع كل ما يعنيه ذلك فلسطينيا وإسرائيليا.
المرسوم الرئاسي الفلسطيني، في شأن انتخابات المجلس الوطني، وقع في مطب المصادرة على حرية الرأي، إذ يشترط بأعضائه "التزام العضو ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية وبالتزاماتها الدولية وقرارات الشرعية الدولية"
إلى كل ذلك، فإن المرسوم الرئاسي الفلسطيني، في شأن انتخابات المجلس الوطني، وقع في مطب آخر، وهو المصادرة على حرية الرأي، إذ يشترط بأعضائه "التزام العضو ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية وبالتزاماتها الدولية وقرارات الشرعية الدولية". وهو فخ كان يجدر عدم الوقوع به، فضلا عن أنه يؤكد عدم ثقة القيادة الفلسطينية الرسمية بمكانتها، أو بخياراتها، السياسية والتمثيلية، إلى درجة ضعف قدرتها على استقطاب الفلسطينيين في كافة أماكن وجودهم إلى خياراتها السياسية التي تتبناها منذ أكثر من نصف قرن.
وربما يجدر التذكير هنا بأن الحديث عن انتخابات مجلس وطني يفتقد للصدقية، إذ إن هذا المجلس لم يعقد سوى دورتين عاديتين له (21 لعام 1996 و23 لعام 2018)، منذ إقامة كيان السلطة الفلسطينية (1994-2025)، أي منذ أكثر من ثلاثة عقود، ما يضعف من صدقية فكرة تفعيل المجلس الوطني (الدورة 22 لعام 2009 عقدت فقط لترميم عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير).
الفكرة، أن القيادة الفلسطينية، وعوض الذهاب نحو قرارات ومراسيم متسرعة، كان يفترض بها التمهيد لأي خيار سياسي بإجراء حوارات سياسية ومجتمعية معمقة، تتأسس على مراجعة واقع الحركة الوطنية الفلسطينية، بخياراتها وطرق عملها وكياناتها، بطريقة نقدية ومسؤولة، باتجاه إعادة بناء البيت الفلسطيني، والإجماعات الوطنية الفلسطينية، وهذا ينطبق على الانتخابات، سواء كانت للمجلس الوطني، أو للمجلس التشريعي، أو للرئاسة، باعتبار أن أي عملية انتخابية من دون كل ما تقدم لن تقدم جديدا في الواقع الراهن والمعطيات السائدة، فهذا أقل ما يمكن توقعه، لانتشال الحياة السياسية الفلسطينية من حال الجمود والتكلس، ومن الأزمة المستفحلة فيها منذ عقود، كونها أعمق وأشمل وأكثر تأثيرا من أزمتي الانقسام والشرعية، وباعتبارها أزمة تشمل الرؤى والكيانات وأشكال الكفاح والعلاقات الداخلية.