كيف غيّر "7 أكتوبر" إسرائيل في الداخل والخارج؟

انتقال من "حرب الظل" مع إيران إلى المواجهة المباشرة

نسمة محرم
نسمة محرم

كيف غيّر "7 أكتوبر" إسرائيل في الداخل والخارج؟

لا يوم يُشبه السابع من أكتوبر/تشرين الأول في تاريخ إسرائيل، سوى البداية المشؤومة لحرب "يوم الغفران" المُفاجئة عام 1973. أعادتني مشاعر ذلك اليوم إلى محادثة دارت بيني وبين جنرال إسرائيلي سابق كان متمركزاً في سيناء بداية حرب عام 1973، حين استذكر المفاجأة الصاعقة مع تحليق الطائرات المصرية فوق سماء قاعدته العسكرية، وهرع الجنود من طاولاتهم لاستعادة زمام المبادرة. تلك الفوضى، وذلك الشعور الغامر بالهزيمة حتى قبل أن تبدأ المعركة.

يتقاسَم هذه المشاعر جيلان يفصلهما نصف قرن. فالناجون من هجمات السابع من أكتوبر، التي شهدت اقتحام الآلاف من مقاتلي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" للمستوطنات والبلدات الإسرائيلية المحاذية لقطاع غزة، يستعيدون ذاك الرعب نفسه. ذلك الانعدام الكامل للتوجيه الذي لم يُجدِ في تبديده سوى المبادرة الفردية. فمن طيارين حلّقوا دون أوامر، إلى جنود انضموا للقتال بلا زيّ رسمي، إلى جهاز أمني تحرّك بلا قيادة أو خطة موحدة. ويؤكد غالبية من عاشوا تلك الحوادث أن الأمر قد استغرق من الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية أسابيع، إن لم يكن أكثر، للخروج من دوامة الفوضى التي أعقبت تلك الهجمات.

على مستوى القيادة أيضا، لم يكن التردد والارتباك أقل وضوحا. فقد استغرق الأمر من إسرائيل ثلاثة أسابيع كاملة لشن عملية برية في غزة بعد هجمات السابع من أكتوبر. وكان مردُّ ذلك جزئيا إلى ضرورة تأمين الحدود ومنع أي هجمات إضافية قد تشنها "حماس"، لكنه لم يكن العامل الوحيد. فمن بين الأسباب الجوهرية للتأخير غياب خطة استجابة واضحة لهجوم بهذا الحجم، فضلا عن تردد واضح في أوساط النخبة الإسرائيلية العليا في خوض غمار غزو كامل لقطاع غزة. وعلى وجه الخصوص، أبدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ترددا ملحوظا في منح الثقة للجيش بعد هجمات أكتوبر في مهمة غير مسبوقة كهذه. فخلال المناقشات الاستراتيجية على مر السنوات بشأن غزة، عارض كثير من المسؤولين أي عمليات برية كبرى خشية أن يُكلف التقدم العميق في القطاع إسرائيل خسائر فادحة في الأرواح (مئات، بل آلاف الجنود)، كما يهدد مشروعيتها الدولية في ضوء ما يتسم به القتال الحضري من فظاعة وحتمية وقوع خسائر بشرية كبيرة.

حطم السابع من أكتوبر الافتراضات الاستراتيجية الإسرائيلية الراسخة بشأن الردع والاحتواء. ولأكثر من عقد، اتبعت إسرائيل ما أسماه المحللون استراتيجية "جزّ العشب"

خلال آخر عملية برية رئيسة شُنت في غزة عام 2014، اتّبعت إسرائيل استراتيجية محدودة الأهداف، إذ ركز الجيش الإسرائيلي على نحو أساسي على تدمير "أنفاق الهجوم" (تلك الأنفاق العابرة للحدود والتي تمتد من غزة إلى الأراضي الإسرائيلية). وقد تقدمت القوات الإسرائيلية حينها بضعة كيلومترات فقط داخل القطاع، متجنبة معظم المناطق المأهولة بالسكان. وعندما حاول الجيش التقدم بشكل أعمق، واجه مقاومة شرسة، كما حدث في كمين حي الشجاعية في مدينة غزة. استحضر نتنياهو تلك الدروس خلال المداولات الأخيرة، خاصة مع تزايد الوضوح حول ضرورة اعتماد منهجية مختلفة. وبناءً على ذلك، وافق رئيس الوزراء على خطة متدرجة تركّز في مرحلتها الأولى على شمال غزة قبل الانتقال إلى مناطق أخرى، عوضا عن شن غزو شامل وفوري. كما استندت الخطة إلى تحديثات في العقيدة العسكرية الإسرائيلية تركّز على استخدام القوة النارية الساحقة لتغطية التقدم البري. بيد أن هذه الاستراتيجية تنطوي على مفارقة مأساوية: ففي البيئة الحضرية، غالبا ما تتحول المعادلة الأمنية إلى معادلة محصلتها صفر، إذ إن الحماية المفرطة لقوات أحد الطرفين تعني بالضرورة زيادة المخاطر على الطرف الآخر.

وكما هو الحال في الكثير من المنعطفات السياسية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لم تكن الاعتبارات السياسية بعيدة عن دائرة القرار. فخلال الأيام الأولى التي أعقبت هجمات السابع من أكتوبر، سعى رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى تأمين قبول واسع لأي رد عسكري إضافي في غزة، من خلال إقامة حكومة وحدة وطنية. وجاء تشكيل حكومة الطوارئ في 11 أكتوبر 2023، والتي ضمت زعيم المعارضة بيني غانتس إلى "مجلس الحرب" إلى جانب نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، ليعبّر عن خطورة المرحلة ويُتيح لنتنياهو استعادة الحد الأدنى من الشرعية بعد أحد أكثر الأيام كارثية في تاريخ إسرائيل. إن هذا التوافق السياسي غير المسبوق يعكس الإجماع على أن إسرائيل تواجه تحديا وجوديا يتطلب استجابة تتجاوز الانقسامات السياسية العادية.

تغيير "قواعد اللعبة"... من الاحتواء إلى التصفية

لقد حطم السابع من أكتوبر الافتراضات الاستراتيجية الإسرائيلية الراسخة بشأن الردع والاحتواء. ولأكثر من عقد، اتبعت إسرائيل ما أسماه المحللون استراتيجية "جزّ العشب"- وهي عمليات عسكرية دورية تهدف إلى إضعاف قدرات "حماس" مع تجنب تكاليف احتلال غزة بالكامل. استند هذا النهج إلى الاعتقاد بأن "حماس"، كجهة شبه حكومية تحكم غزة، ستتصرف بعقلانية ويمكن ردعها من خلال ضغط عسكري محدود.

أثبتت تعقيدات هجمات السابع من أكتوبر ووحشيتها بطلان هذا الافتراض على نحو جذري. فقد أمضت حركة "حماس" سنوات عديدة في التخطيط والإعداد لما أسماه قادتها "الحرب الأخيرة"، إذ استغلّت فترات الهدوء لبناء شبكة أنفاق معقدة، وتخزين ترسانات أسلحة ضخمة، والتخطيط لعملية استراتيجية تهدف إلى جرِّ إسرائيل إلى صراع طويل الأمد، في محاولة لإضفاء الطابع الدولي على القضية الفلسطينية.

عزز إصرار نتنياهو على التمسك بمنصبه، وسعيه إلى التملص من المسؤولية عن إخفاقات السابع من أكتوبر، الاعتقاد السائد بأن هدفه الأساسي هو حماية نفسه من المساءلة

تجاوز التحول الاستراتيجي الإسرائيلي نطاق غزة بكثير. فقد تخلت إسرائيل عن نهجها التقليدي القائم على التصعيد المدروس، وتبنّت ما يمكن تسميته "عقلية السابع من أكتوبر" التي أولت الأولوية للضربات الاستباقية، مستخدمة القوة العسكرية لإعادة تشكيل الديناميكيات الإقليمية بدلا من الاكتفاء بإدارتها. لقد مثّل هذا التحول قطيعة جذرية مع عقود من التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي الذي ارتكز على ما يُعرف بـ"المعركة بين الحروب"- وهي استراتيجية هدفت إلى إضعاف خصوم إسرائيل تدريجيا دون الدخول في مواجهات شاملة. وفي الأشهر التي أعقبت ذلك، ازداد وضوح هذا التحول الاستراتيجي، إذ تبنت إسرائيل موقفا أكثر عدوانية يهدف إلى تحقيق هزيمة حاسمة للخصوم وإنشاء "مناطق عازلة".

تغييرات من الداخل

لقد شهد المشهد الداخلي الإسرائيلي تحولا جذريا تحت وطأة هجمات السابع من أكتوبر وتداعياتها. ورغم أن معظم التحديات التي تميز مرحلة ما بعد الهجمات كانت موجودة أصلا قبل حوادث أكتوبر، فإن هذه الهجمات قد عمقتها وأعطتها أبعادا جديدة. فقد مرت إسرائيل بفترة استقطاب سياسي حاد، في الوقت الذي كانت فيه حكومة نتنياهو تدفع بإصلاح قضائي مثير للجدل.

اعتبرت شرائح واسعة من الجمهور الإسرائيلي هذا الإصلاح تهديدا مباشرا للهوية الديمقراطية للبلاد، ومن شأنه أن يضعف السلطة الوحيدة التي تُوازن سلطة الحكومة التنفيذية. وقد عزز إصرار نتنياهو على التمسك بمنصبه، وسعيه إلى التملص من المسؤولية عن إخفاقات السابع من أكتوبر، الاعتقاد السائد بأن هدفه الأساسي هو حماية نفسه من المساءلة. في المقابل، صوّر نتنياهو هذه المعارضة كمحاولة غير ديمقراطية تقودها ما يُسمى "الدولة العميقة" في إسرائيل لاستعادة السيطرة على الشؤون العامة عبر التوسع القضائي المفرط.

نسمة محرم

تسبق هذه الأزمة المتعلقة بقواعد اللعبة الديمقراطية الأزمة الراهنة، وهي تعكس غياب دستور رسمي للبلاد. ولا شكَّ أن هذا الغموض الدستوري كان قائما قبل حوادث السابع من أكتوبر، لكن الأزمات التي أعقبت الهجوم أضفتْ شعورا غير مسبوق بالإلحاح، دفَعَ نحو ضرورة حل هذا التوتر التاريخي. وتظل إسرائيل واحدة من الدول القليلة في العالم التي تعيش منذ فترة طويلة على حافة أزمة دستورية مزمنة، في ظل غياب للدستور.

بالتأكيد، ستحدث الأشهر الطويلة من الاحتجاجات ضد الحكومة، والسعي الدؤوب لإبرام صفقة للإفراج عن الرهائن، تحولا جوهريا في بنية المعارضة الإسرائيلية. فقد خرج مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشوارع أسبوعيا، وبلغت بعض تلك المظاهرات أرقاما قياسية غير مسبوقة في تاريخ البلاد القصير. وإلى الوقت الحالي، قد تكون حركة الاحتجاج قد فشلت في ردع نتنياهو أو تغيير مسار الحرب على نحو مباشر، لكن من المؤكد أن إرثها سيستمر من خلال القادة الجدد الذين أبرزتهم وأطلقَتْهم إلى الواجهة.

كما أن الحركة الاحتجاجية المماثلة التي طالبت بـ"العدالة الاجتماعية" عام 2011، كانت قد جلبت بدورها دماءً جديدة إلى الساحة السياسية، على الرغم من فشلها في إحداث تغيير جذري حقيقي. لكن حجم الأزمة الحالية أكبر بكثير. وهناك قناعة متنامية بأن الديمقراطية الإسرائيلية لم تعد مضمونة ولا يمكن التعامل معها كأمر مُسَلَّم به، وأن الهوية المزدوجة لإسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية لن تصمد إلا إذا عبّرت الأغلبية الصامتة عن رأيها.

امتدت حملة الاغتيالات الإسرائيلية إلى ما هو أبعد من "حماس" بكثير. وقد تبين أن استهداف إسرائيل لقيادات "حزب الله" كان أشد تدميرا لشبكة إيران الإقليمية

يُغذّي هذا الانقسام الاجتماعي العميق أيضا تصور مفاده أن الشريحة التي تهمشها الحكومة الإسرائيلية وتهملها أكثر هي نفسها التي تدفع ثمن قراراتها. لطالما كانت قضية التجنيد الإلزامي للتيار المتشدد (الحريديم) مصدرا للانقسام الحاد في المجتمع الإسرائيلي، لكنها وصلت حاليا إلى ذروة غير مسبوقة. وقد صدم إصرار التيار المتشدد على تمرير قانون جديد يكرّس عدم مساواتهم ويضمن حقهم في الإعفاء من الخدمة العسكرية، شرائح كبيرة من الشعب الإسرائيلي، من ضمنها بعض مؤيدي نتنياهو وائتلافه الحاكم.

لطالما اعتمدت الحوكمة في إسرائيل على ضرورة مراعاة مصالح الأقليات. فعمليا، أي ائتلاف حاكم في إسرائيل مُلزم بالتفاوض مع أحزاب صغيرة، غالبا ما تدفع بأجندات ضيقة وتهتم بمصالح فئوية محددة. وعلى الرغم من أن الأمر قد يستغرق بعض الوقت، فإن الأزمة التي أعقبت السابع من أكتوبر ربما أظهرت حدود النظام الذي يولي أولوية قصوى لمصالح "القبائل" المختلفة على حساب المصلحة الوطنية الجامعة.

حملة اغتيالات منهجية

شهد السابع من أكتوبر/تشرين الأول انطلاق حملة من أشد حملات الاغتيالات المستهدفة منهجية ونجاحا في تاريخ إسرائيل. وقد أدى اتساع نطاق هذه العمليات ودقتها، إلى تغير جذري في الهياكل القيادية لـ"حماس" و"حزب الله" وشبكة إيران الإقليمية، كاشفة بذلك عن مستوى من الاختراق الاستخباراتي والقدرة العملياتية فاجآ حتى أقرب حلفاء إسرائيل.

بدأت الحملة باستهداف ممنهج لقيادة "حماس". فقتل محمد الضيف، القائد الغامض للجناح العسكري لـ"حماس" و"مهندس" هجمات 7 أكتوبر، في غارة جوية في 13 يوليو/تموز 2024 على خان يونس. وقتل إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لـ"حماس"، في إحدى دور الضيافة في قلب طهران. وقتل يحيى السنوار، الذي خلف هنية في قيادة "حماس"، في مواجهة وقعت صدفة مع القوات الإسرائيلية في رفح في أكتوبر 2024.

امتدت حملة الاغتيالات إلى ما هو أبعد من "حماس" بكثير. وقد تبين أن استهداف إسرائيل لقيادات "حزب الله" كان أشد تدميرا لشبكة إيران الإقليمية. كما أن هجمات سبتمبر/أيلول 2024 التي استهدفت أجهزة (البيجر)، الاستدعاء اللاسلكي، التي أسفرت عن مقتل العشرات وجرح الآلاف من عناصر "حزب الله"، كشفت عن قدرة إسرائيل على اختراق حتى أكثر المنظمات حرصا على أمنها. وتلا ذلك تصفية ممنهجة لكبار قادة "حزب الله"، بلغت ذروتها مع مقتل الأمين العام حسن نصرالله في سبتمبر.

غيرت أحداث السابع من أكتوبر مسار المواجهة بين إيران وإسرائيل بطريقة ستؤثر حتما على المنطقة في السنوات المقبلة

أبرزت هذه الاغتيالات سياسة "الذراع الطويلة" التي تتبعها إسرائيل، أي قدرتها على الوصول إلى أي مكان يوجد فيه أعداؤها، سواء كانوا في أعماق الأرض أو بعيدا عن حدودها. ولعل خير دليل على ذلك محاولة إسرائيل في شهر سبتمبر/أيلول استهداف قادة لـ"حماس" أثناء اجتماع لهم في العاصمة القطرية الدوحة، ما يعد نقطة مفصلية للضغط على جميع الأطراف الإقليمية الفاعلة.

 وعلى الرغم من أن الحملات نفسها نفذت ضد مجموعات مختلفة، فإنها أسفرت عن نتائج مختلفة. فالتصفية المنهجية لقادة "حزب الله" عبر سلسلة من الغارات الجوية، إلى جانب العملية البرية في جنوب لبنان، التي تدربت عليها إسرائيل منذ فترة طويلة، أثبتتا فعاليتهما الشديدة في إجبار "حزب الله" على التراجع عن موقفه الأولي، بأنه سيواصل قتال إسرائيل ما دامت إسرائيل تقاتل في غزة. وبلغ "حزب الله" أضعف حال له منذ تأسيسه، ففتح ذلك أمام الحكومة اللبنانية نافذة نادرة لاستعادة السيطرة على "احتكار العنف" الذي يميز أي دولة ذات سيادة.

أما في غزة، فلم تفضِ عمليات الاغتيال المستهدفة إلى أي اختراق حقيقي ولا إلى إطلاق سراح الرهائن. وتتخذ إسرائيل الآن خطوات استراتيجية أشد وضوحا لما يراه نتنياهو "نهاية اللعبة"، أي استسلام "حماس" على نحو يمكنه من تصويره على أنه "نصر كامل". وهذا يعني موافقة الحركة على تسليم أسلحتها وخروج قيادتها المتبقية في غزة من القطاع الفلسطيني إلى المنفى، وهو ما يتوافق جزئيا مع خطة الرئيس الأميركي ترمب لوقف الحرب، والتي وافقت عليها "حماس" في مطلع أكتوبر/تشرين الأول، قبل أيام قليلة من دخول الحرب عامها الثالث.

 المواجهة مع إيران... من "حرب الوكالة" إلى الاشتباك المباشر

غيرت أحداث السابع من أكتوبر مسار المواجهة بين إيران وإسرائيل بطريقة ستؤثر حتما على المنطقة في السنوات المقبلة. من المرجح أن يدون التاريخ قرار إيران بشن هجومين مباشرين على إسرائيل كواحد من أخطر الأخطاء التي ارتكبتها.

فقد أظهرت عمليات الانتقام الإسرائيلية في أبريل/نيسان وفي أكتوبر 2024 قدرتها على اختراق المجال الجوي الإيراني وضرب أهداف استراتيجية في جميع أنحاء البلاد. واستهدفت عملية أكتوبر، التي سميت "أيام التوبة"، أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية، ومنشآت إنتاج الصواريخ، والمنشآت العسكرية، مما أدى فعليا إلى شل القدرات الدفاعية الإيرانية وشل قدرة إيران على إنتاج الصواريخ.

نظام الأسد كان ركيزة أساسية في "محور المقاومة" الإيراني، إذ مثّل مركزا استراتيجيا لنقل الأسلحة إلى "حزب الله"، واستضاف قوات ووكلاء إيرانيين

كشف التصعيد عن تغيرات جوهرية في التوازن الاستراتيجي. فخلافا للمواجهات السابقة، حيث دأب كلا الطرفين على ضبط ردود أفعالهما بعناية لتجنب حرب شاملة، شهدت فترة ما بعد 7 أكتوبر تبني إسرائيل موقفا أكثر عدوانية، وكشف استعدادها للمخاطرة بصراع أوسع نطاقا بغية تحقيق أهداف استراتيجية. شكل هذا خروجا عن "قواعد اللعبة" التقليدية، التي حكمت العلاقات الإيرانية الإسرائيلية طيلة عقود. فلم تعد إسرائيل تدير الصراع، بل تبنت استراتيجية للفوز خطوة خطوة. فاتخذت أكبر خطوة منها في يونيو/حزيران 2025، حين شنت عملية "الأسود الصاعدة"، ونجحت في شل ما تبقى من الدفاعات الجوية الإيرانية، وشل جزء كبير من قوتها الرئيسة للرد الصاروخي، بينما نفذت مرة أخرى عملية اغتيال مستهدفة ناجحة ضد قيادة أعدائها. كما تمكنت إسرائيل من توجيه ضربة قوية للقدرات النووية الإيرانية، من خلال نجاحها في إقناع الرئيس ترمب بضرب منشآت نووية مخفية عميقا في باطن الأرض.

لكن هل سيكون ذلك كافيا؟ على الرغم من موافقة نتنياهو على مضض على الغزو البري لغزة، ورفضه في البداية اقتراحا لوزير الدفاع غالانت بشن هجوم استباقي على "حزب الله"، إلا أنه يدرك السياسة التي طالما دعا إليها "المتطرفون" في إسرائيل. حيث يتمثل موقفهم في أن إسرائيل وحلفاءها لا يستطيعون التعامل على نحو منفصل مع مختلف ركائز التهديد الإيراني، أي البرنامج النووي، والقدرات الباليستية والطائرات المسيرة، والوكلاء الإقليميين. وبينما سعى البعض إلى تجزئة هذه القضايا والتعامل معها واحدة تلو الأخرى، مع عدّ القضية النووية القضية الأكثر إلحاحا، أكد المتطرفون على ضرورة اتباع نهج أكثر شمولية (وعدوانية). وفي الواقع فقد دفع التصعيد الإقليمي الذي أعقب 7 أكتوبر إسرائيل- وسواء كان ذلك متعمدا أم لا- إلى الانخراط في "حرب كليّة" أكثر شمولا ضد إيران. ونادرا ما يكون هدف هذا النوع من الحروب، العودة المضطربة إلى مزيد من الحروب بالوكالة التي نشهدها حاليا بين الخصمين، بل هدفها الهزيمة الكاملة لأحد الطرفين المتحاربين.

الزلزال السوري

لعل انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، قد شكل التحول الجيوسياسي الأبرز في الشرق الأوسط منذ الربيع العربي. وبالنسبة لإسرائيل، التي تخوض حربا متعددة الجبهات، شكل سقوط الأسد مجموعة من الفرص والمخاطر في آن واحد، وهو ما تطلب منها تعديلا استراتيجيا فوريا.

كان توقيت السقوط بالغ الأهمية. فنظام الأسد كان ركيزة أساسية في "محور المقاومة" الإيراني، إذ مثّل مركزا استراتيجيا لنقل الأسلحة إلى "حزب الله"، واستضاف قوات ووكلاء إيرانيين. وجاء انهياره في وقت كانت فيه إسرائيل قد أضعفت قدرات "حزب الله" إلى حد كبير، وحطمت شبكة إيران الإقليمية، ووجهت ضربة مميتة لطموحات إيران الإقليمية.

لقد حقق السابع من أكتوبر لإسرائيل، ما عجزت عن تحقيقه عقود من التخطيط الاستراتيجي، أي نشوء توازن قوى إقليمي يصب في مصلحة إسرائيل

ومع ذلك، جاء رد القيادة الإسرائيلية على نحو قد يشكل تهديدات جديدة، بإنشائها منطقة عازلة جديدة في جنوب سوريا، وسعيها لإيجاد حلفاء جدد يمكنهم أن يشكلوا ثقلا موازنا لأي قوة مركزية قوية في دمشق. وهذا الرهان على ضعف سوريا بدلا من قوتها هو رهان ينطوي على مخاطر عالية: فعلى الرغم من سعي إسرائيل لحماية نفسها من التهديدات المستقبلية، فإن تسرعها في النظر إلى سوريا من منظور الأمن فقط، قد يكون نبوءة محققة لذاتها. وبذلك، تقامر إسرائيل بمصير اتفاق أوسع لتطبيع العلاقات مع سوريا، وتوفر الفرصة التي تحتاجها الأطراف الإقليمية الأخرى، التي تسعى إلى تعويض خسارتها (إيران) أو ترى فرصا جديدة لتشديد قبضتها على سوريا (تركيا).

الإرث الدائم لـ7 أكتوبر

سيذكر يوم السابع من أكتوبر 2023 كواحد من أهم الأيام في تاريخ الشرق الأوسط. فما بدأ كمحاولة طموحة من "حماس" لتدويل القضية الفلسطينية وشل حركة إسرائيل، حفز بدلا من ذلك أهم تحول في هياكل القوة الإقليمية منذ عقود.

كما أظهر رد إسرائيل كلا من نقاط الضعف في الدولة، ومكامن قدرتها على الصمود. فقد كانت الإخفاقات الاستخباراتية والعملياتية الأولية التي سمحت بهجمات 7 أكتوبر، إخفاقات مدمرة، لكنها دفعت إلى إعادة تقييم استراتيجي غيّر جذريا موقع إسرائيل في المنطقة. كما يمثل التحول من الردع الدفاعي إلى إعادة التشكيل الهجومي للديناميات الإقليمية مرحلة جديدة في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي، مرحلة تعطي الأولوية للعمل الحاسم على إدارة الصراعات.

لقد حقق السابع من أكتوبر لإسرائيل، ما عجزت عن تحقيقه عقود من التخطيط الاستراتيجي، أي نشوء توازن قوى إقليمي يصب في مصلحة إسرائيل. إلا أن هذه الفرصة لن تكون متاحة إلا إذا كانت إسرائيل مستعدة لتحويل نجاحاتها العسكرية إلى نجاحات سياسية. ويتطلب تحويل هذا النجاح التكتيكي إلى مكاسب استراتيجية مستدامة، حكمة سياسية، وانخراطا دبلوماسيا، واستعدادا لتجاوز النزعة العسكرية المتطرفة، التي اتسمت بها فترة ما بعد السابع من أكتوبر.

font change

مقالات ذات صلة