عامان على "7 أكتوبر"... الشرق الأوسط بين الفوضى والانتقال

بدا جليا أن إسرائيل برزت باعتبارها القوة العسكرية الإقليمية الأساسية

نسمة محرم
نسمة محرم

عامان على "7 أكتوبر"... الشرق الأوسط بين الفوضى والانتقال

مع اقتراب الذكرى الثانية للصراع الإقليمي الواسع الذي اندلع عقب هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تبرز الحاجة إلى تقييم الكيفية التي غيّر بها تعدد الأزمات وجه الشرق الأوسط، واحتمالات تطور مساراته خلال الأشهر المقبلة.

انطلق الصراع بمواجهة بين إسرائيل وحركة "حماس" في غزة، ثم ما لبث أن تحوّل إلى لحظة مفصلية أعادت رسم موازين القوى في المنطقة، ودفعت الأطراف الفاعلة الأساسية، وهي إسرائيل وإيران وتركيا ودول الخليج والولايات المتحدة، إلى اتخاذ قرارات استراتيجية من شأنها أن تحدد ما إذا كان الشرق الأوسط مقبلا على عهد جديد من التكامل والاستقرار أو في طريقه إلى مزيد من الصراع والتفكك.

تُطرح في هذه المرحلة الحاسمة أسئلة كبرى ترسم ملامح النظام الإقليمي الجديد. هل ستتمكن إسرائيل من استثمار تفوقها العسكري غير المسبوق من خلال دفع عجلة التطبيع والتكامل الإقليمي والتسوية السياسية مع جيرانها؟ وهل تعيد إيران النظر في نهج التدخل المباشر وتبحث عن مقاربة أمنية ودبلوماسية أكثر استقرارا؟ وهل تنجح الولايات المتحدة ودول الخليج في تسخير نفوذهما لإرساء الاستقرار بدلا من الاكتفاء برد الفعل؟ وهل يمكن أن تتحوّل الفرص المحدودة في إعادة بناء الدولة في كل من لبنان وسوريا إلى عوامل نهوض إقليمي، أم إنها ستتبدد في خضم موجة جديدة من التصعيد الإقليمي؟

الرابحون والخاسرون

برزت إسرائيل بوضوح بصفتها القوة العسكرية الإقليمية الأولى. فقد شكّلت عملياتها مسار الأحداث ليس فقط في غزة، بل كذلك في لبنان وسوريا واليمن وداخل الأراضي الإيرانية. وأظهرت قدرتها على استهداف المنشآت الإيرانية دون خشية من عواقب انهيار فرضيات الردع السابقة، ما أعاد تشكيل التوازن العسكري في المنطقة.

من موقعها الجديد بصفتها القوة المهيمنة، بات لإسرائيل الدور الأكبر في رسم ملامح النظام الإقليمي المقبل. إذ بإمكانها استثمار مكاسبها الميدانية نحو إطار أمني إقليمي يكرّس اندماجها الدائم في الشرق الأوسط

وعلى النقيض، ظهرت إيران بوصفها الخاسر الأكبر. إذ تفكك "محور المقاومة" الذي طالما افتخرت به طهران، والذي حافظ على توازن هش مع إسرائيل طوال سنوات. مما اضطر إيران إلى الانسحاب من سوريا، وتراجع نفوذ "حزب الله" بشكل لافت في لبنان، فيما بدت طهران غير قادرة حتى على منع الهجمات المباشرة التي طالت أراضيها.

في المقابل، واصلت تركيا تعزيز نفوذها بهدوء. فقد شكّل صعود أحمد الشرع، الذي حظي بدعم تركي ووصل إلى رئاسة سوريا، مصدر نفوذ جديد لأنقرة في دمشق، وأعاد لها جزءا من حضورها الإقليمي. أما دول الخليج، فقد نجحت حتى وقت قريب في تجنّب الدخول في مواجهة مباشرة، إلا أن الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قطر الأسبوع الماضي وضعتها في صلب التوتر، وقد تدفعها إلى التورط في عمق الصراع.

النظام القديم يندثر... والجديد لم يولد بعد

انهار النظام الإقليمي الذي ساد لعقود، والمبني على توازن القوى بين إسرائيل من جهة، وإيران وشبكة حلفائها من جهة أخرى. غير أن نظاما جديدا لم يولد بعد.

منظور القوة الإسرائيلي

من موقعها الجديد بصفتها القوة المهيمنة، بات لإسرائيل الدور الأكبر في رسم ملامح النظام الإقليمي المقبل. إذ بإمكانها استثمار مكاسبها الميدانية كنقطة انطلاق نحو إطار أمني إقليمي يكرّس اندماجها الدائم في الشرق الأوسط. ويقتضي ذلك إنهاء الحرب في غزة، وتسريع وتيرة التطبيع مع السعودية، وتقديم أفق سياسي موثوق للفلسطينيين، إضافة إلى فتح باب المصالحة مع سوريا ولبنان ودول عربية وإسلامية أخرى.

ثمة مسار بديل يمكن لإيران السير فيه؛ مسار يسهم في حماية حدودها واستعادة مكانتها في الإقليم. فالدبلوماسية مع جيرانها العرب ما تزال خيارا متاحا

غير أن المسار الذي ينتهجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حاليا يبدو بعيدا عن هذا التوجه. فقد دخلت الحرب في غزة عامها الثالث، بعدما سعى نتنياهو إلى إفشال المبادرات الدبلوماسية لإنهائها من خلال استهداف فريق التفاوض التابع لحركة "حماس" في الدوحة. ويبدو أن الهجوم على قطر هو ما دفع الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى العودة بقوة إلى المشهد، حيث أطلق خطة ترمب لإنهاء الحرب في غزة، متعهدا في الوقت ذاته بتقديم ضمانة أمنية لقطر، ومؤكدا بوضوح: "لن أسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية."

قد تُمنى خطة ترمب بالفشل في نهاية المطاف، إذ ما تزال حركة "حماس" تتفاوض بشأن بعض تفاصيل الاتفاق، غير أنه إذا كُتب للخطة أن تمضي قدما، فسيكون ترمب قد أرغم إسرائيل على إنهاء الحرب، وتأجيل خطط ضم الضفة الغربية، وفتح الطريق أمام صفقة محتملة مع السعودية. أما في حال انهيار الخطة، فإن الحرب ستستمر في عامها الثالث، ما يعيد المنطقة إلى حالة التوتر التي سادت قبل أسابيع قليلة.

في الواقع، أشار الهجوم على قطر وتصاعد التوتر مع تركيا في مطلع سبتمبر/أيلول إلى احتمال اندلاع تصعيد إقليمي واسع. وحتى "الانتصارات" التي حققتها إسرائيل في لبنان وسوريا ما تزال ذات طابع عسكري غير محسوم. وبدلا من ترجمة نجاحها الميداني إلى هيكل أمني إقليمي جديد، يبدو أن نتنياهو، في ظل غياب ضغط أميركي فعّال، يخاطر بإبقاء إسرائيل والمنطقة في حلقة مفرغة من الصراع المفتوح دون أفق سياسي واضح.

نسمة محرم

الدور الإيراني

تواجه طهران لحظة حاسمة لإعادة النظر في حساباتها. فقد أثبتت استراتيجيتها، التي تعتمد على الدفع بالميليشيات إلى خطوط "الدفاع الأمامي" والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، فشلها الذريع. وتجد إيران نفسها اليوم من دون قدرة ردع فعّالة، مع حلفاء ضعفاء، ونفوذ آخذ في الانحسار.

ورغم هذا التراجع، لم تقدم طهران على أي مراجعة استراتيجية جذرية حتى الآن. حيث يواصل النظام الإيراني دعم وكلائه الذين نجوا من الضربات، ويظل متمسكا بموقفه السابق بشأن برنامجه النووي. ويشكّل هذا الجمود خطرا حقيقيا، إذ يفتح المجال أمام مزيد من التصعيد من جانب إسرائيل، ويعرّض إيران لمزيد من العزلة والضعف.

ومع ذلك، ثمة مسار بديل يمكن لإيران السير فيه؛ مسار يسهم في حماية حدودها واستعادة مكانتها في الإقليم. فالدبلوماسية مع جيرانها العرب ما تزال خيارا متاحا، ويمكنها أن تتخلى عن نهج الميليشيات وتسعى إلى تسويات تفاوضية للنزاعات المستمرة، بما في ذلك القضية الفلسطينية. كما يمكن لإيران أن تركز على بناء منفعة عامة إقليمية، عبر إنشاء أطر أمنية، وممرات اقتصادية، وشبكات لإمداد الطاقة، من شأنها أن تعزز أمن النظام ومصلحة الشعب، وتمنح طهران فرصة حقيقية للمساهمة في استقرار المنطقة.

رغم من أن رقعة الشطرنج الاستراتيجية ما تزال غير مستقرة، فالتطورات على الأرض في كل دولة على حدة تتغير بطرق قد تؤدي إلى تعزيز الاستقرار أو إشعال فتيل أزمات جديدة

دول الخليج ونفوذها المحدود

تميل دول الخليج إلى نظام إقليمي أكثر استقرارا وتكاملا، غير أنها تبقى لاعبا محدود التأثير في المعادلة العسكرية القائمة. ويُعد عرض السعودية للتطبيع مع إسرائيل الورقة الدبلوماسية الأقوى التي تملكها. وقد يكون لهذا العرض أثر تحويلي في العلاقات العربية-الإسرائيلية، إلا أنه لم ينجح حتى الآن في تغيير موقف الائتلاف اليميني المتشدد بقيادة نتنياهو. كما أن المبادرات الخليجية المتكررة لم تُفلح بعد في تعديل مواقف إيران الإقليمية.

دور واشنطن: بين رد الفعل والرؤية الاستراتيجية

يشترك الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي قطع شوطا في ولايته الثانية، مع دول الخليج في السعي لبناء نظام إقليمي مستقر ومتكامل، تكون فيه الولايات المتحدة الوسيط والمستفيد الرئيس. فبين انتخابه وتنصيبه، مارس ترمب ضغوطا كبيرة على نتنياهو للموافقة على وقف إطلاق النار في غزة ولبنان. إلا أن واشنطن سرعان ما عادت إلى موقف رد الفعل، حيث اكتفت بالتعامل مع الأزمات التي تُدار في جزء كبير منها من خلال القرار الإسرائيلي.

غير أن الهجوم على قطر أعاد ترمب، كما ذُكر سابقا، إلى صدارة المشهد. فقد أكد أن أهدافه الطموحة تتضمن استكمال اتفاقات إبراهام مع السعودية وسوريا ولبنان، وإيجاد حل دائم للتحدي النووي الإيراني، وتسوية القضية الفلسطينية بما يُرضي السعودية ويضمن أمن إسرائيل في آن واحد. وإذا ما قُدّر لمبادرته الأخيرة أن تحقق ما أعلنه صراحة من طموحات، فقد تُشكّل هذه المبادرة المرحلة التالية في التعامل مع هذه الأزمة الإقليمية المتشابكة، بل وربما تُحدّد إرثه في السياسة الخارجية.

الساحات المحلية في حالة تغير مستمر

وعلى الرغم من أن رقعة الشطرنج الاستراتيجية ما تزال غير مستقرة، فالتطورات على الأرض في كل دولة على حدة تتغير بطرق قد تؤدي إلى تعزيز الاستقرار أو إشعال فتيل أزمات جديدة.

لبنان: عودة ظهور الدولة

يقدم لبنان إحدى القصص الواعدة في مجال نهضة الدولة. فبعد عقود من الشلل والانهيار، تعيد مؤسسات بيروت تثبيت أقدامها تدريجيا، وتتراخي قبضة "حزب الله"، فيما يتقلص نفوذ إيران بشكل حاد.

بعد عامين على هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، يقف الشرق الأوسط على مفترق طرق حاسم. فقد انهار النظام القديم، بينما لم يتبلور النظام الجديد بعد

وبفضل الدعم الدولي القوي، يحظى لبنان بفرصة نادرة لاستعادة سيادته، وإصلاح نظامه المالي والمصرفي المتداعي، وإحياء نموذج التعددية والازدهار الذي جعله ذات يوم مركزا مشعا في الإقليم. ورغم أن مسيرة التعافي ما تزال هشة، لا سيما في ظل قدرة "حزب الله" على عرقلة التقدم، وتباطؤ إسرائيل في تنفيذ التزامات وقف إطلاق النار، فإن الزخم العام يميل نحو تعزيز الدولة وترسيخ مؤسساتها.

سوريا: انتقال هش

في المقابل، تبدو المرحلة الانتقالية في سوريا ضبابية بالقدر ذاته. فقد تعهّد الرئيس أحمد الشرع ببناء دولة جامعة، تسعى إلى إعادة دمج سوريا في العالم العربي. غير أن رد حكومته العنيف على المعارضة في المنطقة الساحلية العلوية وفي السويداء أثار تساؤلات حول صدقية هذا التوجه. كما أن جمود المفاوضات مع "قوات سوريا الديمقراطية" التي يسيطر عليها الأكراد يعكس حالة انعدام الثقة بين المكونات السورية المختلفة.

مع ذلك، يواصل الرئيس الشرع الدفع برؤيته لإعادة بناء دولة سورية قابلة للحياة، تشمل جميع الأطياف وتسعى إلى استعادة مكانتها في الإقليم وعلى الساحة الدولية بعد عقود من العزلة والتصادم. ويحظى في هذا المسار بدعم إقليمي ودولي واسع. وكما في الحالة اللبنانية، فإن قيام دولة فاعلة واقتصاد مزدهر لا يلبي فقط تطلعات السوريين واحتياجاتهم العاجلة، بل يمكن أن يسهم أيضا في إرساء دعائم الاستقرار على مستوى المنطقة بأسرها.

نظام إقليمي جديد أم فوضى شاملة

بعد عامين على هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، يقف الشرق الأوسط على مفترق طرق حاسم. فقد انهار النظام القديم، بينما لم يتبلور النظام الجديد بعد. تمتلك إسرائيل قوة عسكرية غير مسبوقة، فيما تجد إيران نفسها في موقع دفاعي، وتبحث دول الخليج والولايات المتحدة عن إطار للاستقرار، بينما تشهد الساحات المحلية، من بيروت إلى دمشق، موجات من الحراك والاضطراب.

على صانعي السياسات أن يغتنموا هذه اللحظة بدل انتظار الصدمة المقبلة. إذ توجد فرصة حقيقية لصياغة استراتيجية إقليمية جريئة

ويُطرح في هذا السياق سؤال محوري: هل ستُوظَّف هذه التحولات في بناء هيكل إقليمي جديد قائم على الأمن والدبلوماسية والتكامل الاقتصادي؟ أم إن المنطقة ستنزلق نحو جولة جديدة من المواجهة، توسّع دائرة الحروب وتعمّق حالة عدم الاستقرار؟

إنها لحظة فارقة يمر بها الشرق الأوسط، تختزن في طياتها مزيجا من الخطر والفرص. ولا تزال الفرصة متاحة أمام الأطراف الفاعلة في الإقليم، ومعها الولايات المتحدة، لتحويل مسار الصراعات الراهنة نحو استقرار دائم وبناء نظام إقليمي قادر على تحقيق الرخاء للجميع. فإما أن يُحتضن هذا المسار، أو يستمر التخبط من أزمة إلى أخرى، حتى يُعيد الانفجار التالي رسم خريطة المنطقة من جديد.

وينبغي على صانعي السياسات أن يغتنموا هذه اللحظة بدل انتظار الصدمة المقبلة. إذ توجد فرصة حقيقية لصياغة استراتيجية إقليمية جريئة تربط بين مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، والتقدم نحو حل للقضية الإسرائيلية-الفلسطينية، والتطبيع العربي الإسرائيلي، والتوصل إلى تسوية دبلوماسية مع إيران، إلى جانب إرساء إطار أمني واقتصادي أوسع. لكن النافذة آخذة في الانغلاق بسرعة، وثمن التقاعس سيكون باهظا، يُدفع من خلال مزيد من الأرواح المهدرة والسنوات المفقودة.

font change

مقالات ذات صلة