هل رفع "حزب الله" الغطاء عن إمبراطورية الكبتاغون في لبنان؟

تفكيك معامل ضخمة وضبط ملايين الحبوب المعدة للتهريب

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
عامل يقف وسط حقول نباتات "القنب " المخدرة، في قرية اليمونة في سهل البقاع شرق لبنان، في 23 يوليو 2018

هل رفع "حزب الله" الغطاء عن إمبراطورية الكبتاغون في لبنان؟

بيروت- شهد لبنان في الأسابيع الأخيرة تحوّلا نوعيا في أداء الدولة حيال ملف المخدرات الذي لطالما أثار انتقادات عربية ودولية واسعة، بعدما تحوّلت حدود البلاد ومرافقها إلى منصة لإنتاج وتهريب حبوب "الكبتاغون". ومع كل شحنة مضبوطة في ميناء أو مطار، كانت سمعت لبنان تتآكل، فعلى مدار سنوات، أُغرِقت أنحاء الشرق الأوسط، لا سيما دول الخليج العربي، بـ"كوكايين الفقراء"، وضُبِطَت شحنات متتالية من هذا العقار في السعودية والكويت والأردن ومصر قادمة من لبنان وسوريا اللذين أصبحا البلدين الأبرز في تصنيع وتصدير هذه الحبوب بالمنطقة.

من حشيشة الكيف إلى "إمبراطورية الكبتاغون"

منذ أكثر من نصف قرن، ارتبط اسم البقاع شرق لبنان، الممتد من منطقة بعلبك إلى الهرمل بزراعة حشيشة الكيف والأفيون، كجزءٍ من اقتصاد تغذّيه هشاشة الدولة والفقر المزمن في القرى. ورغم ادعاء الدولة محاربة هذه الزراعة عبر إتلاف المحاصيل بين فترة وأخرى، فإن سياسة التغاضي كانت سائدة في تلك المرحلة نظرا لغياب الإنماء عن تلك المناطق وتأمين البدائل للمزارعين. لكن ما كان تجارة محلية الطابع تحوّل، مع اندلاع الحرب السورية عام 2011، إلى صناعة إقليمية ضخمة: صناعة الكبتاغون، حبوب بيضاء صغيرة رخيصة وعالية الربحية. تكاليف إنتاج الحبة لا تتجاوز دولارا واحدا، بينما تباع في أسواق عربية بعشرين ضعفا. ومع ارتفاع وتيرة التهريب وسيطرة "حزب الله" على الحدود الشرقية بين لبنان وسوريا فتح الباب أمام شبكات تهريب متداخلة، تضمّ عائلات وعشائر محلية، مهرّبين محترفين، وأطرافا عسكرية وسياسية استفادت من هذه "الإمبراطورية".

بعد 9 أشهر من سقوط النظام لا تزال السلطات السورية الجديدة تعلن عن ضبط عشرات المصانع وملايين الحبات المخدرة ليس فقط في سوريا إنما أيضا في لبنان

فبحسب تقارير دولية وجّهت الاتهامات بشكل مباشر لـ"حزب الله" والنظام السوري السابق بتأسيس مصانع لإنتاج الكبتاغون في المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا، تحت إشراف ضباط من "الفرقة الرابعة" في جيش النظام السابق التي كان يقودها ماهر شقيق بشار الأسد وكوادر من "حزب الله". إذ شكّلت هذه الصناعة رافعة للنظام الذي وقع تحت الحصار الدولي ليصبح تهريب المخدرات شريانا للحياة يدرّ مئات الملايين من الدولارات سنويا (مليارات الدولارات في بعض التقديرات)، ويوفر تمويلا للأسلحة والمقاتلين للحرب التي استمرت أكثر من 14 عاما.

لكن بعد ساعات فقط من سقوط نظام الأسد، تمكنت العناصر المسلحة في سوريا من الكشف عن معامل ضخمة لتصنيع الكبتاغون في عدة مناطق سورية، أبرزها في ريف دمشق ومنطقة القصير والبلدات القريبة من الحدود مع لبنان.

أ.ف.ب
أفراد من قوات الأمن التابعة للسلطات السورية الجديدة يُفرّغون أكياسا من الكبتاغون في حقل لإحراقها قرب مكتب أمن الفرقة الرابعة على مشارف دمشق في 19 يناير 2025

وبعدها كرّت السبحة. فبعد 9 أشهر من سقوط النظام لا تزال السلطات السورية الجديدة تعلن عن ضبط عشرات المصانع وملايين الحبات المخدرة ليس فقط في سوريا إنما أيضا في لبنان، الذي عمل في الأشهر الأخيرة على تطوير المراقبة على الحدود، وعزّز الرقابة الجمركية عبر ماكينات سكانر حديثة في المرافئ. إضافة إلى تتبّع شبكات التهريب ومسارات التمويل، وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع دول عربية مما انعكس على سرعة عمليات الدهم ونجاحها، ليصبح هذا الملف "أولوية وطنية" بحسب مسؤولين.

في هذا السياق، قال النائب السابق في البرلمان اللبناني العميد وهبي قاطيشا لـ"المجلة": "إن الحكومة اللبنانية بعكس ما حصل في سوريا، تأخرت في اتخاذ قرار القضاء على إمبراطورية الكبتاغون في لبنان، لذلك على الحكومة أن تحسم أمرها، لأن (حزب الله) كشف عن أنيابه وأعلن أنه لن يتخلى عن سلاحه وهذا يعني أنه لن يتخلى عن كل الموبقات المرتبطة بهذا السلاح، لذلك على الدولة العمل بقوة لفرض سيطرتها على كافة الأراضي اللبنانية، لأن هذه الفرصة لن تتكرر، ولأن أغلبية الشعب اللبناني ودول المنطقة باستثناء إيران كلها تدعم مسار فرض سيطرة نفوذها على كامل أراضيها وحصر السلاح الذي يرفض (حزب الله) تسليمه ليس لمواجهة إسرائيل بل لاستمرار فرض قوته وسيطرته في لبنان".

تفكيك معامل ضخمة

يبدو أنّ لبنان اتخذ القرار الحاسم في محاربة هذه "الإمبراطورية" التي كانت تتمتع سابقا بنوع من الحصانة التي وصلت إلى خروج كبار تجار المخدرات بمقابلات متلفزة ومقاطع مصورة، أبرزهم نوح زعيتر الذي حاول تبييض صورته وأعلن مرارا ولاءه لـ"حزب الله"، هذه الإمبراطورية التي بنيت على مرّ سنوات باتت اليوم تحت مجهر الدولة، حيث داهم الجيش اللبناني في سبتمبر/أيلول 2025 واحدا من أكبر المعامل المكتشفة حتى الآن في بلدة بوداي–بعلبك، وصادر 64 مليون حبة كبتاغون و79 برميلا من المواد الكيميائية، إضافة إلى آلات ضغط وتغليف. وفي اليمونة–بعلبك، تمكّنت قوة مشتركة في يوليو/تموز 2025 من تفكيك معمل ضخم يضمّ معدات تزن قرابة عشرة أطنان، مع نفق سرّي بطول 300 متر يُستخدم للتخزين والتنقّل بعيدا عن أعين القوى الأمنية.

وفي الهرمل، كشف الجيش في يونيو/حزيران 2025 عن مختبرات صغيرة لتصنيع الكبتاغون في منطقة حرف السماقة قرب الحدود السورية، حيث تم تدمير المعدات ومواد أولية معدّة للإنتاج. هذه العمليات المتكررة أظهرت أن المعامل ليست فردية أو منعزلة، بل جزء من شبكة متكاملة ترتبط بمسارات تهريب أوسع نحو الخليج وأوروبا، عبر طرق برية (الأردن وتركيا) وموانئ سورية (اللاذقية وطرطوس).

"حزب الله" الذي كان شريكا في إمبراطورية تجارة الكبتاغون "لم يعد يستطيع الدفاع عنها، في السابق كانت قوته تستطيع غطاء هذه المنظومة أما الآن فإن هذه القوة غير موجودة

وفي 6 أغسطس/آب، نفذ الجيش عملية نوعية في حي الشراونة ببعلبك، استخدم فيها الطائرات المسيّرة لضرب أهداف محددة، في سابقة نوعية. العملية انتهت بمقتل "أبو سلة" واثنين من مرافقيه أثناء محاولتهم الفرار بسيارة رباعية الدفع، بعد تبادل كثيف لإطلاق النار. بيان الجيش أكد أن المطلوبين ضالعون في جرائم قتل جنود وخطف مواطن سعودي في عام 2023، إضافة إلى مئات قضايا المخدرات.

فيما تجددت مداهمات الجيش للمطلوبين في حي الشراونة قبل أيام، وما زالت الاشتباكات مستمرة بين الجيش ومطلوبين.

ضغط دولي أم رفع غطاء حزبي؟

لا يمكن فصل تحركات الدولة مؤخرا عن الضغوط الدولية التي يتعرض لها لبنان لتنفيذ مسار بسط سلطة الدولة  على كافة أراضيها، فكما كان ملف نزع سلاح "حزب الله" من أبرز القضايا التي ذكرت في ورقة توم باراك المبعوث الأميركي إلى سوريا، كذلك من بين البنود التي طرحت ملف الإتجار بالمخدرات الذي يشكل تحدّيا كبيرا لاستقرار لبنان، وتعافيه الاقتصادي، وسمعته الإقليمية. وبحسب ورقة باراك تم تحديد عدد من الأهداف التي يجب على الدولة تنفيذها لإنهاء هذا الملف وهي تحديد سلاسل الإمداد الخاصة بتهريب المخدرات عبر الأراضي اللبنانية وتعطيلها بشكل فعّال، وتعزيز قدرات الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي على تنفيذ عمليات المداهمة والمصادرة. وتحسين آليات التنسيق الحدودي مع السلطات السورية، تحت رقابة دولية. وإنشاء إطار متعدد الأطراف للرقابة على المخدرات بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج والأمم المتحدة. ولكن هل رفع الغطاء عن هذه التجارة التي كانت تدر ملايين الدولارات على التجار والمهربين والمستفيدين؟

أ.ف.ب
جندي لبناني على برج مراقبة في منطقة وادي خالد في لبنان، عند الحدود اللبنانية - السورية شمال لبنان في 5 أكتوبر 2023

في هذا الإطار رأى قاطيشا أن "حزب الله" الذي كان شريكا في هذه الإمبراطورية "لم يعد يستطيع الدفاع عنها، في السابق كانت قوته تستطيع غطاء هذه المنظومة أما الآن فإن هذه القوة غير موجودة، خصوصا أن الدولة اتخذت القرار بفرض سيطرتها على كافة الأراضي اللبنانية، كذلك حصر سلاح (الحزب)، ومحاربة الكبتاغون والتهريب وتبييض الأموال، في البداية كان (الحزب) يغطي هذه العمليات بسبب فائض القوة الذي كان يتمتع به، أما الآن فلا يستطيع مواجهة الدولة والجيش لأنه سيؤكد الادعاءات التي كان ينفيها دائما بأنه شريك في هذه التجارة أو على الأقل أمن لهم الغطاء الأمني لتطوير هذه الصناعة بحرية".

وأضاف: "ربما قرر (حزب الله) التخلي عن هذه الشبكة المتشعبة لأنه لم يعد يستطع تغطيتها بعد الآن، فالمعامل في سوريا تم تفكيكها مع سقوط النظام، أيضا المعامل في لبنان أصبحت مكشوفة، والتهريب لم يعد بالسهولة التي كانت تتم في السابق حتى لو كان الإنتاج مستمر لأن الدولة تسللت إلى المرافق العامة وفرضت نفوذها، حتى لو لم تصل إلى نسبة 100 في المئة لمنع التهريب، إلا أن السهولة في التهريب التي كانت سابقا لم تعد موجودة اليوم، كل هذه الأمور قد تؤدي إلى رفع الغطاء عن هذه التجارة".

من جهته، رأى الباحث في معهد كارنيغي للشرق الأوسط مهند الحاج علي أن "هذه الحملة على تجارة الكبتاغون يمكن اعتبارها ضمن إطار الضغوط الدولية فالدولة اللبنانية اليوم تتعرض لضغط جدي في مسألة سحب السلاح، ولكن في الواقع الدولة حتى الآن لم تقم بأي خطوات عملية في هذه المسألة، ويبدو أنّها ذهبت لتحقيق (إنجازات) أو تقدّم في قضايا أخرى، لذلك نرى هذه الحملة على شبكة الكبتاغون، ولكن تقديري هذه المرحلة مؤقتة، خصوصا أنها ليست تجارة صغيرة بل هي تجارة كبيرة ضمن بقعة جغرافية واسعة بالجانب اللبناني والجانب السوري،  وبسبب الظروف الاقتصادية والإنمائية السيئة لهذه المناطق ومع عدم وجود أي بدائل لأبناء هذه المناطق فهم لن يتخلو عن هذه التجارة".

يبدو أن تجارة الكبتاغون التي تعتمد على شبكات متشعبة ومنظمة تستمر في نشاطها رغم الحملة الكبيرة في لبنان وسوريا ضدّ تجار المخدرات

وأضاف الحاج علي لـ"المجلة": "الأساس في شبكة الكبتاغون هو التهريب والقدرة على نقل الحبوب إلى الشاري لتحقيق الأرباح. وبعد سقوط النظام السوري اختلف الوضع لجهة أن النظام كان منتجا أساسيا لهذه المادة وكان (حزب الله) جزءا من هذه الشبكة لجهة تسهيل نقل المواد، أو من خلال غض النظر عن انتشارها في مناطقه، أو من خلال مشاركة بعض من عناصره لتنظيم الآلية، هذا كله شاهدناه خلال فترة النظام. ولكن اليوم أيضا شهدنا ضبط شحنات كبيرة في مناطق الشمال اللبناني وهي مناطق خارج سيطرة نفوذ (حزب الله)، وهذا ما يؤكد أنه رغم أن مصادر تصنيع الكبتاغون مركزها الأساسي الفرقة الرابعة ولكن هناك أيضا انتشار لإنتاجها في لبنان وسوريا مثل مناطق الجنوب والسويداء".

وتابع: "التهريب ما زال قائما رغم أنه خفت بعد سقوط النظام، السقوط هو جزء من حلقة أساسية من موضوع الإنتاج، ولكن الطلب العالي على هذه الحبوب المخدرة سيؤدي حتما إلى تعافي العرض في بلدين لا يزالان يعانيان من انهيار اقتصادي مقابل مساعدات ضعيفة نسبيا، لذلك السؤال ورغم الحملة الكبيرة على تجارة وإنتاج الكبتاغون هو لأي مدى تستطيع هذه الدول الحفاظ على هذه الوتيرة في ظل الصعوبات الاقتصادية من دون تقديم دعم حقيقي؟".

أ.ف.ب
أكياس حبوب الكبتاغون المصادرة في مركز الشرطة القضائية في بلدة كفرشيما جنوب العاصمة اللبنانية بيروت

وختم: "تجارة الكبتاغون مسألة أبعد من (حزب الله) وأبعد من قدرة (حزب الله) على السيطرة عليها، وحتى لو قرر (الحزب) إقامة حملات بمناطقه لمحاربة هذه التجارة فإن خرجت عن سيطرته، لن يتمكن من إيقافها، لأن (الحزب) أصبح شديد الضعف لم يعد يستطع المواجهة عسكريا، ولديه مشاكله المادية داخل بيئته ومع ناسه".

إذن يبدو أن هذه التجارة التي تعتمد على شبكات متشعبة ومنظمة تستمر في نشاطها رغم الحملة الكبيرة في لبنان وسوريا ضدّ تجار المخدرات فإن استمرار ضبط ملايين الحبوب المعدة للتهريب، يعني أن مسار محاربة هذه الآفة طويل جدا، خصوصا أن تجار المخدرات لن يتوانوا عن نسج علاقات جديدة ليتمكنوا من مواصلة التصنيع والتهريب، وعدم التخلي عن التجارة التي أدرّت عليهم ملايين الدولارات، لذا فإن مسار إسقاط هذه الإمبراطورية سيكون رهينة ثبات ودعم الحكومتين في لبنان وسوريا.

font change