تهيأ للرئيس السوري أحمد الشرع نوع من القبول والإجماع والشرعية، ربما لم تتهيأ لأي رئيس قبله، باعتباره المخلّص من نظام الاستبداد والفساد الذي هيمن على البلد والشعب لأكثر من نصف قرن (الأسد الأب والابن)، ضمنها 14 عاما نجم عنها قتل مئات ألوف السوريين وتخريب عمرانهم وتشريد حوالي نصفهم.
يمكن إضافة عاملين آخرين أسهما في ذلك، إذ لم يشهد البلد- لحظة انهيار نظام الأسد- أي نزوع نحو الاقتتال، أو العنف، والحؤول دون انفجار صراعات الهوية، وهما أمران كانا في الحسبان، بالنظر للمظلوميات والمآسي التي اختبرها السوريون، وأججت مشاعر الخوف والكراهية والتعصب بينهم.
وقد شجّعت الأشهر الثلاثة الأولى، وما صاحبها من استقرار، ومن روح تسامح، على تكريس مكانة القيادة الانتقالية، التي وجدت نفسها إزاء تحديات داخلية وخارجية ثقيلة وهائلة، في بلد يفتقد الموارد، مع بنية تحتية متهالكة، واقتصاد منهار، ومستوى معيشة متدن جدا، كما وجدت نفسها إزاء قوى داخلية متربصة، من بقايا النظام السابق، أو من المستفيدين منه.
أيضا، وجدت القيادة السورية الجديدة نفسها إزاء تحديات خارجية عديدة، من قوتين إقليميتين: إيران، التي خرجت خائبة وذليلة من سوريا، كما من لبنان، وقد انحسر نفوذها إلى خلف حدودها، وإسرائيل التي رأت أن ثمة فرصة للاستثمار في ضعف سوريا، كدولة وكمجتمع، في المرحلة الانتقالية، لفرض أجندتها عليها، في حين وجدت تركيا في التغيير السوري فرصة للاستثمار في الوضع الجديد، وتاليا تعزيز مكانتها على الصعيدين العربي والإقليمي.
وكانت القيادة السورية الجديدة قد أبدت، منذ البداية، حذرا زائدا في التعامل مع أجندات إسرائيل، وأكدت مرارا أنها لن تسمح لأي طرف باستخدام سوريا كمنصة لتوجيه ضربات ضدها، وأنها تنتهج سياسة صفر مشاكل مع الدول المجاورة، وأن كل ما تريده من إسرائيل هو وقف اعتداءاتها، والالتزام بخطوط وقف إطلاق النار وفق اتفاقية 1974، وأنها في الشأن الفلسطيني تقبل ما يقبل به الفلسطينيون، كما تقبل ما يوافق عليه النظام العربي بما يخص العلاقة مع إسرائيل، مع إبقاء ملف الجولان السورية مفتوحا للتفاوض، وفقا للقرارات الدولية.
كل الأطراف ارتكبت انتهاكات، وفي حين أن ثمة طرفا استدعى الخارج، ولا سيما إسرائيل، فثمة طرف تسرع أو استسهل اللجوء للحل الأمني
بيد أن إسرائيل، التي قامت منذ انهيار نظام الأسد بشن اعتداءات متواصلة استهدفت فيها تدمير كل البني التحتية للجيش السوري، مع مستودعاته ومنشآته، لم تبال بكل ذلك، حينا بحجة حماية حدودها من أي وجود عسكري، تحسبا من "طوفان أقصى" آخر، عبر فرض منطقة منزوعة السلاح في الجنوب، في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، أي إلى حدود محافظة دمشق. وحينا آخر بدعوى الدفاع عن الأقليات في سوريا، في حين أنها تنكل بمن تعتبرهم أقليات، من الفلسطينيين، وضمنهم المسيحيون والدروز والبدو والشركس، بخاصة أنها تعرّف نفسها كدولة قومية لليهود، أي إن كل مواطنيها من غير اليهود هم في درجة مواطنة أدنى، ولهذا باتت تعرف باعتبارها "دولة أبارتهايد"، علاوة على كونها دولة استعمارية واستيطانية، وأضيف لها وضعها الراهن كدولة تمارس إبادة جماعية ضد الفلسطينيين.
المغزى من هاتين الحجتين محاولة إسرائيل فرض ذاتها كدولة مهيمنة، مع ذراع طويلة، في المشرق العربي، وصولا إلى إيران، وأيضا، محاولتها تطبيع دول المشرق العربي معها، وليس العكس، كما يعتقد البعض، أي تعميم خاصيتها هي كدولة طائفية عنصرية، على عموم دول المنطقة، كما حصل سابقا في العراق، بتحوله إلى دولة بتقسيمات طائفية وإثنية، وهو حاصل في لبنان، وبقي أن تكرس ذلك في سوريا كي تكتمل الدائرة.
في هذا السياق يمكن فهم أحداث السويداء، إذ استدرجت القيادة السورية إلى هذه الورطة أو الفخ، معتمدة الحل الأمني، دون التبصر بأبعاده وتعقيداته ومداخلاته وتداعياته، المحلية والإسرائيلية والدولية، في وقت كان الأجدر بها التبصر بعواقب ذلك، والتمسك بلغة الحوار، والحل السياسي، بخاصة في ظل ضعف الدولة والافتقاد لإجماعات وطنية، وبالنظر للفراغ السياسي في المجتمع السوري، ولتفويت الفرصة على التربّص الإسرائيلي.
عموما، فقد حصل ما حصل، والنقاش بشأن من فعل كذا أو كذا أولا، لم تعد له أهمية، بخاصة أن كل الأطراف ارتكبت انتهاكات، وفي حين أن ثمة طرفا استدعى الخارج، ولا سيما إسرائيل، فثمة طرف تسرع أو استسهل اللجوء للحل الأمني، مع ذلك فإن الدولة هي المسؤول الأول عما جرى، لأنها مسؤولة عن كل السوريين، ولأنها كانت تمتلك خيارات أخرى، سيما أنها استبعدت إيجاد آليات مشاركة، كان من شأنها تعضيد قوى المجتمع المدني في السويداء، على حساب القيادة الروحية، إذ كان من شأن ذلك تعزيز الثقة بينها وبين الجمهور "الدرزي"، وعزل الدعوات الانفصالية المستقوية بالتدخل الإسرائيلي المباشر وغير المباشر.
الفخ والورطة اللذين استدرجت إليهما القيادة السورية، يشبهان إلى حد ما عملية "طوفان الأقصى" التي نجمت عنها تداعيات كبيرة وخطيرة في المنطقة
في المحصلة فقد تمكّنت إسرائيل، المتربصة بالوضع السوري، من استثمار أحداث السويداء في تحقيق عدة أغراض، أهمها، أولا، تصديع وحدة مجتمع السوريين في وضع هم أحوج فيه إلى الوحدة. ثانيا، شرعنة سعيها خلق مناطق آمنة في الداخل السوري (القنيطرة- درعا- السويداء). ثالثا، زعزعة سيادة الدولة السورية على أراضيها، إذ بات دخول قوى الأمن للسويداء يتطلب نوعا من الموافقة أو الرضا الإسرائيلي. رابعا، المس بهيبة القيادة الجديدة، باستهداف مناطق ومبانٍ سيادية في دمشق دون القدرة على أي رد. خامسا، إيجاد موطئ قدم لها وسط محافظة السويداء يوازي، إلى حد ما، ما يشكله الشيخ موفق طريف لدى الفلسطينيين "الدروز" في إسرائيل، في الاستقطاب المتمحور حول الشيخ حكمت الهجري، ضمنها "المجلس العسكري"، الذي يضم ضباطا كبارا من جيش الأسد سابقا. وهذا ما يمكن ملاحظته برفع أعلام إسرائيل، في بعض الأماكن، ودخول أفراد منهم مجندين في الجيش الإسرائيلي إلى السويداء. سادسا، هذا الوضع سينعكس سلبا على "دروز" فلسطين والجولان المحتل، الذين رفضت أغلبيتهم الهوية الإسرائيلية، وضم الجولان لإسرائيل، إذ إن ذلك سيعزز مسار "الأسرلة" لدى قطاعات منهم، في ظل ما يروج له كحرب وجودية ضد "دروز" المنطقة.
هنا، ربما يصح القول إن الفخ والورطة اللذين استدرجت إليهما القيادة السورية، يشبهان إلى حد ما عملية "طوفان الأقصى" (7/10/2023)، التي نجمت عنها تداعيات كبيرة وخطيرة في المنطقة، لم تنته بعد، ويخشى أن هذا ما تخبئه إسرائيل للمستقبل في سوريا، عدا عن أن ذلك يشبه استدراج صدام لغزو الكويت (1990)، وما تلاه من تداعيات.
لكل تلك الاعتبارات، يمكن القول إن إسرائيل ربحت في أحداث السويداء في حين خسرت سوريا، أي خسر السوريون جميعا، كقيادة وكشعب، ويبقى أن على القيادة الانتقالية إيجاد خيارات أنسب، بابتداع حلول سياسية، تشاركية، تمثيلية، تتأسس ليس على وحدة الأرض السورية فقط، وإنما على وحدة الشعب بكل مكوناته، كشعب يتألف من مواطنين أفراد وأحرار متساوين.