"اقتصاد المخدرات" يؤجج التوتر جنوب سوريا

المشهد في محافظتي درعا والسويداء بعد أشهر من سقوط الأسد

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مقاتلون تابعون لـ"هيئة تحرير الشام" السورية يعرضون مخدراتٍ ضبطت سابقا عند نقطة تفتيش يسيطرون عليها في دارة عزة، بريف حلب الشمالي الغربي، في 10 أبريل 2022

"اقتصاد المخدرات" يؤجج التوتر جنوب سوريا

شكل جنوب سوريا، الذي يُعد ملتقى لطرق التجارة والهجرة، معبرا استراتيجيا ومركزا حيويا لتهريب السلع غير المشروعة، بما في ذلك الأسلحة والسجائر والوقود والمواد الغذائية والآثار. وقد تحولت محافظتا درعا والسويداء في السنوات الأخيرة إلى مركزين رئيسين لتهريب المخدرات، مثل الميثامفيتامين الكريستالي والكبتاغون، خصوصا بعدما بات الأردن معبرا رئيسا لهذه المنشطات الشبيهة بالأمفيتامين.

وتوقع البعض أن يؤدي سقوط الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 إلى انهيار شبه كامل لتجارة المخدرات في سوريا، نظرا لاحتكار النظام السابق إنتاج هذه المواد والإتجار بها. غير أن ما حدث كان عكس ذلك، إذ تطورت هذه التجارة في سوريا ما بعد الأسد، حيث تتنافس فلول النظام وجهات خارجية متحالفة على ملء الفراغ الذي خلفته الفرقة المدرعة الرابعة التابعة للنظام السابق.

وفيما تسعى الإدارة الجديدة لإعادة بناء البلاد، برزت بؤر توتر عديدة في الجنوب، وتحديدا في درعا والسويداء. وعلى الرغم من توصيف الكثير من الحوادث العنيفة هناك بأنها صراعات طائفية، فإن عامل التنافس على السيطرة على طرق التهريب غير المشروع يلعب دورا محوريا في تأجيجها.

الدور التاريخي للجنوب كمركز للتهريب عبر الحدود

أسهم الموقع الجغرافي للجنوب السوري في جعله ممرا طبيعيا للتهريب. فالمنطقة، التي يحدها الأردن من الجنوب ولبنان من الغرب، تضم صحراء شاسعة وتضاريس جبلية ومعابر حدودية تخضع لرقابة ضعيفة. وقد أدت الفوضى الناتجة عن الحرب إلى تفتت سيطرة الدولة، مما سمح للمهربين والجماعات المسلحة والميليشيات المحلية بترسيخ وجودهم في الاقتصادات غير المشروعة.

بعد سقوط الأسد، تصاعدت التوترات بين ثلاث قوى محلية رئيسة منخرطة في المشهد غير المشروع في سوريا: الميليشيات الدرزية المحلية، والجماعات القبلية البدوية، والشبكات المرتبطة بالنظام السابق وحلفائه

وتؤدي الظروف الجوية في الحدود الجنوبية السورية مع لبنان والأردن والعراق دورا ملائما بشكل خاص لأنشطة التهريب. فالأجواء الصحراوية المغبرة ودرجات الحرارة المرتفعة في الصيف تُصعب مهام الرصد التي تنفذها قوات أمن الحدود، بينما تُقيد الثلوج والأمطار المختلطة بالثلج خلال الشتاء قدرة عناصر الحدود على اكتشاف عمليات التهريب واعتراضها. وهذا ما دفع الدول المجاورة إلى السعي للحصول على تمويل خارجي وتدريب إضافي لفرق مراقبة الحدود، أو- في بعض الأحيان- إلى استمالة جهات محلية فاعلة من ميليشيات وقبائل وعائلات نافذة لتولي مهام المراقبة في ظل غياب القوات الرسمية.

وعلى الرغم من أن الجنوب السوري كان تاريخيا نقطة نشطة للتهريب، فإنه لم يشهد تصاعدا كبيرا في الحوادث العنيفة المرتبطة به إلا مؤخرا. فمنذ عام 2021، اتخذت عمليات التهريب المنطلقة من جنوب سوريا طابعا مسلحا وعنيفا على نحو متزايد. ولم تقتصر تقارير الدول المجاورة على زيادة في كميات المصادرات، بل شملت أيضا تصاعدا في الاشتباكات مع المهربين، الذين كثيرا ما كانوا مجهزين بأسلحة متطورة وتقنيات مثل الطائرات المسيرة والبالونات الموجهة بنظام تحديد المواقع، بل وحتى قوافل مدرعة محمية بمسلحين.

أ.ف.ب
عناصر من قوات الأمن في مصنع للمخدرات في مدينة دوما بالغوطة الشرقية على المشارف الشرقية لدمشق، 12 ديسمبر 2024

برز هذا النمط بوضوح في عهد بشار الأسد، عندما تحركت الفرقة المدرعة الرابعة و"حزب الله" والميليشيات المرتبطة بإيران جنوبا لاستقطاب العصابات الإجرامية المحلية والعائلات النافذة المنخرطة في التهريب، وتسليحها ودعمها عبر الحدود. وقد أشارت الأدلة إلى قيام النظام بإنشاء مصانع صغيرة في الجنوب داخل مقار الميليشيات، كما في حالة مداهمة مقر ميليشيا راجي فلحوط، حيث اكتُشف مصنع صغير لإنتاج الكبتاغون. كما حاول النظام أحيانا اللعب على كلا الجانبين، متغاضيا عن أنشطة التهريب مقابل ضمان ولاء بعض العشائر، بينما تسامح مع الميليشيات الدرزية طالما لم تتحدَ دمشق بشكل مباشر.

ومع سقوط النظام، استمرت الحوادث العنيفة بين جماعات التهريب المتنافسة. بعضها فر إلى خارج البلاد وبعضها بقي يسعى إلى ملء الفراغ الأمني والاستفادة من ارتفاع أسعار المخدرات في ظل الطلب المستقر.

المنافسة بعد النظام

على مدى أجيال، أدارت الميليشيات المحلية والشبكات القبلية، وخصوصا في السويداء ودرعا، طرق التهريب وسهلت نقل البضائع غير المشروعة، بدءا من المواد الغذائية والأدوية وصولا إلى المخدرات والوقود والحيوانات البرية والآثار. وقد عملت هذه الجهات أحيانا بشكل مستقل، وأحيانا أخرى بالتعاون مع شبكات إقليمية أكبر أو مع عصابات مرتبطة بالدولة مثل شبكة الكبتاغون التابعة لنظام الأسد.

وتشير التقارير إلى أن عناصر من الجيش السوري وأجهزة الأمن كانت متورطة مباشرة، أو على الأقل متواطئة وتغض الطرف مقابل مكاسب مالية. فقد تورطت وحدات من الفرقة الرابعة المدرعة، بقيادة شقيق الرئيس السابق ماهر الأسد، وأجهزة المخابرات التابعة للنظام بشكل متكرر في أنشطة التهريب، وسعت إلى استقطاب العائلات والقبائل المحلية لتيسير نقل المخدرات خارج البلاد. كما سهل حلفاء النظام، وعلى رأسهم "حزب الله" والجماعات المرتبطة بإيران، هذه الأنشطة، لا سيما عندما تداخلت مع طرقهم الاستراتيجية بين لبنان وسوريا.

وبعد سقوط النظام وانهيار الروابط مع الشبكات الموالية لإيران، تصاعدت التوترات بين ثلاث قوى محلية رئيسة منخرطة في المشهد غير المشروع في سوريا: الميليشيات الدرزية المحلية، والجماعات القبلية البدوية، والشبكات المرتبطة بالنظام السابق وحلفائه.

تصاعدت التوترات بين الميليشيات الدرزية وجماعات التهريب المرتبطة بالبدو، لتتحول في بعض الأحيان إلى صراع مفتوح، لا سيما عندما يلجأ المهربون إلى العنف أو يستهدفون المدنيين

وقد تجلت هذه التوترات داخل الأراضي السورية، وخصوصا في الجنوب. ففي محافظة السويداء، يتمتع الشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي الأبرز للطائفة الدرزية، بنفوذ واسع من خلال شبكة غير رسمية من الفصائل المسلحة المحلية التي تخضع لإشراف "مجلس السويداء العسكري" التابع له. وتُعرف هذه الميليشيات باسم "قوات الدفاع المحلية"، وقد اضطلعت تدريجيا بدور أجهزة الأمن غير الرسمية في ظل غياب فعلي لسلطة الدولة.

وخلال عهد الأسد، اشتبكت هذه الجماعات مع شبكات التهريب في محاولة لحماية الحكم الذاتي الطائفي ومنع تسلل تجار المخدرات المدعومين من الدولة. ومع ذلك، تورط الكثير من عناصر هذه الميليشيات في تهريب المخدرات. ففي مارس/آذار 2025 قُتل أحد المقاتلين الدروز، المعروف باسم الشويعر، في بلدة صلخد خلال عملية تهريب مفترضة، وقد ارتبط اسمه بشبكة الكبتاغون التابعة للنظام.

وفي العام نفسه، أفادت التقارير أن تجار ماشية دروزا تعاونوا مع بدو البلعاس، المقيمين في مزرعة ريفية بجنوب سوريا، في تهريب المخدرات والأسلحة. كما بقيت عائلة مزهر، المتحالفة مع النظام والناشطة في شبكات التهريب، فاعلة بعد سقوط الأسد، مستمرة في التنافس مع ميليشيا "شيخ الكرامة" ذات النفوذ، والتي سبق أن اختطفت عدة مهربين خلال فترة حكم النظام السابق، من أبرزهم راجي فلحوط. إلا أن تقارير عدة أفادت بانخراط هذه الميليشيا أيضا في أنشطة تهريب، حيث تسعى إلى فرض سيطرتها على الطرق الحيوية لنقل المخدرات.

وفي المقابل، تورطت بعض القبائل البدوية في ريف السويداء الجنوبي والشرقي، خصوصا تلك القريبة من مناطق البادية في اللجاة والحدود السورية-الأردنية، في عمليات تهريب المخدرات عبر الطرق القبلية الممتدة بين درعا والأردن. ورغم أن هذه الأنشطة لا تشمل جميع الجماعات البدوية، فقد استغلت شبكات التهريب البنية التحتية اللوجستية التقليدية، من وسائل النقل المحلية إلى المعرفة الدقيقة بالطرق والتضاريس، بالإضافة إلى شبكات الثقة القبلية. كما ساهم التهميش التاريخي للبدو في جعلهم هدفا سهلا للتجنيد ضمن هذه العمليات المربحة.

واستفاد الكثير من الجماعات البدوية من الروابط العائلية الممتدة خارج سوريا، لا سيما إلى الأردن، ما مكنها من فرض سيطرتها على الكثير من المسارات الحيوية بين الجنوب السوري والأراضي الأردنية. وإلى جانب العشائر والشبكات النشطة مثل جماعة البلعاس، برزت عائلة الرمثان كلاعب محوري في تهريب المخدرات، حيث تعرضت لضربات متكررة نفذتها الدول المجاورة، وعلى رأسها الأردن، بهدف استهداف مواقعها ونقاط تجمعها. وقد قُتل مرعي الرمثان، أحد أبرز أفراد العشيرة، في غارة جوية أردنية في مايو/أيار 2023، إلى جانب أفراد من عائلته في مجمع اشتُبه في استخدامه كنقطة انطلاق للتهريب. ويُعتقد أنه، بمساعدة قريبه الشيخ محمد عوض الرمثان، جند مئات المهربين من البدو في جنوب سوريا.

وتصاعدت التوترات بين الميليشيات الدرزية وجماعات التهريب المرتبطة بالبدو، لتتحول في بعض الأحيان إلى صراع مفتوح، لا سيما عندما يلجأ المهربون إلى العنف أو يستهدفون المدنيين. وشهدت السويداء تصاعدا في عمليات الخطف والكمائن على الطرق والغارات الانتقامية، في مؤشرات واضحة على تعمق الفراغ الأمني وتفكك البنية المجتمعية. وفي 11 يوليو/تموز 2025، أشعلت عملية سطو على طريق دمشق–السويداء السريع صراعا مسلحا على خلفية التنافس على الطرق، سرعان ما تطور إلى عنف طائفي واسع بين الدروز والبدو والمجتمعات السنية.

على الإدارة الجديدة وشركائها الدوليين أن يدركوا الدور المحوري الذي يلعبه الفاعلون غير الشرعيين- وفي مقدمتهم مهربو المخدرات- في بعض من أكبر الحوادث العنيفة التي شهدتها سوريا بعد سقوط الأسد

ويعد تهريب المخدرات في جنوب سوريا نتاجا قاتما للحرب، والفساد، والإهمال الدولي. ومع استمرار تحول اقتصاد الحرب وتجاوزه نموذج "دولة المخدرات" الذي رسخه نظام الأسد، تتفاقم تداعياته العميقة على سوريا وجيرانها. ولا يمكن احتواء هذه المعضلة عبر ضبط الحدود وحده، بل يتطلب الأمر إرادة سياسية راسخة، وتنسيقا إقليميا فعالا، واستراتيجية طويلة الأمد لإعادة بناء منظومة الحكم، وخلق فرص اقتصادية، وترسيخ سيادة القانون في الجنوب السوري.

وفي مائدة مستديرة استضافها مؤخرا معهد "نيو لاينز" بالتعاون مع "المنتدى السوري" ومنظمة "ميدغلوبال" في دمشق، أقر مسؤولون من وزارة الداخلية في الإدارة الجديدة بأن جنوب سوريا يشكل إحدى الجبهات الأخيرة في المعركة ضد تجارة المخدرات غير المشروعة، وعلى رأسها الكبتاغون. غير أن استمرار التوترات الطائفية، ومخاطر اندلاع اشتباكات عنيفة، يجعل هذه المنطقة في الوقت الراهن خارج نطاق قدرة وزارة الداخلية وإدارة مكافحة المخدرات على التدخل الميداني الفعال، ما يعيق إحراز أي تقدم جوهري في مواجهة شبكات الجريمة المحلية.

أ.ف.ب
جولة نظمها الجيش الأردني على طول الحدود مع سوريا لمنع التهريب، في 17 فبراير 2022

وقد خلف تصاعد نشاط التهريب أثرا مدمرا على المجتمعات المحلية. ففي السويداء، أدى انتشار المخدرات، وتغلغل الشبكات الإجرامية، وتكرار الاشتباكات المسلحة، إلى موجة غضب واسعة، ترجمت إلى احتجاجات نظمها مدنيون، ولا سيما الموالون للقيادة الدينية الدرزية، مطالبين بحوكمة محلية أكثر فاعلية. وفي درعا، حيث لا تزال مقاومة السيطرة الحكومية قائمة، يعاني الاقتصاد من الانهيار، وتتفاقم البطالة بين الشباب، ما جعل تجارة المخدرات، على الرغم من مخاطرها البالغة، مصدر الدخل الوحيد لكثيرين. وفي المقابل، كثيرا ما تؤدي عمليات مكافحة التهريب التي تنفذها القوات الأردنية أو الجماعات المنافسة إلى تبادل لإطلاق النار عبر الحدود أو إلى أعمال عنف انتقامية.

وعلى الإدارة الجديدة وشركائها الدوليين أن يدركوا الدور المحوري الذي يلعبه الفاعلون غير الشرعيين- وفي مقدمتهم مهربو المخدرات- في بعض من أكبر الحوادث العنيفة التي شهدتها سوريا بعد سقوط الأسد. ويتعين عليهم العمل على تحديد المحركات الأساسية للجريمة في مناطق مثل السويداء ودرعا، بما في ذلك غياب مصادر الدخل، والبطالة، وانعدام الأمن الغذائي، مع تنفيذ تدخلات موجهة للمجتمعات الدرزية والبدوية المتضررة من هذه الظاهرة. إن معالجة الجذور العميقة لهذه الأنشطة غير المشروعة يمكن أن تسهم في تخفيف التوترات والتنافسات المحلية التي قد تشعل شرارة عنف طائفي واسع النطاق، وتضع أساسا متينا لسلام مجتمعي مستدام في جنوب سوريا.

font change

مقالات ذات صلة