باربرا ليف لـ "المجلة": التقاسم الطائفي للسلطة ليس حلا لسوريا

حوار خاص مع مساعدة وزير الخارجية الأميركية السابقة لشؤون الشرق الأدنى

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مساعدة وزير الخارجية الأميريكي السابقة لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، تدلي بشهادتها خلال جلسة استماع أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، 8 نوفمبر 2023

باربرا ليف لـ "المجلة": التقاسم الطائفي للسلطة ليس حلا لسوريا

لندن - تعد باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية السابقة لشؤون الشرق الأدنى في إدارة بايدن، من أبرز المحللين الأميركيين خبرة واحتراما في الشأن الشرق أوسطي ودينامياته المعقدة.

عملت ليف في السلك الدبلوماسي لسنوات طويلة، وشغلت منصب سفيرة الولايات المتحدة لدى دولة الإمارات العربية المتحدة بين عامي 2015 و2018. ومنذ أواخر التسعينات، ظلت حاضرة في صلب السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، إذ تولت ملفات متعددة من بينها ليبيا، والنزاع العربي الإسرائيلي، ومكافحة الإرهاب في المنطقة.

وليس غريبا عليها التعامل مع مناطق النزاعات، إذ عملت بين عامي 2003 و2006 في البوسنة والهرسك في أعقاب حروب يوغوسلافيا، تلك السلسلة من الصراعات العرقية الدامية. ومن 2010 إلى 2013، ساهمت في قيادة السياسة الأميركية وجهود إعادة الإعمار في العراق. في كلا السياقين- البوسني والعراقي- أفضت التوترات الطائفية والعرقية إلى اعتماد أنظمة لتقاسم السلطة.

وانطلاقا من هذه الخبرة التراكمية، حرصت "المجلة" على استقاء وجهة نظرها حيال الوضع الراهن في سوريا في مرحلة ما بعد الأسد، والسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وبرنامج إيران النووي، وإمكانية قيام دولة فلسطينية.

ومن اللافت أنها استبعدت تماما أن يكون تقاسم السلطة على أساس طائفي، كما حدث في لبنان والعراق، نموذجا ملائما لسوريا.

وفيما يلي نص الحوار كاملا:

* هل ترين أن سوريا بحاجة إلى اتفاق لتقاسم السلطة بين السنة والعلويين والأكراد والدروز؟

- لا أرى أن هذا هو الطريق الأمثل، وأقول ذلك انطلاقا من تجربتي في البوسنة بعد الحرب. وقتها كان لدينا دبلوماسي بارع، هو السفير ريتشارد هولبروك، الذي قاد مفاوضات بين زعماء المكونات الثلاثة المتحاربة لإنهاء النزاع. وقد أنشئ حينها نظام لتقاسم السلطة على مختلف المستويات. واليوم، سيخبرك كثير من البوسنيين أن هذا النموذج تحول إلى فخ دائم. هم عالقون في انقسامات صلبة تمنع التغيير، ولم تُقربهم من بعضهم، بل زادتهم تباعدا.

قال لي الشرع أكثر من مرة خلال محادثاتنا إنه لا يريد "نموذج المحاصصة" الذي رآه في لبنان أو العراق. وفي الواقع، سمعت من سوريين، داخل البلاد وخارجها، شعورا متزايدا بالضيق من الطريقة التي تصر بها بعض الحكومات الغربية على الحديث عن الأقليات وكأنها كيانات منفصلة.

* التقيتِ بالرئيس السوري أحمد الشرع قبل بضعة أشهر، في الأيام الأخيرة من ولاية بايدن في ديسمبر الماضي. ورفع ترمب العقوبات عن سوريا في يوليو/تموز. كيف تمكنت الولايات المتحدة من الوثوق بالشرع بهذه السرعة؟

- في مسألة الثقة، يحضرني قول شهير للرئيس رونالد ريغان أثناء مفاوضات الحد من التسلح مع السوفيات: "ثق، ولكن تحقق". عادة لا تُبرم الاتفاقيات الكبرى مع الأصدقاء، بل مع الخصوم. والشرع، كما تعلمون، كان يوما ما من بين خصومنا، وقد أمضى فترة في أحد المعتقلات العسكرية الأميركية في العراق.

بعد حديثي معه على انفراد، رفعت تقريري إلى وزير الخارجية آنذاك أنتوني بلينكن، وإلى البيت الأبيض، كما أطلعت الفريق الجديد التابع لإدارة ترمب. وقد كانت الآراء داخل تلك الإدارة منقسمة بشدة حيال فكرة التعامل مع دمشق من الأساس. البعض كان يرفض حتى مجرد رفع العقوبات. لكن في نهاية المطاف، استمع الرئيس إلى نصيحة وزير الخارجية الحالي ماركو روبيو وآخرين. الأهم من ذلك، أنه تلقى الرسالة نفسها من المملكة العربية السعودية ومن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو يولي رأيهما أهمية كبيرة.

الأمر لا يتعلق بثقة مطلقة أو عمياء بالشرع، لكن منذ ديسمبر/كانون الأول 2024، وهو يردد مواقف إيجابية بخصوص الملفات التي تهمنا، وتهم دول المنطقة، وتهم شريحة واسعة من السوريين. الانتقادات الحالية تتركز في الغالب على فريقه المقرب ودائرته الحاكمة، حيث يتكون معظمها من شخصيات تنتمي إلى إدلب، ما يجعلها ضيقة ومنعزلة. من الضروري أن يوسّع هذا النطاق، وأن يفتح المجال لمكونات أخرى من المجتمع السوري للمشاركة. وهذه النقطة ترتبط مباشرة بمسألة ما إذا كان يقوم بما يكفي لحماية الطوائف السورية، مثل العلويين والمسيحيين، من أي تهديدات أو اعتداءات.

* في رأيك، ما سر صمود أحمد الشرع سياسيا؟ هل يعود ذلك إلى كاريزميته؟ لقد وصفه ترمب في مايو بأنه "قائد شاب وجذاب".

- لن أستخدم مثل تلك العبارات، لأنها قد تُفهم على نحو خاطئ. لكنه بالفعل يتمتع بكاريزما واضحة، ويملك قدرا كبيرا من الشرعية في نظر السوريين، وهو أمر بالغ الأهمية في بلد خرج لتوه من حرب مدمرة. لقد خاض قتالا طويلا، وفي نهاية المطاف، كان إسقاط نظام الأسد تحت قيادته.

جزء كبير من بقائه يعود أيضا إلى قدرته على التنقل بين دوائر شديدة التباين، بدءا من جماعات متطرفة مثل "القاعدة" و"جبهة النصرة". إنه ليس مجرد قائد ميليشيا، بل سياسي بارع، وقد بدا ذلك جليا في حوارنا. تفكيره لا يقتصر على منطق المقاتل، سواء كان متطرفا أم لا. إنه يفكر بعقلية رجل دولة، ويقدم تحليلا دقيقا للقضايا التي تهم السوريين، وعلى رأسها الاقتصاد والأمن.

كما أنه يبدو مدركا لأخطاء الولايات المتحدة في العراق، ولا يريد تكرارها في سوريا. لديه قدرة واضحة على التكيف مع المتغيرات، واتخاذ قرارات تنبع من الواقع لا من نموذج جامد يسعى لفرضه.

كان هناك اعتراض داخل إدارة ترمب على رفع العقوبات عن سوريا، لكن الرئيس اختار في النهاية الإصغاء إلى ماركو روبيو، والسعودية، وأردوغان

* يبدو أن هناك قنوات اتصال سرية بين سوريا وإسرائيل. منذ متى كانت هذه القنوات قائمة؟

- رجال الاستخبارات يلتقون باستمرار، ويسعون دوما إلى إنشاء قنوات تواصل مع الخصوم لتبادل الرسائل. أحيانا لا يرغب الطرف الآخر في القناة، لكنه لا يستطيع تجاهل ما يُرسل إليه. هذا النوع من القنوات موجود منذ سنوات طويلة.

ولدي أسباب وجيهة للاعتقاد بأنها لا تزال قائمة حتى الآن. في الحقيقة، أرى أن وجودها أمر إيجابي. هذا لا يعني بالضرورة أن الطرفين يسعيان إلى علاقات دبلوماسية كاملة، لكنها أدوات مهمة لمنع التصعيد، وتوضيح الرسائل، وتفادي التصادم. وجود مثل هذه القنوات يخدم مصلحة الطرفين. وآمل أن تساعد على الوصول إلى نوع من التفاهم، ربما على شكل اتفاق عدم اعتداء.

* يقول منتقدو جو بايدن إن سياسته الخارجية اتسمت بالضعف والعزلة، وإنها أدت إلى انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط. هل تتفقين مع هذا الطرح؟

- هذا توصيف غير دقيق، لا لسياسة بايدن الخارجية على المستوى العالمي، ولا لما انتهجته تجاه الشرق الأوسط. لا يمكنني أن أصف بايدن بالانعزالي. بل على العكس تماما، فطوال مسيرته، سواء في مجلس الشيوخ، أو كنائب للرئيس، أو كرئيس، كان مؤمنا بعمق بقوة الولايات المتحدة وبقيمة انخراطها على الساحة الدولية. تأثيرنا العالمي يتضاعف حين نتحرك جنبا إلى جنب مع شركائنا.

أما فيما يخص المنطقة، فأنا أعارض تماما فكرة انسحاب الولايات المتحدة. الوجود العسكري الأميركي كان ولا يزال قويا، ولم يتراجع منذ أن تولى بايدن منصبه. بل على العكس، فقد عززنا حضورنا بطريقة ديناميكية في لحظات حاسمة، سواء من خلال نشر مجموعات قتالية على متن حاملات طائرات، أو عبر إرسال قوات وطائرات وأنظمة صاروخية من نوع باتريوت.

لقد جرى تعزيز هذا الوجود وفق مقتضيات الأحداث، كما حدث في أبريل/نيسان، وأكتوبر/تشرين الأول الماضيين، عندما حاولت إيران مهاجمة إسرائيل. من الناحية العسكرية والأمنية، لم يكن هناك أي تراجع. وعلى الصعيد الدبلوماسي، حرصت الإدارة على توطيد العلاقات وبنائها.

* هل ترين أن دونالد ترمب يستطيع فرض السلام باستخدام القوة العسكرية؟

- استخدم ترمب القوة العسكرية في مناسبتين بارزتين: ضد إيران، وضد الحوثيين الذين تسببوا بفوضى في البحر الأحمر. وهذه، بالمناسبة، جبهة انخرطت فيها إدارة بايدن أيضا بشكل كبير. للأسف، هي حملة معقدة للغاية، ولا يمكن تحقيق النجاح فيها بسهولة. لم تتمكن إدارة ترمب من الحسم، كما يتضح من الهجومين الأخيرين على ناقلات تجارية، واللذين أسفرا عن مقتل بحارة وغرق سفن. هذا النوع من التهديدات لا يخضع لحلول سريعة، كما اكتشفت إدارة ترمب نفسها.

نعم، لقد اختار ترمب استخدام القوة العسكرية ضد البرنامج النووي الإيراني، مستعملا أسلحة كانت متاحة منذ وقت طويل للرؤساء السابقين، الذين قرروا عمدا عدم اللجوء إليها، معتبرين أن التوقيت لم يكن مناسبا. أما ما إذا كان هذا الاستخدام الجريء للقوة سيسهم في نهاية المطاف في إحلال سلام أوسع وأكثر ديمومة، فلا يزال أمرا غير محسوم– فتلك الصفحة لم تُكتب بعد.

استخدام القوة العسكرية الأميركية ضد ميليشيا الحوثي في اليمن هو مسار بالغ الصعوبة ولا يفضي بسهولة إلى نتائج حاسمة

* هل تعتبرين وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران مجرد مرحلة؟

- أظن أنها مرحلة بالفعل، لكنني لا أرى مؤشرات على أن النظام الإيراني قد تخلى عن مشروعه الهادف إلى الهيمنة على المنطقة، والسيطرة على جواره، وإلحاق ضرر بالغ بإسرائيل، وربما حتى السعي إلى تدميرها. لذلك، فإن اللعبة لم تنتهِ بعد، لا من وجهة نظر الإيرانيين ولا الإسرائيليين.

في الأيام الأخيرة، أكد مسؤولون إسرائيليون أنه في حال رصدوا أي مساعٍ إيرانية لإحياء برنامج الصواريخ الباليستية أو إعادة تشغيل المنشآت النووية، فإنهم سيتحركون مجددا. السلام لا يتحقق بالقوة العسكرية وحدها. لا بد من تصور سياسي واضح وشامل يفضي إلى نهاية حقيقية لهذا الصراع، ونحن لا نزال بعيدين عن تلك اللحظة.

* لماذا ينبغي الوثوق بالإدارات الأميركية حين يتعلق الأمر بسياساتها في الشرق الأوسط، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية؟ العراق لم يكن يحتوي على أسلحة دمار شامل، فلماذا يصدقها المتشككون الآن بشأن مزاعم السلاح النووي الإيراني؟

- من المفيد أن نبدأ بالاستماع إلى ما قاله مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إذ أشار إلى أن إيران تمتلك مخزونا من اليورانيوم عالي التخصيب. هو نفسه لا يعرف بدقة حجم ما تبقى منه، لكنه يعتقد أن الكمية لا يستهان بها. لا أحد يخصب اليورانيوم بنسبة ستين في المئة في منشآت سرية تحت الأرض لاستخدامات مدنية. فدرجة التخصيب المطلوبة للأغراض العسكرية هي تسعون في المئة.

لماذا يجري كل شيء تحت الأرض؟ لماذا تصنع إيران أجيالا متعاقبة من أجهزة الطرد المركزي المتطورة؟ ولماذا تجري أبحاثا حول كيفية تحويل هذه المواد إلى سلاح، إذا لم تكن تنوي استخدامه فعليا؟ هذه ليست استنتاجات أميركية فقط، بل هي قناعة مشتركة لدى المجتمع الدولي بأسره.

الوضع قاتم بكل المقاييس، لكن حين يقال إن الفكرة باتت وهما، فإن سؤالي المضاد يكون: ما البديل؟

* في ظل الظروف الراهنة، هل تعتقدين أن قيام دولة فلسطينية بات مجرد وهم؟

- الوضع قاتم بكل المقاييس، لكن حين يقال إن الفكرة باتت وهما، فإن سؤالي المضاد يكون: ما البديل؟ صحيح أن غزة في حالة دمار شبه كامل، لكنّ هناك مليوني فلسطيني يعتبرونها وطنهم، ويريدون العيش فيها وإعادة بنائها. وهناك أيضا أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية لم يتخلوا عن حلمهم بإقامة دولة خاصة بهم.

لكن المشكلة أن الحكومة الإسرائيلية تضم في صفوفها قوى يمينية متطرفة تعارض تماما الاعتراف بحقوق الفلسطينيين الوطنية، بل إن بعض أعضائها يتحدثون صراحة عن العمل على طردهم.

المنطقة اليوم أشد انقساما واستقطابا مما كانت عليه منذ عقود. وأعتقد أن كثيرا من العرب لا يدركون حجم الصدمة والقلق الوجودي الذي يعيشه الإسرائيليون اليوم. قضية الرهائن الذين لا يزالون محتجزين لدى "حماس" تمثل جرحا مفتوحا لا يندمل. الإسرائيليون غير قادرين على تجاوز هذه المسألة. كل يوم بالنسبة إليهم هو السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهذا ما أسمعه منهم مرارا.

نعم، المشهد قاتم من جميع الزوايا، لكن لا يوجد بديل. قد أكون مخطئة، لكنني لا أظن أن الرئيس ترمب سيوافق على ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية. فهو يقدّم نفسه على أنه رجل سلام.

font change