وقف إطلاق النار في غزة... ترمب يعرف متى وأين يضغط على إسرائيل

العصب الحساس في المجتمع الإسرائيلي

أ.ف.ب
أ.ف.ب
لوحة إعلانية لصورة الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع رسالة تشكره على التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، تل أبيب في 9 أكتوبر 2025

وقف إطلاق النار في غزة... ترمب يعرف متى وأين يضغط على إسرائيل

بين إعلان ترمب موافقة "حماس" وإسرائيل على المرحلة الأولى من "خطة السلام" التي قدّمها، وما تعيشه المنطقة من ترقّب مشوب بالأسئلة، يتأرجح المشهد بين أمل بنهاية وشيكة لصراع دام عامين، وخشية من أن يكون هذا الإعلان مجرد فصل جديد في مسلسل التسويات الناقصة.

فرغم تعدد المؤشرات التي توحي بأن نهاية النزاع باتت أقرب من أي وقت مضى، فإن الطريق لا يزال محفوفا بعقبات قد تجعل من خطة ترمب إما "الصفقة التي تنهي الصفقات" أو تجربة أخرى تنضم إلى أرشيف المحاولات الفاشلة لإنهاء سلسلة الحروب الممتدة.

ما المختلف عن المحاولات الفاشلة السابقة لإنهاء الحرب؟

أول ما يلفت الانتباه هو الواقع الميداني للصراع. فبرغم تمسّك بعض المسؤولين الإسرائيليين برؤية تقضي بمواصلة الضغط العسكري، تشير الوقائع إلى أن الجيش الإسرائيلي، بقيادة نتنياهو، استنفد معظم ما في جعبته من خيارات.

فقد ادعى الزعيم الإسرائيلي أن هجوم رفح في عام 2024 سيكون كفيلا بدفع "حماس" إلى طاولة التفاوض. كما راهن على إعادة هيكلة آلية توزيع المساعدات عبر "مؤسسة غزة الإنسانية" المعتمدة من إسرائيل، لإضعاف الحركة ماليا. وحتى الهجوم الجديد الذي نُفذ هذا العام، تحت شعار السيطرة الكاملة على غزة، اعتُبر مؤشرا على اقتراب المهلة من نهايتها.

ومع تصاعد الضغط، لم تتردّد إسرائيل في توسيع نطاق أهدافها، وصولا إلى استهداف قيادة "حماس" في قطر، في خطوة فسّرها مراقبون على أنها رسالة إلى الدوحة: الحرب لن تتوقف عند حدود غزة، إن لم تتحركوا للضغط على "حماس".

وبينما قد يرى نتنياهو أن الاتفاق جاء نتيجة هذا التصعيد، فإن الواقع يُظهر أن المضي قدما في هذا الاتجاه كان سيتطلب ثمنا سياسيا وعسكريا باهظا، لا يبدو أن إسرائيل كانت مستعدة لدفعه.

الجيش الإسرائيلي استنفد معظم ما في جعبته من خيارات

من جهة أخرى، كانت هناك دعوات داخل الحكومة الإسرائيلية، لا سيما من أقطاب اليمين المتطرف، لاحتلال مدينة غزة بالكامل. غير أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية رفضت المقترح، واعتبرته خطوة انتحارية من شأنها إشعال تمرد طويل الأمد وتوسيع عزلتها الدولية.

العامل الثاني والحاسم وراء هذا الاختراق المفاجئ واضح: يبرز دور الرئيس ترمب بوصفه المحرك الأبرز للمبادرة. فبغض النظر عن الموقف منه، يعرف الرجل متى وأين يضغط. لم يأتِ هذه المرة بخطة مفصّلة، بل بورقة واحدة تحمل مجموعة مبادئ مباشرة. على رأسها، مطالبة "حماس" بالإفراج الفوري عن جميع الرهائن.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب في البيت الأبيض في واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، 8 أكتوبر 2025

هذه الخطوة أصابت عصبا حساسا في المجتمع الإسرائيلي، حيث ظل هاجس احتجاز الرهائن ورقة ضغط في يد "حماس". غير أن ترمب لم يطرح عملية تدريجية، بل تحدّث عن الإفراج الشامل، دفعة واحدة، عن جميع الرهائن الأحياء. وهو ما شكّل ضغطا سياسيا هائلا على نتنياهو، يتجاوز الحسابات العسكرية، ويضرب في صميم المشهد الشعبي الغاضب.

وقد ذكّره ترمب، وفق ما نقل موقع "أكسيوس"، بصورة من إحدى المظاهرات التي خرجت في تل أبيب، وقال له: هذا ما يطالب به الناس أسبوعا تلو الآخر. وعندما بدا نتنياهو مترددا، كان رد ترمب حادا: خذ ما هو مطروح ولا تكن سلبيا إلى هذا الحد اللعين.

إنها، مرّة أخرى، معادلة النصف الممتلئ من الكأس في مقابل النصف الفارغ، لكن هذه المرة، تدور حول أرواح بشرية، لا حول حسابات سياسية فحسب.

معادلة النصف الممتلئ من الكأس في مقابل النصف الفارغ، لكن هذه المرة تدور حول أرواح بشرية، لا حول حسابات سياسية فحسب

من زاوية أخرى، كان واضحا أن الرئيس الأميركي يدرك مسبقا أن مطالبة "حماس" بالإفراج عن جميع الرهائن دفعة واحدة لن تكون مقبولة لدى الحركة. فسرعان ما خرجت تصريحات من قياديين في "حماس"، خلال الأيام التي أعقبت الإعلان عن الخطة، وصفوا فيها هذا الطرح بأنه غير واقعي.

في ظل ذلك، لم يُمارس الضغط على الحركة بشكل مباشر، بل جرى تمريره عبر قناتين أساسيتين: تركيا وقطر. وهنا برز أحد الفروقات الجوهرية بين هذه الجولة من المفاوضات وسابقاتها، إذ شارك وفد تركي رسمي بقيادة إبراهيم كالين، رئيس جهاز الاستخبارات التركي والمقرّب من الرئيس رجب طيب أردوغان، في الجهود الدبلوماسية. وتملك أنقرة من النفوذ على "حماس" ما يماثل– أو حتى يتجاوز– ما لدى الدوحة.

أما خلف هذين الوسيطين، فكانت هناك جبهة عربية أوسع تضم مصر وعددا من دول الخليج، عبّرت بوضوح عن أن بقاء "حماس" في الحكم لم يعد خيارا مقبولا، وأن عليها الانخراط في الاتفاق دون مماطلة. وقد جاء هذا الموقف الموحد في لحظة تراجع فيها الدور الإقليمي التقليدي لإيران، الداعم الأبرز لـ"حماس"، إذ لم يتجاوز ردّ طهران تحريك وكلائها في اليمن لإطلاق طائرات مسيّرة وصواريخ على فترات متقطعة، دون تأثير حقيقي على المعادلة.

رويترز
رجل يرتدي قميصا بألوان العلم الأميركي، وامرأة ترتدي العلم الإسرائيلي على كتفيها، يحتفلان بعد أن أعلن الرئيس الأميركي أن إسرائيل وحماس اتفقتا على المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار في غزة، في "ساحة الرهائن"، في تل أبيب، 9 أكتوبر 2025

ولم يخلُ الاتفاق من أدوات ضغط إضافية، استخدمها ترمب وشركاؤه العرب بذكاء. فحتى في حال رفضت "حماس" التوقيع، فإن جزءا من الخطة سيبدأ تنفيذه على أي حال. وتشمل هذه الإجراءات زيادة كبيرة في المساعدات المخصصة لغزة، إلى جانب نشر قوة أمنية دولية في مناطق توصف بـ"الآمنة"، لتكون بديلا عن بقاء جيش الاحتلال الإسرائيلي. وهي صيغة أثارت قلقا كبيرا لدى "حماس"، إذ قد تجد نفسها في مواجهة قوة منظمة، فلسطينية الطابع ومدعومة من دول عربية، بما يهدد مكانتها السياسية والأمنية على الأرض.

قد يُطرح سؤال هنا: هل كان هذا مجرد تهديد تكتيكي؟ تنفيذ قوة أمنية دولية ليس مسألة بسيطة بطبيعة الحال، إلا أن الإجابة في الوقت الراهن لا تُغير من واقع أن الضغط قد حقق هدفه. أما على المدى البعيد، فقد تكون لهذه الخطوة تبعات استراتيجية عميقة.

وقد كان لا بد من هذا المستوى من الضغط، لأن جوهر الاتفاق– نظريا على الأقل– يستدعي من "حماس" القبول بفكرة نزع السلاح. وهنا تحديدا يتجلى الفرق المفصلي بين هذا الاتفاق وسابقاته. فمسألة نزع السلاح لم تغب عن أي مبادرة تفاوضية في السابق، غير أن إسرائيل طالما أصرت على أن الحل الدائم يجب أن ينهي حكم "حماس" في غزة من جهة، ويضمن تحييدها كقوة مسلحة من جهة أخرى.

حتى اللحظة، لم تُصدر الحركة موقفا واضحا تجاه هذه الشروط. فالتصريحات جاءت مبهمة، إن لم تكن ملتوية، بينما تحاول قيادة "حماس" الآن رسم حدود غامضة بين ما تسميه أسلحة دفاعية وأخرى هجومية. وقد تقبل، على سبيل المثال، بتفكيك ترسانتها من الصواريخ، دون المساس ببنية تسليحية أوسع.

هذا التفصيل قد لا يكون ذا أثر مباشر الآن، لكنه سيكون حاسما في المراحل المقبلة. أما في المرحلة الحالية، فإن مجرد إدراج مسألة نزع السلاح ضمن نص الاتفاق، وموافقة "حماس" المبدئية عليه، يوفران لنتنياهو فرصة لتقديم الاتفاق باعتباره إنجازا سياسيا، وربما نصرا كاملا، كما وعد مرارا.

ليست الاتفاقات محض نصوص تُوقّع فحسب، بل هي كذلك أدوات لإعادة ترتيب المواقف، وامتصاص الضغوط الداخلية، وصياغة سرديات الانتصار

فليست الاتفاقات محض نصوص تُوقّع فحسب، بل هي كذلك أدوات لإعادة ترتيب المواقف، وامتصاص الضغوط الداخلية، وصياغة سرديات الانتصار. وهنا تحديدا تتقاطع السياسة مع جوهر الحدث. إذ دخلت إسرائيل رسميا عاما انتخابيا، ومن المقرر أن تُجرى الانتخابات بحلول أكتوبر من العام المقبل، بغض النظر عمّا إذا استمر الائتلاف الحاكم الحالي أم انهار في الطريق.

وفي حال تسبّب الاتفاق في سقوط حكومة نتنياهو، فلن يخسر إلا أشهرا معدودة، فحلّ الكنيست يؤدي تلقائيا إلى انتخابات خلال ثلاثة أشهر فقط.

أ.ف.ب
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واشنطن في 29 سبتمبر 2025

غير أن الطريق إلى ذلك ليس خاليا من التحديات. فحلفاء نتنياهو من اليمين المتطرف، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، أعربوا عن رفضهم للاتفاق، وقد يغادرون الحكومة احتجاجا. ومع ذلك، لا تزال أمام نتنياهو فرص للمناورة. فقد ينجح في إقناع أحد الحليفين بالبقاء، أو يعوّل على دعم المعارضة التي أبدت استعدادها لتأمين الغطاء السياسي اللازم لتمرير الاتفاق.

ويستند نتنياهو في ذلك إلى تجربة سابقة، حين وافق على وقف لإطلاق النار في يناير/كانون الثاني الماضي. وقتها، انسحب بن غفير مباشرة، بينما قرر سموتريتش البقاء، مشيرا إلى أنه لن ينسحب ما لم تُنهِ الحكومة الحرب دون القضاء على "حماس". ومن الممكن أن يتكرر هذا السيناريو. فحتى الآن، جاء أول تصريحات سموتريتش بنبرة متوازنة نسبيا، تحدّث فيها عن مشاعر متباينة، دون أن يُلوّح بالاستقالة.

إذا اختار سموتريتش البقاء، يمكن للائتلاف الحكومي أن يواصل صموده. وإذا انسحب، قد تفضّل المعارضة الإبقاء على الكنيست دون حله، ضمانا لتمرير الاتفاق. ففي نهاية المطاف، الانتخابات قادمة، عاجلا أم آجلا.

المرحلة الحالية من الاتفاق تمثل الخطوة الأولى فقط، وهي أشبه بممر إجباري نحو تسوية شاملة لا تزال بعيدة المنال

لكن، من الخطأ الاعتقاد بأن ما تحقق يُعدّ نهاية المطاف. فالمرحلة الحالية من الاتفاق تمثل الخطوة الأولى فقط، وهي أشبه بممر إجباري نحو تسوية شاملة لا تزال بعيدة المنال. ولهذا السبب لم يُعلن عن الشروط النهائية بشكل واضح، لأن ما ينتظر لاحقا مفاوضات أطول وأعقد.

ستُطالب إسرائيل بنزع فعلي وكامل لسلاح "حماس"، وقد تلجأ إلى التهديد باستئناف العمليات العسكرية إذا شعرت بأن المفاوضات تفتقد إلى الجدية، أو أن "حماس" تناور وتراوغ.

رويترز
شخصان يتعانقان بجوار لافتة لصور رهائن في "ساحة الرهائن"، بعد الاعلان عن الاتفاق على المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار في غزة، في تل أبيب، إسرائيل، 9 أكتوبر 2025

لذا، فإن المسار يتطلب ضغوطا دبلوماسية مكثفة، وتدخّلا مباشرا ومستمرا من ترمب نفسه. فالرئيس الأميركي، الذي يصف نفسه بـ"صانع الصفقات"، قد ينجح في قيادة هذه المرحلة، لكن يبقى السؤال: هل سيواصل اهتمامه إذا تعطلت المفاوضات؟ أو إن نال ما يطمح إليه من اعتراف عالمي، وربما جائزة نوبل للسلام؟

في محاولة لتفادي هذا السيناريو، تضمّن الاتفاق تعيين ترمب رئيسا لـ"مجلس السلام"، الهيئة الجديدة المكلّفة بالإشراف على إعادة الإعمار في غزة، والإشراف على المرحلة الانتقالية. وهي خطوة تعكس إدراكا مسبقا لمخاطر تراجع اهتمام واشنطن.

غير أن السؤال المفتوح يبقى قائما: هل سيرقى هذا المجلس فعلا إلى مستوى اسمه؟

font change

مقالات ذات صلة