الخليج والقضية الفلسطينية... عقلانية الالتزام التاريخي أمام صراع عميق

أ.ف.ب
أ.ف.ب
أعلام الدول المشاركة في قمة مجلس التعاون الخليجي في قصر بيان في مدينة الكويت في 5 ديسمبر 2017.

الخليج والقضية الفلسطينية... عقلانية الالتزام التاريخي أمام صراع عميق

منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وهو اليوم الذي قلب معادلات الشرق الأوسط رأسا على عقب، لم تعد القضية الفلسطينية ملفا بعيدا عن التحديات الرئيسة في العالم ومنها التحديات أمام دول المنطقة وخصوصا الخليجية منها. فالهجوم الذي شنته حركة "حماس" أدى إلى تغيير دولي ما زالت ارتداداته تعصف بدول عدة، وما تلاه من حرب في غزة ولبنان واليمن وسوريا وصولا إلى إيران، أعاد طرح التحديات أمام العواصم الخليجية التي وجدت نفسها مضطرة للموازنة بين التزاماتها التاريخية والأخلاقية تجاه القضية الفلسطينية، وبين مصالحها الوطنية والاستراتيجية وعلاقاتها الدولية المعقدة، لتؤكد على التفكير العقلاني في التعامل مع القضية الفلسطينية.

نقطة الانعطاف الجديدة تمثلت في إعلان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن خطة لوقف الحرب في غزة، جاء إعلان "حماس" موافقتها المبدئية ورغبتها في الخروج من الحرب بضمانات "نهاية الصراع"، ليعيد التأكيد على أن مرحلة جديدة في المنطقة تحتاج إلى العقلانية لمنع إنهاء القضية الفلسطينية، بعدما هشمتها الصراعات الإقليمية. هذه التطورات فتحت أمام الخليج مساحة جديدة للعمل على تطوير القضية لزمن ما بعد الحرب، وخصوصا في كيفية دعم مسار سياسي يقود إلى حل الدولتين، وجاءت آخر الخطوات في البيان العربي-الإسلامي الذي وقعته دول عدة بينها السعودية وقطر والإمارات ويرحب بقرار "حماس" قبول مقترح ترمب لإنهاء الحرب، والالتزام بإطلاق سراح الرهائن، واستعدادها لتسليم إدارة غزة إلى لجنة انتقالية فلسطينية من التكنوقراط المستقلين، ليؤكد البيان العربي-الإسلامي على رفض أي تهجير للفلسطينيين أو تهديد لأمن المدنيين، مع دعم عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة وتوحيدها مع الضفة الغربية، واعتبار هذه التطورات وغيرها خطوة تمهيدية نحو السلام العادل وحل الدولتين.

قبل التطورات الأخيرة وخلال الأسابيع التي سبقت إعلان خطة ترمب ارتفعت حدة المواقف الخليجية خصوصا بعد إعلان الحكومة الإسرائيلية توجهها للسيطرة على الضفة الغربية، وبعدها الغارات الإسرائيلية التي استهدفت في قطر مراكز وبيوت لقياديين في حركة "حماس".

هذا الحراك العنيف سبقته خلال العامين الماضيين، حركة سعودية على اتجاهين، الأول الدعوة لمؤتمرات لبحث الملف الغزاوي وعبره الفلسطيني، والثاني العمل على الدعوة لحل الدولتين والحصول على اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، فيما استمرت قطر بالعمل على ملف الوساطة الذي رفضت التخلي عنه رغم الضربات الإسرائيلية.

لم يكن مفاجئا ورود اسم توني بلير في الخطة، فهو لم يغب يوما عن دوائر النقاش المتعلقة بالشرق الأوسط

المواقف الخليجية كانت منذ يومها الأول واضحة لجهة عدم تحميل الفلسطينيين في غزة مسؤولية ما قامت به حركة "حماس" من هجمات على البلدات الإسرائيلية المحاذية لغلاف القطاع، وبرزت مواقف الدول بالتضامن الإنساني والسياسي مع الفلسطينيين، وانخراط دبلوماسي في الأمم المتحدة ومد جسر من المساعدات المستمرة.

خطة ترمب ومستقبل غزة

في أواخر سبتمبر/أيلول 2025، طرح ترمب خطته من 20 نقطة لإنهاء الصراع، الأهم فيها وضع غزة تحت إدارة هيئة دولية انتقالية أُطلق عليها اسم "مجلس السلام"، برئاسة ترمب شخصيا، وتضم أعضاء دوليين من بينهم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير. هذه الهيئة ستشرف على لجنة تكنوقراط فلسطينية لإدارة الشؤون اليومية للقطاع، وتمويل إعادة الإعمار، إلى حين تمكين السلطة الفلسطينية "بعد إصلاحها" من تولي المسؤولية.

أ.ف.ب
اجتماع متعدد الأطراف لمناقشة الوضع في غزة، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في مدينة نيويورك في 23 سبتمبر 2025

طرحت الخطة جدلا واسعا، فبينما رأى فيها البعض فرصة لوقف نزيف الدم وبدء إعادة الإعمار وأبرز من قاد هذا الموقف هو الدول الخليجية، رفضها آخرون، معتبرين أنها تهدف إلى إقصاء الفصائل الفلسطينية بشكل كامل عن حكم غزة وتفرض وصاية دولية تهمش الدور الفلسطيني في تقرير مصيره.

بلير... رجل الماضي إلى صدارة المشهد

لم يكن مفاجئا ورود اسم توني بلير في الخطة، فهو لم يغب يوما عن دوائر النقاش المتعلقة بالشرق الأوسط، بعدما شغل منصب مبعوث اللجنة الرباعية الدولية سابقا، عاد ليُطرح كشخصية محورية في إدارة مرحلة ما بعد الحرب في غزة، دوره المقترح في "مجلس السلام" يضعه في موقع المسؤول المباشر عن رسم التوجهات السياسية والاستراتيجية والأمنية للقطاع.

حضور بلير من ضمن الخطة وتركيزه على الحلول الاقتصادية والإدارية يضع دول الخليج أمام مرحلة جديدة من دعم الشعب الفلسطيني، ويدفع هذه الدول لتقديم دور إضافي بالملف السياسي للقطاع وتأكيد العمل المستمر بسبيل حل الدولتين، ومنع خلق كيان منفصل في قطاع غزة.

حافظت الرياض على قنوات التواصل مع الولايات المتحدة وأوروبا، لمنع أي إجراءات تؤدي لخسارة الفلسطينيين لأرضهم، وأكدت على أن دعمها السياسي للقضية لا يتعارض مع مصالحها الاستراتيجية

الرياض... حلم الدولة

منذ بداية الحرب حرصت السعودية على صياغة خطاب متوازن، عبر وزارة خارجيتها التي أكدت يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على الدعوة إلى وقف فوري للتصعيد، رابطة الأزمة بجذورها، أي الاحتلال وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم المشروعة.

هذا الخطاب تدرج صعودا أمام حجم الهجمات ضد المدنيين وتهجيرهم مع تطورات الحرب في غزة، واتساعها إلى لبنان، لترفع الرياض من سقف مواقفها الرافضة لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين أو تغيير الديموغرافيا في القطاع والضفة الغربية.

استعجلت الرياض بالدعوة لقمة عربية وأخرى إسلامية في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 وتركز النقاش على بحث الموقف من الحرب والدعوة لوقف النار وحماية المدنيين ورفض أي محاولات لتهجير سكان القطاع.

التحرك الدبلوماسي السعودي عمل على خط مواز ليصل خلال 2024 إلى إطلاق مبادرة مع فرنسا في الأمم المتحدة لإحياء مسار حل الدولتين المعروفة باسم "مؤتمر نيويورك للسلام"، هذه الخطوة لم تكن مجرد إعلان نوايا، بل مثلت محاولة لإعادة إحياء الإجماع الدولي حول قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.

أ.ف.ب
صورة جماعية لقادة دول مجلس التعاون الخليجي خلال القمة العربية الإسلامية الطارئة لعام 2025 في الدوحة في 15 سبتمبر 2025

وفي سبتمبر/أيلول 2025 عقد في الأمم المتحدة "المؤتمر الدولي للتسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين" برئاسة مشتركة من السعودية وفرنسا، وصدرت وثيقة "إعلان نيويورك بشأن التسوية السلمية لمسألة فلسطين وتنفيذ حل الدولتين" بعد تصويت 142 دولة من أصل 193، ودعت الوثيقة إلى وقف دائم للنار في غزة وإطلاق سراح جميع الرهائن وإيصال المساعدات الإنسانية ووقف الإجراءات الأحادية التي تقوض السيادة الفلسطينية.

حافظت الرياض على قنوات التواصل مع الولايات المتحدة وأوروبا، لمنع أي إجراءات تؤدي لخسارة الفلسطينيين لأرضهم، وأكدت على أن دعمها السياسي للقضية لا يتعارض مع مصالحها الاستراتيجية، موضحة أن أي تقدم في ملف التطبيع مرهون بقيام دولة فلسطينية.

وقّعت الإمارات اتفاقيات إبراهام عام 2020 على أساس رؤية أن الاستقرار الإقليمي يفتح الباب أمام التعاون الاقتصادي والتكنولوجي، ويؤدي إلى حل الأزمات في المنطقة وخصوصا القضية الفلسطينية

الوسيط المستهدف... قطر وأمر تنفيذي غير مسبوق

تاريخيا، بنَت قطر لنفسها دور الوسيط في ملفات عدة معقدة بالمنطقة والعالم، لكن استهدافها بغارات إسرائيلية في سبتمبر 2025 وضع هذا الدور أمام اختبار قاس. فبعد الغارات الإسرائيلية وقبلها الهجمات الإيرانية بالصواريخ، جاء التحرك الأميركي ليعيد رسم قواعد الاشتباك، ففي خطوة غير مسبوقة، وقع ترمب أمرا تنفيذيا بعنوان "ضمان أمن دولة قطر"، اعتبر فيه أن "أي هجوم مسلح على أراضي دولة قطر أو سيادتها أو بنيتها التحتية الحيوية هو تهديد لسلام وأمن الولايات المتحدة". وتعهد الأمر بأن واشنطن ستتخذ "كافة الإجراءات القانونية والمناسبة، بما في ذلك الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية إذا لزم الأمر" للدفاع عن مصالحها ومصالح قطر. هذا الأمر التنفيذي، الذي تزامن مع تسهيل ترمب لمكالمة اعتذار من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للقيادة القطرية، شكل تحولا استراتيجيا، حيث منح الدوحة ضمانات أمنية شبيهة بتلك التي يتمتع بها حلفاء "الناتو"، وثبت دورها كوسيط لا يمكن الاستغناء عنه، ما ساعدها في دفع "حماس" إلى الموافقة على خطة وقف النار.

خلال العامين الماضيين استقبلت الدوحة مسؤولين إسرائيليين على مستوى عال ومعهم وفود من المفاوضين الذين قضوا أشهرا يبحثون مع وفود أخرى عمليات إطلاق الرهائن ووقف المعارك لفترات محدودة، ولكن هذا الدور غير العادي لم يشفع للدوحة لمنع الغارات الإسرائيلية التي طالت دولة خليجية للمرة الأولى.

(أ.ف.ب)
ترمب ونتنياهو في مؤتمر صحافي في البيت الأبيض، في 29 سبتمبر

وسبق الغارات الإسرائيلية، إطلاق إيران صواريخ باليستية استهدفت قاعدة العديد الأميركية، في رسالة عسكرية إقليمية أربكت حسابات الدوحة ووضعتها في قلب العاصفة، فهي من جهة وسيط ضروري لا غنى عنه بالنسبة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومن جهة أخرى أصبحت مستهدفة من طرفين رئيسين في الصراع.

جاء الضغط العسكري على قطر ليطرح سؤلا جوهريا حول إمكانية أن تبقى الدوحة وسيطا آمنا وهي نفسها ساحة استهداف، ما يمنع إمكانية التوصل لحل لقضية غزة وهو ما يحتاجه المتطرفون على جهتي الحرب. وقد عُقدت قمة عربية إسلامية طارئة في الدوحة تحت مظلتي الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، أدانت الهجمات وأكدت على دعم الوساطة بقيادة قطر ومصر والولايات المتحدة لوقف الحرب في غزة وإطلاق الرهائن.

اختبار بحساسية عالية

وقّعت الإمارات اتفاقيات إبراهام عام 2020 على أساس رؤية أن الاستقرار الإقليمي يفتح الباب أمام التعاون الاقتصادي والتكنولوجي، ويؤدي إلى حل الأزمات في المنطقة وخصوصا القضية الفلسطينية، لكن هجوم السابع من أكتوبر شكّل لحظة اختبار صعبة لهذه المقاربة.

التزمت الإمارات حل الدولتين وواصلت إبراز مسار الاتفاقات باعتباره "قناة للتأثير الإيجابي" لكنها وجدت نفسها أمام تباينات متزايدة مع مواقف حكومة نتنياهو وخصوصا التصريحات حول نية السيطرة على الضفة الغربية وإلغاء أي أفق لحل الدولتين.

خطة ترمب جاءت بعد أحداث كثيرة، منها الضربات الأخيرة في قطر و"مؤتمر نيويورك للسلام" والدعم الدولي لحل الدولتين والاعتراف العالمي بدولة فلسطين

في ربيع عام 2025 صدرت إشارات من أبوظبي تظهر "حساسية عالية" تجاه مواقف إسرائيلية، تشير إلى أن استمرار السياسات الأخيرة لتل أبيب يقوض فرص الشراكة، وأن أي تجاهل لحل الدولتين هو "خط أحمر" لتؤكد هذه التصريحات أن هناك حدودا للتحولات بالإضافة إلى عدم التسامح مع استمرار الحرب من دون أفق سياسي.

خلال الساعات الأولى للضربة التي تعرضت لها الدوحة، حضر رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد إلى قطر، كأول مسؤول عربي يصل متضامنا مع دولة قطر، الشريك في مجلس التعاون الخليجي، ما وصف بالإشارة الواضحة للتوجهات في أبوظبي رفضا للتطرف على كل الجبهات.

أ.ف.ب
أطفال ينظرون من ثقب خلف خيمة في مخيم للنازحين شمال النصيرات، وسط قطاع غزة، في 7 أكتوبر 2025

ما سمي "الواقعية الإماراتية" جاء متناسقا مع خطوات الدول الخليجية الأخرى، والهدف عدم دفع أثمان باهظة مقابل الحصول على تنازلات تؤدي لوقف الحرب وتحقيق توقعات ضمن أفق سياسي عملي، وليس طروحات غير واقعية.

خطة ترمب جاءت بعد أحداث كثيرة، منها الضربات الأخيرة في قطر و"مؤتمر نيويورك للسلام" والدعم الدولي لحل الدولتين والاعتراف العالمي بدولة فلسطين وهذه كلها ليست مجرد أحداث عابرة، بل أدت لفتح الباب أمام ترتيبات جديدة مرتبطة بالواقع الحالي. والثابت حتى الآن أن الخليج لم يكن يوما على هامش القضية الفلسطينية، بل هو لاعب رئيس يمتلك النفوذ الدبلوماسي وقنوات الوساطة. ومع كل ضربة أو مبادرة، يتضح أن مستقبل المنطقة يُرسم بقدر ما تملك هذه الدول من قدرة على الموازنة بين "التاريخ والمصالح، العاطفة والعقل، المبادئ والبرغماتية".

font change

مقالات ذات صلة