نحو خطة هيكلية للدفع بالتنمية في سوريا

الدولة التي تتمتع بسياسة مالية ونقدية منظمة ومنضبطة لا يمكنها أن تفلس أو تتعثر

.إ.ب.أ
.إ.ب.أ
البنك المركزي السوري وسط العاصمة دمشق، 14 مايو 2025

نحو خطة هيكلية للدفع بالتنمية في سوريا

حققت الدولة السورية الجديدة إنجازات عملية، أهمها أن الشعب السوري تنفس الحرية الكاملة في القول والتعبير والانتقاد، وظهر ذلك جليا في الفرحة العارمة التي عاشها ويعيشها، وشعر السوريون للمرة الأولى منذ أكثر من سبعة عقود، بهذا المناخ الحر والطمأنينة بعد طول معاناة وعسف وإرهاب واستبداد، إلى درجة العبودية التي كانت قائمة ويخضع لها هذا الشعب بصبر وأناة وعضّ على الجراح، وهذه نعمة يستحقها هذا الشعب، الصابر المحتسب الذي فقد أحباء له قتلا واستباحة وتشريدا، ومحاربة في لقمة العيش إلى حافة الجوع والفقر.

ومن الانجازات أيضا، سرعة الاندماج بالمحيط العربي، وتعزيز العلاقات مع معظم الدول العربية، واستعادة دور سوريا كدولة محورية في المنطقة عبر إعادة العلاقات القومية مع هذه الدول، لا سيما دول الجوار والدول العربية الخليجية، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية التي كان لها دور واضح في ذلك، وكذلك دولة قطر، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، والأردن، ولبنان، وتركيا. وهذا قد حقق المزيد من النجاحات للدولة السورية الجديدة على المستوى العربي، وتوافد الوفود، وإعلان تقديم المساهمة في بناء سوريا وإعادتها إلى دورها الريادي في المنطقة.

على المستوى الدولي، كان للقاء بين الرئيس أحمد الشرع والرئيس دونالد ترمب رئيس الولايات المتحدة أبرز الأثر سياسيا واقتصاديا، ونجحت الدولة في تأمين الاعتراف الأوروبي بها من جميع دولها، وحققت الزيارة الناجحة للرئيس الشرع لفرنسا، وتلقيه دعوات لزيارة بلدان أوروبية أخرى، دورا مهم على الصعيد الدولي.

تقود التوجهات الجديدة نحو بناء أسس استراتيجية لتعزيز الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمات وتحقيق موارد مهمة للموازنة العامة، وتصويب ميزان المدفوعات، وزيادة النمو

ورفعت الولايات المتحدة وأوروبا العقوبات التي كانت مفروضة على سوريا منذ عام 1979 بسبب سلوك النظام السابق، بعدما ساهمت في تدمير الوضع العام في سوريا، وأصبح في استطاعة البنك المركزي والبنوك السورية التعامل بنظام التحويلات المالية الدولية (سويفت)، وهذه كانت معضلة كبرى أمام تدفق الاستثمارات والتحويلات من سوريا واليها، وبقي قانون قيصر الصادر أصلا عن الكونغرس الأميركي وهو في طريقه للحل أيضا بإجماع الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وبهذا تتحرر سوريا من قوانين العقوبات العديدة وتصبح قادرة على التعامل مع العالم الخارجي استيرادا وتصديرا واقتراضا من المؤسسات المالية الدولية.

الاقتصاد أولوية الدولة السورية الجديدة

على المستوى الاقتصادي، وهو الأساس الذي تنطلق منه الأمة والدولة، لكي تبني ولا تهدم، تقود التوجهات الجديدة نحو بناء أسس استراتيجية لتعزيز الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمات وتحقيق موارد مهمة للموازنة العامة، وتصويب ميزان المدفوعات، وزيادة النمو.

يذكر انه خلال احدى عشرة خطة اقتصادية خلال السنوات 1961- 2015، كانت معدلات النمو لا تزيد على 1 في المئة وربما أقل، ونسبة تشغيل العاطلين عن العمل لا تزيد على 2 أو 3 في المئة، فتكدس الآلاف من الخريجين من الجامعات، وطالبي العمل، وامتهنت كرامة الإنسان في التوظيف والعمل واحتكرت الدولة كل شيء حتى أحالت كل فروع الإنتاج إلى هياكل تعج بآلاف العاملين العاطلين عن العمل، ووجدت الحل في 2005 بانسحاب الدولة من كل مسؤولياتها، باختراع ما سمّي آنذاك "اقتصاد السوق الاجتماعي" متشبهة بالصين، وهي أبعد ما تكون عن ذلك، فكرة وتوجها وقيادة.

البرامج وتحديد الأهداف

المهم اليوم، وانطلاقا من التجارب، كان واضحا تماما أمام الإدارة الجديدة للدولة السورية، سواء الحكومة المؤقتة الأولى لثلاثة أشهر، أو الحكومة الانتقالية الحالية، ضرورة إعداد البرامج وتحديد الأهداف لخمس سنوات مقبلة، والدخول في المعالجات المترابطة لكل المسائل، منها الأمنية في المقدمة، والاقتصادية بكل قطاعاتها التي يجب أن تُدرس بعناية ونحو إنجاز ما يلي:

 أن تقوم الحكومة الانتقالية وهي تضم كفاءات علمية في كل الوزارات بوضع خطة شاملة محددة الأهداف والاتجاهات، بتقديم الأهم على المهم، والترابط بين القطاعات الاقتصادية والقطاعات الأخرى، وتشمل خطة استثمارية بالممكن والمهم، تتناول جميع جوانب الحياة في سوريا وأهمها النهوض الاقتصادي وتوفير فرص العمل، وذلك بعد أن تكون قد درست بشكل جيد الوقائع الاقتصادية على مختلف المستويات.

يفترض بقانون الاستثمار الداخلي والأجنبي، الوضوح وتقديم خريطة استثمارية موحدة لكل الوزارات ذات الصلة، بشكل متناسق ومنظم

ويفترض بقانون الاستثمار الداخلي والأجنبي، الوضوح وتقديم خريطة استثمارية موحدة لكل الوزارات ذات الصلة، بشكل متناسق ومنظم.

إن سياسة الترقيع لا تفيد وتعيدنا الى المربع الأول. وقد يتساءل البعض أن هذه الحكومة لا تزال تخطو خطواتها الأولى، والجواب أن خطواتها الأولى يجب أن تكون ضمن برنامج مخطط وشامل، وأن الوقت والأمن في حالتنا كسوريين ليس ترفا نضيعه في التفرّد والابتعاد عن وضع منهجية واضحة لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني بجميع قطاعاته.

يتفق معظم الباحثين في الشأن الاقتصادي وبرامج التنمية وبناء الدولة على أسس من الواقعية وفقا للإمكانات المادية المتوافرة والنهج الاقتصادي على التخطيط الطويل الأمد لتحقيق نمو قوي ومستدام، من خلال ترابط المكونات، على الشكل التالي: الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتحفيزه، التركيز على تقديم الخدمات، تحسين الكفاءة، التركيز على تقويم الخدمات، كفاءة إدارة الدين العام، زيادة الاستثمارات الموجهة للبنية التحتية. وإذا كان هذا المخطط موجزا، فهو يضع العناصر الأساسية للبدء بعملية التنمية المستدامة وفق النهج الاقتصادي المتبع.

.أ.ف.ب
الرئيس السوري أحمد الشرع يلقي كلمة خلال فعاليات الإعلان عن شعار الجمهورية الجديد، دمشق 3 يوليو 2025

وهنا يأتي دور السياستين المالية والنقدية في تحقيق النمو الشامل، لأن السياسة المالية تهدف إلى تحقيق الاستقرار في أسعار الصرف وتنسيق السياسات المصرفية والنقدية والمالية، الفعالة والمتطورة. وتتميز السياسة المالية بجملة خصائص تجعلها أداة فعالة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وهي تأخذ الطابع التوجيهي حيث تهدف الى توجيه الاقتصاد نحو أهداف محددة مثل النمو والعدالة الاجتماعية، وتتميز بالمرونة والتغيير والتكيف مع الظروف الاقتصادية المتغيرة، وتركز على الآثار الاقتصادية الشاملة للإنفاق والإيرادات الحكومية، وتلعب دورا مباشرا في التنمية الاقتصادية.

للسياسة النقدية تأثير مباشر على التضخم حيث يمكنها أن تشكل أداة فعالة في معالجة التضخم، فزيادة المعروض من الكتلة النقدية في الأسواق تؤدي إلى تفاقم مشكلة التضخم

أما السياسة النقدية فلها تأثير مباشر على التضخم حيث يمكنها أن تشكل أداة فعالة في معالجة التضخم، فزيادة المعروض من الكتلة النقدية في الأسواق تؤدي إلى تفاقم مشكلة التضخم.

إن الدولة التي تتمتع بوجود سياسة نقدية منظمة ومنضبطة، لا تفلس أو تتعثر بل يمكنها التوسع بحرية الإنفاق العام طالما يمكنها إعطاء الأمر للبنك المركزي عند اللزوم لتغذية حساباتها بالمبالغ التي تحتاجها لتمويل أعمالها (علما أن البنك المركزي له استقلال تام). وأدوات السياسة المالية الخمس هي:

السلطة، الحوافز، بناء القدرات، الرمزية، التحريضية والتعلم.

تقوم السياسة النقدية والمالية على عمليات السوق المفتوحة والتسهيلات الدائمة، الحد الأدنى للاحتياطات الإلزامية، عمليات إعادة الخصم والقروض.

.أ.ف.ب
متجر صرافة للعملات في العاصمة دمشق، 16 أبريل 2025

ولا شك أن الصناديق السيادية الحكومية، تلعب دورا أساسيا في البناء والتطوير، وتقدّر قيمتها العالمية بأكثر من 14 تريليون دولار وفقا لمؤسسة "غلوبال إس. دبليو. أف." المتخصصة بتتبع هذه الصناديق وتنوع طبيعتها بين صناديق:

- النوع الأول: الاحتياطي المالي، مثل الصندوق السيادي النروجي الذي يقدر بنحو 1,8 تريليون دولار من عائدات النفط والغاز.

وقد وقع الرئيس الأميركي أمرا تنفيذيا في 3 فبراير/شباط 2025 يطلب تأسيس صندوق سيادي أميركي، والهدف من هذا الصندوق غير واضح حتى الآن.

- النوع الثاني: الصناديق القابضة التي تستثمر في أصول مملوكة للدولة مثل شركة "تماسيك" (Temasek) القابضة السنغافورية.

- النوع الثالث: الصناديق الاستثمارية الاستراتيجية التي تهدف إلى جذب الاستثمارات وتعزيز التنمية الاقتصادية، مثل  الصندوق السعودي للاستثمارات.

وأكبر الصناديق السيادية في العالم هي:

1- النروجي 1,8 تريليون دولار

2- شركة إدارة الدولة الصينية للنقد الأجنبي للاستثمار 1,42 تريليون دولار

3- مؤسسة الاستثمار الصيني 1,33 تريليون دولار

4- صندوق الاستثمارات السعودي 1,15 تريليون دولار

5- جهاز أبو ظبي للاستثمار 1,10 تريليون دولار

6- الهيئة العامة للاستثمار الكويتية 1,03 تريليون دولار

إن تأسيس الصندوق السيادي في سوريا تشبهاً بدول الخليج ذات المداخيل النفطية لن يكون ناجحا بسبب نقص التدفقات النقدية والمالية

7- صندوق جي آي سي السنغافوري 847 مليار دولار

8- جهاز قطر للاستثمار 526 مليار دولار

9- مؤسسة دبي للاستثمارات الحكومية 400 مليار دولار

10- شركة مبادلة للاستثمار 330 مليار دولار

المصدر: "غلوبال إس. دبليو. إف." (Global SWF)

وتستخدم هذه الصناديق كاحتياطي مالي لمواجهة الأزمات، وبيع أو رهن الأصول الفيديرالية لإعادة استثمار العائدات في قطاعات جديدة.

أ.ف.ب.
مزارع سوري يحصد حقول القمح في الرقة، شمال شرق سوريا في 23 مايو 2024

وتحمل هذه الصناديق أخطار الفساد وسوء الإدارة، ذلك أن غياب الشفافية يؤدي إلى استغلال الصندوق لمصالح شخصية أو سياسية. أو قد تكون القرارات الاستثمارية غير مدروسة خاصة إذا تم توجيه الأموال لشراء أصول غير مناسبة، أو تم تسيسه.   

إن تأسيس الصندوق السيادي في سوريا تشبهاً بدول الخليج ذات المداخيل النفطية لن يكون ناجحا بسبب نقص التدفقات النقدية والمالية، وعلى قلتها يتم حجبها ضمن الصندوق السيادي، والأجدى توظيفها مباشرة من خلال الأقنية المعتادة، من خلال خطة إعادة الهيكلة الاقتصادية والمالية، بمعنى الاستثمار المباشر وفورا.

font change