لبنان ما بعد 8 أكتوبر 2023... طريق الافتراق بين الدولة و"المقاومة"

انتقادات لبطء الجيش في نزع سلاح "حزب الله"

نسمة محرم
نسمة محرم

لبنان ما بعد 8 أكتوبر 2023... طريق الافتراق بين الدولة و"المقاومة"

لم يكن انخراط "حزب الله" في "جبهة إسناد" غزة ابتداء من 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 سوى تتويج لمساره الطويل الذي شهد تحولا مفصليا لحظة مشاركته في الحرب السورية ابتداء من عام 2012. ربما هي صدفة أن يكون فتح "الحزب" لجبهة جنوب لبنان قد جاء بعد "عودته" من سوريا، بمعنى أنه لم يعد مضطرا للقتال المكثف هناك كما كان يفعل منذ عام 2012، وربما لم يكن من الممكن بالنسبة إليه فتح هذه الجبهة لو كان مستمرا في القتال بسوريا بالوتيرة نفسها. وأيا يكن من أمر فإن سوريا تحضر بقوة في قراءة مسيرة "الحزب"، خصوصا بعد الثامن من أكتوبر 2023، هذا مع تأجيل الإجابة عن سؤال عما إذا كانت "حماس" نفسها ستكون مستعدة لتنفيذ عملية "طوفان الأقصى" لو كانت الحرب في سوريا لا تزال مستعرة كما كانت منذ 2012. إلا أنه في مطلق الأحوال وفي ما يخص "حزب الله" فإنه لا يمكن قراءة انخراطه في "جبهة إسناد" غزة بمعزل عن انخراطه في "جبهة إسناد" نظام بشار الأسد.

فواقع الحال أن ذهاب "حزب الله" للقتال في سوريا ضد الفصائل المعارضة، ودعوته سائر "الفصائل اللبنانية" للحاق به وقتاله هناك، كان إعلانا صريحا وواضحا لوظيفته الإقليمية، أي إنه لم يعد من الممكن النظر إليه كما لو أنه حزب لبناني بحت أو "مقاومة" لبنانية بحتة. بهذا المعنى شكلت الحرب السورية تحولا نوعيا في مسيرة "حزب الله"، وهذا قبل أن يشكل تاريخ الثامن من أكتوبر 2023 تاريخا مفصليا في مسيرته الدراماتيكية. ولكن في الوقت نفسه فإن فتح "الحزب" لجبهة الجنوب في ذلك التاريخ كان تتويجا لمسار خروجه من لبنان إلى الفضاء الإقليمي الواسع، بدءا من سوريا والعراق ووصولا إلى اليمن، وهذا فضلا عن تشغيله خلايا داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وعلى هذا النحو فإن "عودة الحزب" إلى لبنان أضحت صعبة بل ومستحيلة بعد ذهابه إلى سوريا. وحتى لو كان "حزب الله" مصمما على هذه "العودة" بعد أن اعتقد أن الأوضاع في سوريا قد استقرت لصالح نظام بشار الأسد، فإن إطلاق "الحزب" لـ"جبهة الإسناد" إثر عملية "طوفان الأقصى" منعته من ذلك ورسخت صفته الإقليمية وجعلتها طاغية بما لا يقاس على صفته اللبنانية.

"حزب الله" يواصل تذبذبه بين صفتيه اللبنانية والإقليمية، ويحاول المصالحة بينهما، لكن مساندته لغزة وضعت حدا لهذه المحاولة وجعلتها مستحيلة

حتى إن "حزب الله" كان قد بدأ يروج لنفسه على أنه أصبح قوة إقليمية وأن لبنان بأزماته السياسية والاقتصادية صغير عليه، بل إن هذه الأزمات ما هي إلا محاولة "خارجية" لثنيه عن تأدية وظيفته الإقليمية على أكمل وجه بحيث "يكون حيث يجب أن يكون" وفق المعادلة الشهيرة التي أطلقها الأمين العام السابق لـ"الحزب" حسن نصرالله خلال الحرب السورية. بالتالي فإنه لا يمكن النظر إلى انخراط "الحزب" في "جبهة إسناد" غزة كما لو أنه حدث لبناني أو كما لو أن "حزب الله" يحضر فيه بصفته اللبنانية الخالصة. بل على العكس تماما فإن استئناف "الحزب" لجبهة الجنوب كان تتويجا لصفته الإقليمية وإعلان طغيانها النهائي على صفته اللبنانية الملتبسة والحائرة.

واللافت أن "حزب الله" حتى وهو قابع في لبنان يدعو إلى معالجة أزمته المالية والاقتصادية المتفاقمة وأحيانا بطرق غرائبية مثل الدعوة إلى زراعة شرفات المنازل، كان يدعو في الوقت نفسه إلى "وحدة الساحات" في أي مواجهة مستقبلية مع إسرائيل. وكم افتخر بإنشاء غرفة عمليات مشتركة مع "حماس" في الضاحية الجنوبية لبيروت خلال الحرب الأخيرة بين إسرائيل و"حماس" في مايو/أيار 2021.

نسمة محرم

والحال كان أن "حزب الله" يواصل تذبذبه بين صفتيه اللبنانية والإقليمية، ويحاول المصالحة بينهما، لكن مساندته لغزة وضعت حدا لهذه المحاولة وجعلتها مستحيلة. ولذلك لم يكن مستغربا أن يجد "الحزب" بداية صعوبة في إقناع جمهوره بضرورة الحرب و"أحقيتها"، هكذا ومن دون تحضير ومن دون إنذار مسبق أو مؤشرات أولية. فجأة انتقل "الحزب" من التفاصيل اللبنانية المأساوية إلى المعركة الإقليمية الكبرى من دون أن يدري لا هو ولا غيره إلى أين يمكن أن تصل هذه الحرب. حتى إن تسريبات ووشوشات صدرت من أوساط "الحزب" وجمهوره تلوم "حماس" لعدم إعلام "الحزب" بتوقيت تنفيذ العملية. ولكن هذه التسريبات، وبغض النظر عن دقتها، كشفت عن ضعف حجة "الحزب" في إقناع جمهوره بضرورة فتح الجبهة إسنادا لغزة، وليس دفاعا عن لبنان باعتبار أن إسرائيل لم تبادر إلى مهاجمة الأراضي اللبنانية. أي إن هذه التسريبات كانت تعكس في العمق رفض جمهور "الحزب" للحرب، أو تردده بشأنها. وهذا من دون الخوض في جدل كان قد بدأ يواكب استئناف الجبهة عن أن المقاومة دفاعية في الأصل وليست هجومية، وهو موقف رئيس البرلمان نبيه بري حليف "الحزب"، كما ينقل عنه مقربون منه.

لا بد من قراءة الموقف الإيراني من الحرب، ابتداء من نفي إيران أي علاقة لها بعملية "طوفان الأقصى"

ومن ذلك التردد والحيرة والارتباك كان تأخر نصرالله لنحو شهر في إعلان أول خطاب له بعد 7 أكتوبر 2023 للتعليق على التطورات وأحداث الجبهة المستأنفة بعد توقف دام نحو 20 سنة منذ صيف عام 2006، وذلك بعد أن كان "الحزب" قد أصدر بيانا فور عملية "حماس" أعلن فيه من ضمن عناوين أخرى أن تلك العملية هي رسالة "إلى الساعين إلى التطبيع". وكان "الحزب" قد استبق كلمة نصرالله في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بحملة دعائية أوحت كما لو أن الكلمة ستتضمن مفاجآت كبرى على غرار إحدى كلمات نصرالله خلال حرب يوليو/تموز 2006 عندما أعلن مباشرة على الهواء عن قصف بارجة إسرائيلية في عرض البحر، وقال: "انظروا إليها تحترق". لكن مع تقدم نصرالله في كلمته بدا أن الوضع مختلف عما كان عليه في صيف 2006 إذ خلت الكلمة من أي مفاجآت، واكتفى نصرالله بإعلان أن جميع الاحتمالات مفتوحة على الجبهة اللبنانية، رابطا بين جبهتي لبنان وغزة، ومحذّرا من خطر تطور الصراع إلى حرب إقليمية. كما قال إن الأساطيل الأميركية في البحر المتوسط "لا تخيفه"، بعدما كانت الولايات المتحدة قد نشرت حاملات طائرات في المتوسط وقالت حينها إن وظيفتها هي ردع "الحزب" عن توسيع الحرب.

والحال فإن "الحزب" كان قد بدأ منذ ذلك الحين في تجميع أخطائه في قراءة الموقف الإسرائيلي وبالأخص الأميركي، أو في عدم القدرة على مواكبة تحولاتهما من دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة لم يكن "الحزب" يريدها ولا إيران أيضا. ولكن في الوقت نفسه لا يمكن القول إن الموقف الأميركي كان ثابتا، على الرغم من تكرار جو بايدن تحذيره إيران ووكلاءها من تحويل الصراع في غزة إلى حرب إقليمية شاملة. لكن في الواقع فإن من كان يوسع الصراع فعليا وبقرار استراتيجي هو إسرائيل وليس إيران أو وكلاؤها الذين وضعوا سقوفا لانخراطهم في المعركة في تقاطع غير مباشر ولكنه مقصود مع الخط الأحمر الأميركي في نشوب حرب إقليمية شاملة. وهذا الموقف الأميركي انتهى بمثابة فخ لإيران ووكلائها وفي مقدمتهم "حزب الله"، مع شن إسرائيل الحرب ضد "الحزب" بين سبتمبر/أيلول ونوفمبر/تشرين الثاني 2024 والحرب ضد إيران في يونيو/حزيران 2025.

تهاوي "المعادلات"

هنا لا بد من قراءة الموقف الإيراني من الحرب، ابتداء من نفي إيران أي علاقة لها بعملية "طوفان الأقصى"، وهو ما عبّر عنه المرشد علي خامنئي بالقول إن العملية كانت قرارا فلسطينيا، وهو موقف كان قد  لاقاه نصرالله في خطابه في 3 نوفمبر 2023 عندما قال إن "حماس" مستقلة عن إيران بينما كانت طهران تواصل التأكيد على استقلالية القرار لدى وكلائها. لكن في الوقت نفسه كانت طهران تقيم حسابات مختلفة بين غزة وجنوب لبنان، بالنظر إلى أهمية "حزب الله" بالنسبة إليها كأحد أعمدة ردعها الرئيسة من ضمن مفهوم "الدفاع المتقدم". فهي وإن كانت قد أيدت "الحزب" في فتح "جبهة إسناد" غزة، أو دفعته إليها، إلا أنها لم تكن تريد أن تنزلق هذه الجبهة إلى حرب على غرار عام 2006. أولا لأنها تريد الحفاظ على مقدرات "حزب الله" لاستخدامها في أي مواجهة مستقبلية بينها وبين إسرائيل، وهذا تقدير سقط سقوطا مدويا  لاحقا مع شن إسرائيل الحرب ضد إيران. وثانيا لأن توسع الحرب بين إسرائيل و"حزب الله" كان سيضعها في موقف حرج بين دعمه وبالتالي تعريض نفسها لهجوم إسرائيلي، وبين عدم التدخل عسكريا للدفاع عنه وهو ما يشكك في خطابها وفي متانة دعمها له. وهذا ما حصل فعليا مع بدء الحرب الإسرائيلية ضد "حزب الله" في سبتمبر/أيلول 2025، ولو بقي هذا التشكيك على نطاق ضيق ضمن بيئة "الحزب" والجمهور اللبناني عموما.

"حزب الله" قدر مع الوقت أن إسرائيل عدلت عقيدتها القتالية التاريخية بحيث أصبحت مستعدة لخوض حروب طويلة، ولكنه لم يكن في مقدوره توقع إلى أي مدى

بيد أن القراءة الإسرائيلية كانت مختلفة من حيث إنها كانت مستعدة دائما لرفع سقف التصعيد وامتحان "حزب الله"، تماماً كما حصل عندما اغتالت القيادي في "حماس" صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت في 3 يناير/كانون الثاني 2024. وقد جاء رد "الحزب" على اغتياله "مدروسا"، إذ استهدف قاعدة مراقبة جوية قريبة من الحدود، ولم يستهدف تل أبيب ردا على استهداف بيروت، وفق معادلة "تل أبيب مقابل بيروت" التي كان نصرالله قد وضعها في وقت سابق.

هذا التراكم في التصعيد الإسرائيلي لا يبدو أنه دفع "الحزب" إلى إجراء مراجعة لاستراتيجيته في "حرب الإسناد". إذ حافظ على وتيرة منضبطة في القصف، وعلى الأرجح بقرار إيراني للأسباب المذكورة أعلاه، بينما كان لإسرائيل على ما يبدو قراءة مختلفة واستراتيجية مختلفة انطلاقا من التردد الذي يظهره "حزب الله" ومن ورائه إيران في التصعيد ضدها. وعمليا كان "حزب الله" قد بدأ يدخل في مأزق "جبهة الإسناد" بحيث إن إبقاءه عملياته العسكرية "مدروسة" بحجة عدم إعطاء ذريعة لإسرائيل لتوسيع حربها ضد لبنان كان يحفز تل أبيب للتصعيد ضده وإظهار تفوقها التكنولوجي والأمني والعسكري في استهداف كوادره وعناصره وترسانته العسكرية، وصولا إلى ذروة هذا التصعيد في سبتمبر/أيلول 2024.

موقف "حزب الله" هذا لم تكن تمليه الأسباب الإيرانية وحسب، بل كان في جزء منه مدفوعا بالأسباب الداخلية اللبنانية التي كانت تشكل عامل ضغط عليه بالنظر إلى المعارضة الشعبية والسياسية الواسعة لـ"حرب الإسناد" خصوصا أن تداعيات الانهيار المالي والاقتصادي في خريف عام 2019 كانت لا تزال مستمرة، وبالتالي فإن إعادة فتح جبهة الجنوب جاء كما لو أنه يعيد خلط الأولويات اللبنانية حتى بالنسبة لـ"حزب الله" نفسه. ولذلك بدأ "الحزب" مع الوقت بربط "جبهة الإسناد" بعناوين لبنانية وليس بعنوان دعم فلسطينيي غزة وحسب، كتحديد الحدود البرية مع إسرائيل واستعادة نقاط حدودية كانت الأخيرة قد ضمتها بعد حرب عام 2006. وذلك في ظل وساطة أميركية مفتوحة لفك الارتباط بين جبهتي لبنان وغزة والبحث في اتفاق جديد بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البرية كان يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين الذي كان قد نجح في إبرام اتفاق بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البحرية عام 2022.

نسمة محرم

غير أن "حزب الله" ظل متمسكا بالربط بين هاتين الجبهتين، معلنا أنه غير مستعد للبحث في أي نقاط تفاوضية قبل وقف الحرب في غزة. وهو ما يحيل إلى حسابات "الحزب" وإيران ورهاناتهما إزاء تلك الحرب وامتداداتها الإقليمية والموقف الأميركي والإسرائيلي منها. لا شك أن "حزب الله" قدر مع الوقت أن إسرائيل عدلت عقيدتها القتالية التاريخية بحيث أصبحت مستعدة لخوض حروب طويلة، ولكنه لم يكن في مقدوره توقع إلى أي مدى ستكون إسرائيل مستعدة لاستمرار القتال، خصوصا أن إدارة جو بايدن كانت تعطي إشارات متناقضة إزاء الحرب تحت وطأة تصاعد ردود الفعل في الغرب، وحتى داخل الحزب الديمقراطي، ضد المجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة. فمن جهة كانت الإدارة الأميركية تؤكد دعمها المطلق لإسرائيل لـ"الدفاع عن أمنها"، وفي الوقت نفسه كانت تظهر تباينا مع بنيامين نتنياهو بخصوص أهداف الحرب وحدودها وكيفياتها، وترسم بالتالي، على ضوء استمرارها في الدعوة إلى المفاوضات، خطوطا حمراء متحركة أمام رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي كان يتمسك بشعار "النصر المطلق" على "حماس" والذي كان قد أعلنه في بداية الحرب.

التقدير الرئيس لدى "حزب الله" وإيران كان أن أميركا ليست في وارد إعطاء ضوء أخضر لإسرائيل لشن حرب واسعة على لبنان في حال لم يبادر "الحزب" إلى تصعيد هجماته ضدها وإعطائها الذريعة لذلك

في هذا الوقت كانت إيران تدخل شيئا فشيئا إلى "أرض المعركة"، خصوصا بعد الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من أبريل/نيسان 2024 واغتيال القائد في "فيلق القدس" محمد رضا زاهدي، والذي شكّل تحديا واضحا للخطوط الحمراء التي وضعتها إيران كسقف لمشاركتها في الحرب من عدمها، وهو استهداف أراضيها التي تعتبر القنصلية المستهدفة جزءا منها من الناحية السيادية. وبالتالي كان الرد الإيراني حتميا ولكن السؤال الرئيس كان إلى أي حد ستكون إيران مستعدة لتعديل استراتيجية "الصبر الاستراتيجي" التي التزمت بها منذ السابع من أكتوبر 2023، وانعكاسات ذلك على "جبهة الإسناد" في جنوب لبنان؟

وبالفعل لم يتأخر الرد الإيراني كثيرا، ففي ليل 14-13 أبريل/نيسان 2024، قصفت إيران إسرائيل بنحو 200 طائرة مسيرة و100 صاروخ. لكن ردها هذا وبالرغم من كونه شكل تحولا في الصراع بين البلدين، إذ لم يعد محصورا بـ"حرب الظل" بينهما، فإنه جاء "مدروسا"، بالاتفاق المسبق مع واشنطن عبر القنوات الدبلوماسية، لكي لا يؤدي إلى "توسّع الصراع"، وهو ما كان يبدو حتى الآن هدفا أميركيا نهائيا. لكن المبادرة الإسرائيلية إلى التصعيد ضد إيران كانت بمثابة اختبار أولي لمدى استعدادها لمقابلة التصعيد بتصعيد أكبر حتى لو أدى ذلك إلى حرب مباشرة بين البلدين. وإذا كانت إسرائيل قد امتنعت عن مواصلة هجماتها ضد الأهداف الإيرانية فإنها صعدت هجماتها ضدّ "حزب الله" تدريجيا، بعد تيقنها من محدودية تدخّل طهران للدفاع عنه، وذلك قياسا على ردها "المدروس" ضدها بالاتفاق مع الأميركيين.

الفخ الأكبر

ومرة جديدة كان الموقف الأميركي من الحرب اللغز الأكبر و"الفخ الأكبر" خصوصا بعد تقديم الرئيس جو بايدن مقترحه للتهدئة في غزة في 31 مايو/أيار 2024، وهو ما عزّز الرهان مرة أخرى من جانب "حزب الله" وإيران على موقف الإدارة الأميركية التي "تسعى" إلى إنهاء الحرب على أبواب الانتخابات الرئاسية الأميركية في ظل تنامي النقمة الشعبية ضدها في الولايات المتحدة وداخل الحزب الديمقراطي. أي إن التقدير الرئيس لدى "حزب الله" وإيران كان أن أميركا ليست في وارد إعطاء ضوء أخضر لإسرائيل لشن حرب واسعة على لبنان في حال لم يبادر "الحزب" إلى تصعيد هجماته ضدها وإعطائها الذريعة لذلك. هذا مع العلم أنه كان ثمة أسئلة وقتذاك عما إذا كان نتنياهو الذي يفضل دونالد ترمب على بايدن كان يحاول فرض أولوياته على الإدارة الأميركية الآفلة. وهو ما ظهر في الكباش الأميركي الإسرائيلي بشأن الهجوم على رفح في جنوب غزة. لكن في النهاية فإنّ الرفض الأميركي لحرب شاملة في رفح لم يحل دون موافقة واشنطن على عمليات محدودة فيها، وهو ما طرح سؤالا عما إذا كان هذا السيناريو ممكنا في جنوب لبنان؟ أي هل توافق واشنطن على تصعيد إسرائيلي وصولا ربما إلى "أيام قتالية" في لبنان للضغط على "حزب الله" ودفعه إلى التنازل في المفاوضات الجارية بقيادة هوكشتاين؟

نسمة محرم

لكن التصعيد الإسرائيلي لم يشمل "حزب الله" وحسب، بل شمل أيضا إيران. ففي 30 يوليو/تموز 2024، اغتالت إسرائيل فؤاد شكر القيادي العسكري الكبير في "حزب الله" في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، ثم وبفارق سبع ساعات اغتالت رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، في قلب طهران. وإذا كان "حزب الله" قد ردّ على اغتيال شكر في 25 أغسطس/آب 2024، من خلال هجوم بأكثر من 200 صاروخ على قاعدة غليلوت بالقرب من تل أبيب، كما أعلن نصرالله لاحقاً، فإنّ إيران تأخرت في الرد الذي توعدت به إسرائيل عقب اغتيال هنية. وقد كان لواشنطن دور "غير مباشر" في تأخير هذا الرد الإيراني من خلال الإعلان عن أنه سيؤدي في حال حصوله إلى فشل مفاوضات التهدئة في غزة، التي كانت طهران تريد نجاحها.

فور وقف إطلاق النار بدا أن لبنان يدخل مرحلة جديدة، على وقع احتفاظ إسرائيل بـ"حرية الحركة" في الأجواء اللبنانية اغتيالا لكوادر "حزب الله" وعناصره وقصفا لما تقول إنها مخازن أسلحة ومواقع له

وهنا بدا أن إسرائيل التي "اختبرت" إيران و"حزب الله" بما يكفي طوال أكثر من عام، أصبحت مستعدة أكثر لتصعيد مفتوح ضد "الحزب"، في لحظة أميركية انتقالية بين إدارتين. فبين 17 و18 سبتمبر/أيلول 2024، فجّرت إسرائيل، في عملية أمنية واستخباراتية معقدة، أجهزة "البيجر" واللاسلكي التي كان يستخدمها مقاتلو "حزب الله"، ما أدى إلى وفاة وإصابة آلاف الأشخاص. وأكدت هذه العملية أن المواجهة بين إسرائيل و"الحزب" انتقلت إلى مرحلة جديدة لا عودة فيها إلى النمط السابق الذي استمر منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وبعد يومين اغتالت إسرائيل قيادة قوة النخبة في "الحزب"، التي تسمى "قوة الرضوان". وهكذا بدأ التصعيد يتدحرج؛ ففي ليل 24-23 سبتمبر، بدأت إسرائيل بشن غارات جوية مكثفة وعنيفة في الجنوب. ثمّ وفي 27 من الشهر نفسه، اغتالت إسرائيل حسن نصرالله، ما حسم الحرب نهائيا لمصلحتها، مع توسع قصفها ليطال بيروت والبقاع ومناطق مختلفة من لبنان، وذلك قبل أن تباشر في اجتياح قرى "الحافة الأمامية" على وقع مقاومة صلبة من قبل مقاتلي "حزب الله" الذين فشلوا في النهاية في صد الهجوم، وسط حالة الإرباك السياسي والعسكري داخل "حزب الله" بعد كل ما جرى، وذلك إلى أن تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في 27 نوفمبر 2024 برعاية أميركية وفرنسية.

المنقلب الكبير

فور وقف إطلاق النار بدا أن لبنان يدخل مرحلة جديدة، على وقع احتفاظ إسرائيل بـ"حرية الحركة" في الأجواء اللبنانية اغتيالا لكوادر "حزب الله" وعناصره وقصفا لما تقول إنها مخازن أسلحة ومواقع له. وبالتوازي كان شبه انقلاب يحصل في تركيبة السلطة اللبنانية، إذ انتخب قائد الجيش جوزيف عون في 9 يناير/كانون الثاني 2025، ثم شكلت الحكومة برئاسة القاضي نواف سلام في 8 فبراير/شباط، وقد كان الانتخاب والتشكيل فاتحة عصر سياسي جديد في لبنان كانت علامته الأولى تضمين خطاب القسم والبيان الوزاري مبدأ حصرية السلاح بيد الدولة، وهو المبدأ الذي نص عليه اتفاق وقف إطلاق النار. لكن "حزب الله" سرعان ما بدأ يحتار وينفعل إزاء الوضع الجديد، والذي ترافق مع ضغوط أميركية متصاعدة، قادها المبعوثان مورغان أورتاغوس وتوماس باراك تواليا، ولا سيما منذ أواخر الربيع الفائت، وذلك للدفع باتجاه إقرار خطة حكومية لنزع ما تبقى من سلاح "حزب الله". وقد بلغ هذا السجال بين "الحزب" والسلطة الجديدة ذروته خلال جلسة الحكومة في 5 أغسطس/آب الفائت والتي أقرت أهداف الورقة الأميركية المرفوعة إلى لبنان من قبل واشنطن، على وقع انسحاب وزراء ثنائي "أمل" و"حزب الله" من الجلسة، وبالتزامن مع تصعيد سياسي و"ميداني" مضبوط من قبلهما كشف عن ضعف حيلتهما أمام المتغيرات التي أفرزتها الحرب وسقوط النظام السوري، حتى إن مصدرا مقربا منهما يقول إن اتفاق وقف إطلاق النار ما كان ليوقع لو تأخر إلى ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، في دلالة على فداحة الانتكاسة التي منيا بها بسقوطه.

الأميركيون الذين يتركون المنطقة ككل وليس لبنان وحده للاستراتيجية الإسرائيلية، "يتفرجون" على الصراع الدائر على قاعدة أنهم حققوا إنجازا بإقرار أهداف ورقة باراك التي نزعت الشرعية عن مقاومة "حزب الله"

إلا أن جلسة الحكومة في الخامس من سبتمبر/أيلول 2025 أحدثت فرقا نسبيا في التوتر الحاصل والتناقض المعلن بين الحكومة و"المقاومة" بالنظر إلى أن "ترحيبها" بخطة الجيش اللبناني لنزع سلاح "حزب الله" وليس إقرارها لها، مع ترحيل الجدول الزمني لنزع هذا السلاح والذي يرفضه "حزب الله"، أظهر أن كلا الطرفين رضيا عن مجريات الجلسة على مضض، ولكنه أظهر أيضا أن لبنان دخل في مراوحة جديدة بين الحكومة و"حزب الله"، الحكومة التي تتمسك بمبدأ حصرية السلاح، و"الحزب" الذي يعارضه تحت حجة عدم انكشاف لبنان أمام  إسرائيل والتي تواصل هجماتها بوتيرة شبه يومية في لبنان وتواصل احتلالها لخمس نقاط في المنطقة الحدودية، من دون أن يطلق "الحزب" رصاصة واحدة ضدها، وهو ما يجعل خطابه الذي يرفض تسليم السلاح بحجة الدفاع عن لبنان ضد الاعتداءات الإسرائيلية أجوف ومدعاة للإحباط لدى جمهوره مع الوقت، وذلك بحسب مقربين منه.

أما الأميركيون الذين يتركون المنطقة ككل وليس لبنان وحده للاستراتيجية الإسرائيلية، فهم "يتفرجون" على الصراع الدائر على قاعدة أنهم حققوا إنجازا بإقرار أهداف ورقة باراك التي نزعت الشرعية عن مقاومة "حزب الله"، ولا يريدون أن يضيعوا هذا الإنجاز في الضغط على "الحزب" في الوقت الضائع، خصوصا أن المواجهة الرئيسة انتقلت من أن تكون بينه وبين إسرائيل إلى أن تكون بين الأخيرة وإيران، بانتظار جولة جديدة، ستكون حاسمة في تقرير مستقبل سلاح "الحزب"، سواء صمد النظام الإيراني أم لا.

ويوم الاثنين في السادس من الشهر الجاري عقد مجلس الوزراء جلسة للبحث في جدول أعمال من 10 بنود أبرزها عرض قيادة الجيش اللبناني للتقرير الشهري حول خطة حصر السلاح في مختلف المناطق اللبنانية، ليتحول هذا العرض جزءا من الروتين اللبناني، خصوصا بعد دخول خطة دونالد ترمب لوقف الحرب في غزة والسلام في الشرق الأوسط حيز التنفيذ بعد موافقة كل من "حماس" وإسرائيل عليها. وهو ما يجعل المنطقة ككل وليس لبنان وحسب أمام مرحلة جديدة، ولكن ذلك لا يبدد السؤال حول إمكان أن تصعد إسرائيل حملتها ضد "الحزب" في موازاة وقف الحرب في غزة أو تراجع وتيرتها.

وفي الوقت المستقطع تواصل إسرائيل إضعاف "حزب الله" الذي يجاهد لـ"العودة" إلى لبنان بشروطه وليس بالشروط الأميركية، لكن يبدو أن الوقت قد فاته، في منطقة يعاد تشكيل خرائط النفوذ فيها بعيدا عن نفوذ إيران.

font change

مقالات ذات صلة