في السياق ذاته، فقد ظلّت قيادات "حماس" تؤكد يوميا أن المقاومة بخير، أو أنها تنتصر طالما لم تنهزم، في حين كان كل سكان غزة في العراء، من دون ماء أو غذاء أو دواء أو كهرباء، مع دمار معظم البيوت كليا وجزئيا، ومع خراب بناها التحتية، علما أن لا شيء يعيب "حماس" أن تتحدث عن الواقع كما هو، بسلبياته وإيجابياته، بنقاط قوته وضعفه، إذ لا أحد يحمّلها مسؤولية هزيمة الجيش الإسرائيلي، وحدها وفي هذه الظروف.
أيضا، يلفت الانتباه تشديد "حماس"، وغيرها، على أزمات إسرائيل، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتخبطها عسكريا، وضغط عائلات المحتجزين على حكومة العدو، لوقف الحرب، وهذا صحيح، لكنها لم تراجع نفسها بعد أن تبين خطل تلك المراهنات، إذ لا ضغط الشارع، ولا الضغط من ضباط في الجيش، ولا ضغط المعارضة السياسية، وصل إلى الدرجة المناسبة التي تجعل حكومة نتنياهو توقف حرب الإبادة، حتى ولو في سبيل هدنة مؤقتة تفضي إلى الإفراج عما تبقى من رهائن أو أسري إسرائيليين لدى "حماس".
الأنكى أنه وفي مناخات تلك الحرب المدمرة والفظيعة والمريرة روجت "حماس" لكثير من المقولات من مثل إن "إسرائيل لم تحقق أهدافها"، و"ليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه"، و"خسائرنا تكتيكية وخسائرهم استراتيجية"، وأن "إسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع للاعتداء على الفلسطينيين والبطش بهم"، وكلها لرفع المعنويات، وتأكيد مبدئية التشبّث بالمقاومة، بيد أنها في الأكثر تتوخى حجب مسؤولية قيادة "حماس" عما حصل، وعن انتهاج خيار بعينه، بدعوى أن القضية تحتاج إلى تضحيات.
وفي الواقع، فإن كل تلك المقولات خاطئة، إذ تنأى عن رؤية الواقع على حقيقته، علما أن نتنياهو هو مخترع المقولة الأولى لتبرير استمرار الحرب، إذ إن هدفه الحقيقي، كما تبيّن من السياسة التي انتهجتها قواته على الأرض، ترويع الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، بمثال غزة، وتكريس الهيمنة عليهم، ووأد حلمهم في دولة، والتخفّف ما أمكن من الثقل الديموغرافي، الذي يمثله الفلسطينيون فيها. أي إن هدف الحرب شطب الشعب الفلسطيني من الخريطة السياسية، بإعادتهم إلى زمن النكبة (1948)، في نكبة جديدة، ربما أكثر هولا من الأولى.
أما باقي المقولات فتروج لوعي سياسي ساذج، وموالٍ، يطلب من الشعب التضحية لأجل التضحية، كأنها قيمة لذاتها، دون مساءلة القيادات عن خياراتهم السياسية والكفاحية، كأن المقاومة مطلوبة لذاتها، بمعزل عن العوائد السلبية، أو العكسية، التي قد تتأتى منها. أيضا، بالتأكيد فإن إسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع للاستعمار والاستيطان والقتل والاعتقال وتدمير البيوت، بيد أنها تحتاج إلى فرصة سانحة ومناسبة، لشنّ حرب إبادة لإنفاذ سياساتها، وللتخلص ما أمكن من الفلسطينيين باعتبارهم عندها بمثابة خطر يتهددها دائما، وهو ما توفر في "طوفان الأقصى"، الذي استمر يوما واحدا، في حين شنّت إسرائيل حرب إبادة غير مسبوقة دخلت الآن في نهاية عامها الثاني.
من ذلك يمكن الاستنتاج أن "حماس"، أخطأت في تقدير قوتها، وفي مراهنتها على مدد "الملائكة"، و"وحدة الساحات"، وندائها للعالمين العربي والإسلامي، وبهجمتها كجيش مقابل جيش، وفي عدم تقديرها للدعم الذي تحظى به إسرائيل من الولايات المتحدة، والغرب عموما، إلى درجة دعمها في حرب إقليمية.
أيضا، هي أخطأت بعدم تقديرها قوة إسرائيل ومجتمعها، الذي وضعته إزاء حرب وجودية، إذ تبين أنها مستعدة لخوض حرب طويلة، وتحمل خسائر بشرية واقتصادية كبيرة، وحتى خوض حرب إقليمية، إذ إن التصدع الداخلي فيها لا صلة له تماما بالصراع ضد الفلسطينيين؛ بخلاف ما يصوره البعض ممن راهن على أزمات إسرائيل الداخلية.
محصلة "الطوفان"
الآن، وبعد عامين، وبعد التوصل إلى حل، أو صفقة، يمكن إيجاز محصلة "الطوفان"، الذي استغلته إسرائيل، كفرصة سانحة لها، في الآتي:
استطاعت إسرائيل إنهاء سلطة حركة "حماس" في غزة، وتقويض قدراتها، بجناحيها السياسي والعسكري، وهذا يشمل كل البنى العسكرية في قطاع غزة، وحتى في الضفة الغربية، بل إن الوضع وصل إلى حد قيام إسرائيل باستهداف قيادة حركة "حماس" في الدوحة (9/9/2025)، وهو تطور كبير، وهو يعني أن إسرائيل باتت تفرض "فيتو" على وجود تلك القيادة في أي مكان، وحتى في قطر، التي يفترض أن لها مكانة متميزة عند الإدارة الأميركية، وحتى عند إسرائيل بما يتعلق بالملف الفلسطيني. وكما شهدنا فإن هذه الحقيقة تجسدت في مضامين خطة ترمب، لوقف الحرب، والتي لقيت إجماعا من الأطراف العربية والإسلامية، التي التقت الرئيس الأميركي، على هامش اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، والتي حتمت على قيادة "حماس" الموافقة عليها، وهي ذات الخطة التي يجري التفاوض على كيفية تنفيذها في اجتماعات "شرم الشيخ" وأفضت إلى تنفيذ الاتفاق في مرحلته الأولى.
بات قطاع غزة منطقة منكوبة، مع حوالي مليونين من الفلسطينيين، الذين يفتقدون كل مقومات الحياة، بما في ذلك المأوى، والذين يعتمدون في العيش على المساعدات الخارجية، بخاصة بعد تدمير عمرانه، وبناه التحتية، وجعله بمثابة خرابة غير صالحة للعيش، إلا بتوافقات دولية وإقليمية.
من المبكر التكهن بالشكل الذي سيتموضع عليه قطاع غزة في اليوم التالي للحرب، مع فصله عن الكيان الفلسطيني (مع الضفة)، على الأقل مرحليا، إذ ثمة عدة خيارات لإدارته، عبر إدارة دولية، أو إدارة مختلطة، عربية ودولية، مع أو من دون بعد فلسطيني؛ وهذا الأمر، أيضا، تضمن في خطة الرئيس ترمب.
على الصعيد الفلسطيني العام، ثمة تناقض في المشهد السياسي، بين توجه كثير من الدول الغربية للاعتراف بمشروعية إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، وبين اضمحلال هذه الدولة على الأرض في الواقع وفي الجغرافيا، بسبب الوقائع التي كرستها إسرائيل في الضفة، لجهة تعزيز الاستيطان، ومحاصرة المدن الفلسطينية بالمستوطنات، والجدران العازلة، والطرق الالتفافية، وميليشيات المستوطنين المسلحين، وبسبب التضييق على السلطة الفلسطينية، من كل النواحي، وضمن ذلك حرمانها من الموارد المالية اللازمة. وهذا لا يعني أن فكرة الدولة الفلسطينية ستنتهي، فربما ستبقى على رأس جدول الأعمال، لكن ترجماتها في المدى المنظور، ستتراوح بين كيان في جزء من الضفة، يفتقد لسيادة حقيقية، ونوع من الحكم الذاتي، تحت الهيمنة الإسرائيلية.