لم تكن الضربة القوية ضد إيران مفاجئة. أولا، لأن إسرائيل كانت أعلنت مرارا استهدافها للبرنامج النووي والترسانة الصاروخية في إيران، وحتى لنفوذها لاسيما الميليشياوي في المشرق العربي واليمن. علما أن الإشارات الأميركية كانت تؤكد ذلك. ثانيا، لأن تلك الضربة أتت ضمن سياق الأحداث والتداعيات الكبيرة والعاصفة التي شهدتها المنطقة مؤخرا، والتي نجمت عن توحش إسرائيل في حرب الإبادة التي تشنها منذ 20 شهرا ضد الفلسطينيين، وبخاصة في غزة، بعد عملية "طوفان الأقصى" (7/10/2023)، والتي شملت تقويض قدرات "حماس" في غزة، وكسر "حزب الله" في لبنان، وانهيار نظام الأسد، والقصف على اليمن، وانحسار نفوذ إيران في سوريا ولبنان.
على أية حال فإن العملية الإسرائيلية، في مرحلتها الأولية، أدت إلى مصرع قائد "الحرس الثوري" الإيراني حسين سلامي، ورئيس أركان الجيش الإيراني محمد باقري، واللواء غلام علي رشيد قائد مقر "خاتم الأنبياء" للدفاع الجوي، وعلي شمخاني مستشار المرشد خامنئي، كما شملت قصف مواقع أخرى للحرس الثوري ولمنشآت استراتيجية، ضمنها منشأة نظنز النووية في وسط إيران (استهدفت سابقا عدة مرات)، ما يذكر بالعملية الإسرائيلية المفاجئة والقوية، التي شنتها إسرائيل ضد قيادات "حزب الله" وقدراته العسكرية في لبنان (تفجيرات البيجر والوكي توكي 17-18/9/2024).
لكن ما يميّز هذه العملية أن إسرائيل لا تستهدف، هذه المرة، طرفا ميليشياويا، لا "حماس" في فلسطين ولا "حزب الله" في لبنان، ولا فصائل "الحشد الشعبي" في العراق، ولا الحوثيين في اليمن، ولكنها تستهدف دولة هي إيران، وهي دولة إقليمية قوية، وفوق ذلك فهذه الدولة هي التي ظلت تتزعم مصارعة إسرائيل، في محور المقاومة والممانعة، طوال العقدين الماضيين، وإنها هي التي تمد كل الأطراف الميليشياوية المذكورة بالسلاح والمال والدعم اللوجستي، وأنها بعد أن أضعفت معظم تلك الأطراف، باتت تستهدف الرأس مباشرة.
مشكلة إيران في صراعها ضد إسرائيل إنها ظلت طوال العقدين الماضيين تصعد من أهمية الخيار العسكري كلاميا، بالاتكال على قوى ميليشياوية في المنطقة، وأنها بالغت بقدراتها العسكرية، وإمكان إنهائها إسرائيل، التي تراها "أوهن من خيوط العنكبوت"، في ظرف أيام، وأنها لم ترد على اعتداءات وتوحش إسرائيل لا ضد الفلسطينيين ولا ضد "حزب الله" ولا ضد سوريا، ولا ضد اليمن، ولا حتى ضد الاعتداءات المباشرة عليها، بالمستوى المناسب.
مشكلة إيران، أنها اشتغلت بطريقة متناقضة، فهي وضعت نفسها في مواجهة حكومات ومجتمعات دول المشرق العربي، بدلالة دورها في سوريا والعراق ولبنان، وفي عموم المشرق العربي واليمن، وذلك بتقويضها البنى الدولتية والمجتمعية في تلك البلدان
أيضا، فإن مشكلة إيران، أنها اشتغلت بطريقة متناقضة، فهي وضعت نفسها في مواجهة حكومات ومجتمعات دول المشرق العربي، بدلالة دورها في سوريا والعراق ولبنان، وفي عموم المشرق العربي واليمن، وذلك بتقويضها البنى الدولتية والمجتمعية في تلك البلدان، ودعمها نشوء قوى ميليشياوية مسلحة، وإثارتها النزعة الطائفية/ المذهبية، ومحاولتها توظيف القضية الفلسطينية، والصراع ضد إسرائيل، لشرعنة تدخلاتها في تلك الدول، وابتزاز العالم العربي، وكلها عوامل تضعف أية مقاومة حقيقية للتحديات التي تفرضها إسرائيل في المنطقة.
في جانب آخر فإن إيران التي تبالغ كثيرا بقوتها العسكرية، وتستخف كثيرا بقدرات إسرائيل، فإنها ظلت تنأى بنفسها عن أي مواجهة حقيقية معها، بالاعتماد على مشاغلتها بأذرعها الميليشياوية، إدراكا منها لحقيقة إن أي مواجهة، ربما تنتقل إلى إيران نفسها، وهو ما حصل مؤخرا، طوال العشرين شهرا الماضية، إذ نأت إيران بنفسها عن أي رد على توحش إسرائيل في المنطقة.
من جهتها فإن إسرائيل، في هذه العملية، تحاول التأكيد على كونها باتت بمثابة قوة إقليمية عظمى في المنطقة، وأن يدها الطويلة يمكن أن تطال أي هدف ترى فيه تهديدا مستقبليا، لها، بادعاء أنها تدافع عن وجودها. أيضا، فإن إسرائيل تحاول فرض نوع من مجال حيوي استراتيجي آمن لها، من لبنان إلى طهران.
إسرائيل لا تتصرف باعتبارها مجرد دولة عادية في المنطقة، وإنما هي بمثابة وضع دولي فيه، وهو ما يؤكده الدعم الذي تحظى به من الغرب، وبخاصة من الولايات المتحدة الأميركية
يستنتج من كل ما تقدم، أولا، إن الخيار العسكري الدولتي في مواجهة إسرائيل، الذي انتهى بعد حرب أكتوبر/تشرين (1973)، والذي استمر بعد ذلك بقوى ميليشياوية فلسطينية، ثم لبنانية، والذي استمر بفضل دعم إيران، بات في لحظته الأخيرة، مع نتائج كارثية ومخيبة ومأساوية للأسف. ثانيا، بينت التجربة عقم الخيار العسكري، الدولتي والميليشياوي، باعتبار أن هذا الخيار، سيما في الظروف والمعطيات الراهنة، هو الملعب الذي تتفوق به إسرائيل، وأن مقاومتها تحتاج إلى عوامل أخرى، أهمها تمكين المجتمعات العربية، وتاليا توفير مقومات القوة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، بدل الاتكاء فقط على القوة العسكرية. ثالثا، تبين من كل ما تقدم أن إسرائيل لا تتصرف باعتبارها مجرد دولة عادية في المنطقة، وإنما هي بمثابة وضع دولي فيه، وهو ما يؤكده الدعم الذي تحظى به من الغرب، وبخاصة من الولايات المتحدة الأميركية. رابعا، هذه العملية فندت، أو كشفت، وهمين، الأول، يتعلق بمراهنة البعض على التناقضات أو الخلافات الداخلية في إسرائيل لإسقاط حكومة نتنياهو، في حين تبين أن الإسرائيليين متوحدون ضد ما يعتبرونه خطرا خارجيا، وأن المعارضة لا تمتلك القوة الكافية لإسقاط نتنياهو. والثاني، أن إسرائيل والولايات المتحدة هما في جانب واحد، كما تبين بقوة مؤخرا، سواء في مجلس الأمن الدولي أو في الموقف من الدولة الفلسطينية، أو في ضرب إيران، رغم كل ما يقال عن خلافات بين نتنياهو وترمب؛ علما إن ترمب كان في بداية عهده أفرج عن أسلحة وقنابل كانت إدارة بايدن تمنعت عن تسليمها لإسرائيل.
في الرد على العملية الإسرائيلية أكد المرشد الإيراني علي خامنئي أن إسرائيل ستلقى "عقابا قاسيا" وأن "الكيان الصهيوني بهذا الهجوم، كتب لنفسه مصيرا مريرا، وسيلقاه بالتأكيد"، وهو كلام كان تم سوقه وترويجه طوال العقدين الماضيين دون اعتبار لحقائق القوة واختبارات الواقع.
إذن، ليس لنا إلا انتظار الرد الإيراني، لكن هل سيكون ثمة رد إيراني حقا، وما هو مستواه أو طبيعته؟