"المجلة" في غزة... بعد وقف النار ماذا ينتظر الغزيين؟

السواد الأعظم يُجمع ويتفق على وقف إطلاق النار

أ ف ب
أ ف ب
أطفال فلسطينيون يحتفلون في مخيم للنازحين في النصيرات وسط قطاع غزة في 9 أكتوبر 2025، بعد أنباء عن اتفاق وقف إطلاق النار الجديد في غزة

"المجلة" في غزة... بعد وقف النار ماذا ينتظر الغزيين؟

في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحالي، كان الشاب محمد أحمد مستسلما مع زوجته وأطفاله لمصيرهم المجهول في مدينة غزة، يجلس في شقته السكنية بحي الصبرة جنوب المدينة، مستسلما للواقع المفروض عليه، ورفضه النزوح إلى جنوب قطاع غزة، وفق أوامر الإخلاء للسكان، والتي أصدرها الجيش الإسرائيلي المتوغل من عدة محاور وسط مدينة غزة. يقول لـ"المجلة": "سنتين وأنا ما بشتغل، مصدر دخلي انعدم، وما بملك إلا القليل من المال، والنزوح مُكلف، ما بقدر على تغطية تكاليفه، من مواصلات وشراء خيمة واستئجار أرض، الموت صار أقل تكلفة".

قبل حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ عامين، كان أحمد (38 عاما)، يعمل محاميا، ولديه مكتبه الخاص مع شركائه. ومع الحرب، توقف عن العمل بسبب توقف المحاكم القضائية، وأصبح الفلسطينيون منشغلين في مَن فقدوا، لا في حقوقهم وتحصيلها عبر القنوات القانونية، التي غُيبت بفعل الحرب، وموت مئات المواطنين، استنزف رصيده البنكي، وما كان قد ادخره خلال سنوات عمله، نتيجة نزوحهم المتكرر، وتنقلاتهم من مدينة لأخرى، وتوفير احتياجات أسرته وأطفاله من طعام وشراب.

في 9 أكتوبر الحالي، أعلن ترمب عن التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار، الأمر الذي أعاد الأمل إلى الفلسطينيين في غزة، بانتهاء حرب الإبادة الجماعية

عايش مؤخرا وخلال استسلامه للواقع، تناقص أعداد الجيران والنازحين في منطقة سكنه يوما بعد آخر، جراء إجبار الغالبية منهم على النزوح، فيما كان الخوف والقلق على أسرته يتملكه يوما بعد يوم، ما دفعه لمتابعة الأخبار بشكل هستيري، عله يجد ما يدخل بعض الطمأنينة، كما يصف. مضت الساعات والأيام الطويلة داخل شقته، التي كانت تهتز جدرانها مرة تلو الأخرى، مع تكثيف الجيش الإسرائيلي، لعمليات القصف جوا وبرا، وتفجير روبوتات تحمل أطنانا من المتفجرات، الأمر الذي دفعه للخروج والنزوح، إلى منزل صديقه البعيد عن منزله، قرابة واحد كيلومتر فقط باتجاه قلب المدينة، حاله حال المئات من الغزيين الرافضين للنزوح من المدينة.

يتصافح الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ختام مؤتمر صحفي مشترك في غرفة الطعام الرسمية في البيت الأبيض في واشنطن العاصمة في 29 سبتمبر 2025

وفي أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، سمع أحمد خبرا خلال متابعته للأخبار، عن إعلان رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترمب، خطة لإنهاء الحرب، وتبادل الأسرى وفق الرؤية الأميركية-الإسرائيلية، والتي تكونت من 20 بندا، حيث أعلنت إسرائيل موافقتها على الخطة خلال اجتماع بين ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، تبعها إصدار حركة "حماس" موافقة على بعض البنود الأساسية، مع تجاهلها لبنود أخرى في ردها الذي نشرته عبر منصاتها الرسمية.

وفي 9 أكتوبر الحالي، أعلن ترمب عن التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار، وتبادل أسرى، كمرحلة أولى، تشمل تراجع الجيش الإسرائيلي عن وسط المُدن، وفتح المعابر والسماح لتدفق المساعدات الإنسانية، الأمر الذي أعاد الأمل إلى الفلسطينيين في غزة، بانتهاء حرب الإبادة الجماعية التي عايشوا تفاصيلها طوال عامين على التوالي، حيث قتل خلالها أكثر من 67 ألف فلسطيني، فيما لا يزال مصير قرابة 10 آلاف آخرين مجهولا، بحسب ما أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة مؤخرا.

عبر فلسطينيون عن عدم تفاؤلهم بما تم التوصل إليه من اتفاق، بسبب ما عايشوه من نزوح وتشريد وتدمير وقتل متواصل خلال عامين، وقناعتهم بأن إسرائيل قد تعيد استئناف الحرب والأعمال العسكرية

في المقابل، عبر فلسطينيون آخرون عن عدم تفاؤلهم بما تم التوصل إليه من اتفاق، بسبب ما عايشوه من نزوح وتشريد وتدمير، وقتل متواصل خلال عامين، وقناعتهم بأن إسرائيل قد تعيد استئناف الحرب والأعمال العسكرية مثلما فعلت في مارس/آذار الماضي بعد استئناف القصف والتغلغل داخل المُدن الغزية، عقب انتهاء المرحلة الأولى من تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار.

يقول أحمد: "إن الجيش الإسرائيلي متمركز على بُعد أقل من كيلومتر واحد، يحاصر مئات العائلات في قلب مدينة غزة، يمنع دخول الطعام لهم، ويهدم ويفجر ويقتل كل من يحاول العودة أو الاقتراب من مناطق وجودهم، بينما تستمر الطائرات الإسرائيلية في قصف واستهداف الغزيين في مختلف مناطق وجودهم، وذلك قبل دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، حيث من المفترض أن يتراجع الجيش، ويتمكن هو والآلاف من العودة. عندي خوف لكن كمان في أمل أرجع للبيت ونحاول نستعيد جزءا من حياتنا".

مطالب الغزيين

خلال الأسابيع الأخيرة وقبل خطة ترمب، تصاعدت حدة العملية العسكرية البرية الإسرائيلية على شمال القطاع، وبالتحديد على مدينة غزة، التي تؤوي أكثر من مليون فلسطيني، وأصدر الجيش أوامر إخلاء واسعة، تشمل كافة أحياء ومخيمات المدينة، مطالبا إياهم بالنزوح إلى المناطق الغربية لمدينتي خانيونس ودير البلح، بعد تصنيفهما كمنطقتين إنسانيتين. وبسبب عدم انصياع الفلسطينيين للأوامر، ورفضهم للنزوح القسري، تصاعدت حدة الضربات الإسرائيلية برا وبحرا وجوا، خاصة في مناطق تكدس المواطنين، مع استهدافه لعشرات الأبراج والمباني السكنية والمنازل، وتدمير خيام النازحين بالصواريخ لدفعهم للخروج.

كان العامان الماضيان عامين من التدمير لكل مقومات الحياة بشكل مستمر، حتى طريق الخروج والبحث عن النجاة الفردية عبر السفر، كان مغلقا

"أم صابر" (46 عاما)، واحدة من النازحات مع أسرتها من مدينة غزة، إلى منطقة المواصي غرب خانيونس، وهي واحدة من قرابة 750 ألف فلسطيني، أُجبروا على النزوح مؤخرا من المدينة بحسب بيانات الجيش الإسرائيلي، حتى قبل إعلان خطة الرئيس الأميركي بأيام قليلة، تقول لـ"المجلة": "إنها لم تجد أمامها سوى النزوح مع أطفالها، بعدما فقدت زوجها وطفلها في قصف سابق خلال الحرب، وتعرضت خيمتها للتدمير بسبب قصف إسرائيلي لمنزل مجاور، خلال النصف الثاني من سبتمبر الماضي".

وتشير إلى أن: "نزوحها الاضطراري، لا يمنعها من انتظار لحظة تمكنهم من العودة إلى منطقة سكنها شمال القطاع، وذلك على الرغم من فقدها لمنزلها، قبل أكثر من عام، وتعرضه للتدمير والتجريف خلال عمليات الجيش البرية"، مضيفة: "كل يوم وبكل لحظة بنتابع الأخبار، منتظرين لحظة الإعلان عن الاتفاق، بدنا الحرب تنتهي للأبد، بدنا نرجع لبيوتنا ونبنيها، بدنا نرجع لحياتنا اللي دمروها، وولادنا يرجعوا للمدارس والتعليم".

ويتفق المواطن عبد السلام السماعنة مع "أم صابر" في مطالبها بوقف الحرب، مشيرا إلى أهمية وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى وإنهاء حالة الحرب والإبادة، لكنه عبر عن خيبة أمله من الخرائط التي تم الاتفاق عليها، لإعادة تموضع الجيش على عمق أكثر من كيلومترين داخل القطاع: "أنا ساكن بمنطقة حدودية شمال القطاع، وحسب الخرائط المتفق عليها، مصير عودتنا مجهول التوقيت، هل سنعود بعد شهر أو شهرين أو سنة، ما في أي معلومات واضحة، يعني لسة نزوحنا وترددنا مستمر حتى خلال وقف الحرب".

أ ف ب
رجل فلسطيني ينقل دلاء من الماء بجوار طريق ساحلي شمال غرب مخيم النصيرات للاجئين بعد نزوحه جنوبًا في أعقاب إعلان إسرائيلي عن إغلاق طريق الرشيد باتجاه شمال قطاع غزة المحاصر في 4 أكتوبر 2025

ويوضح السماعنة (36 عاما)، أن مطالبهم لا تتوقف عند وقف الحرب والعودة لمنازلهم، مشيرا إلى ضرورة السماح بدخول المواد الغذائية، والخضراوات والفواكه، واللحوم والخيام، وحليب الأطفال والأدوية، وغيرها من المستلزمات الحياتية اليومية، من محروقات ومواد خام وملابس ومُنظفات، قائلا: "كل اشي محتاجين، المتوفر في غزة هو أقل من القليل، بدنا حرية في قدرتنا على اختيار الأكل والعمل والحركة، بدنا نروح على المستشفيات نلاقي علاجات وأدوية، بدنا نقدر نبني بيوتنا المدمرة، ونقدر نزرع أراضينا وأولادنا يروحوا يتعلموا في المدارس".

كان العامان الماضيان، عامين من التدمير لكل مقومات الحياة بشكل مستمر، هدم كُلي لحياة الغزيين، حتى طريق الخروج والبحث عن النجاة الفردية عبر السفر، كان طريقا مغلقا بعد سيطرة الجيش الإسرائيلي، على معبر رفح البري في مايو/أيار 2024، والسماح بين الحين والآخر، بسفر أعداد محدودة في إطار عمليات إجلاء المرضى، أو أصحاب الإقامات والمنح الدراسية، عبر معبر كرم أبو سالم.

في قطاع غزة، أكثر من مليوني فلسطيني، يبحثون عن الأمان لهم ولأطفالهم، جميعهم لديهم مطالب فردية، وفق احتياجاتهم وما تعرضوا له من خسارات

تامر عمران (42 عاما)، سافرت زوجته وأطفاله الثلاثة قبل أكثر من عام، ضمن عمليات إجلاء المرضى، حتى تتمكن طفلته البالغة 8 أعوام من استكمال علاجها، نتيجة معاناتها من السرطان قبل نشوب الحرب.

بقي الأب وحيدا دون أسرته في غزة تحت الحرب، يتواصل معهم من خلال المحادثات كلما سنحت له الفرصة للاتصال بالإنترنت، ودائما ما يسأله أطفاله "متى بدك تيجي يا بابا" حسب قوله لـ"المجلة". ويشير إلى تجاهله الإجابة على سؤال أطفاله، لقناعته بأنه لن يتمكن من السفر وجمع شمل العائلة، إلا بعد انتهاء الحرب، وفتح المعابر للسماح للغزيين بالسفر، لكنه ليس متفائلا: "صار لنا سنتين بنسمع في مفاوضات، ونقاشات ووساطات ومطالبات، لكن ولا أي طرف شايف إن حياتنا كفلسطينيين، أهم من المصالح السياسية والعسكرية، بنسمع المعبر بده يفتح للمسافرين، لكن ما في توضيح متى وكيف ومن سيسمح له بالسفر".

في قطاع غزة، أكثر من مليوني فلسطيني، يبحثون عن الأمان لهم ولأطفالهم، جميعهم لديهم مطالب فردية، وفق احتياجاتهم وما تعرضوا له من خسارات، لكن السواد الأعظم يُجمع ويتفق على وقف إطلاق النار، والانسحاب الإسرائيلي تمهيدا لاستعادة حياتهم، والدخول في مرحلة إعادة إعمار ما خلفته الحرب من تدمير طال الحجر والبشر والشجر.

font change

مقالات ذات صلة