طوال العامين الماضيين من حرب الإبادة الوحشية التي شنتها إسرائيل ضد فلسطينيي غزة، ظهرت دعوات تنادي بعدم انتقاد "حماس" على خيارها المتمثل بعملية "طوفان الأقصى"، في تناسٍ لحقيقة أن مشكلة الفلسطينيين لا تكمن في كثرة النقد وإنما في ندرته، في واقع حركة وطنية عمرها 60 عاما، مع كل تلك التجارب والتضحيات والمعاناة والبطولات، لم تستطع أن تحقق ما يتناسب معها، في حين لم تلجأ ولا مرة لمراجعة، أو نقد، أو مساءلة، لتجاربها وخياراتها السياسية والكفاحية، لا في الأردن، ولا في لبنان، ولا في الأرض المحتلة.
مشكلة تلك الدعوة، أيضا، أنها تحجب أو تراوغ على حقيقة مفادها أن النقد لا ينصبّ على المقاومة بحد ذاتها، فهذه عمل مشروع، وردة فعل إنسانية طبيعية لشعب يناهض الاحتلال والظلم، في حين ينصب النقد على خيار معين انتهجته قيادة "حماس"، كالذهاب إلى حرب جيش مقابل جيش، وصاروخ لصاروخ، ووفق مفهوم "الضربة القاضية"، وليس ضمن مفهوم حرب الشعب طويلة الأمد، أو حرب العصابات التي ترفع الاحتلال بالتدريج.
وقد شهدنا أن "حماس" ذهبت إلى "الطوفان" من دون التبصّر بعواقبه، وعلى أساس المبالغة بقدراتها، وقصور نظرتها لموازين القوى والمعطيات العربية والدولية، ووفق رؤية قدرية، تنبني على أوهام أن إسرائيل "أوهن من خيوط العنكبوت"، وأنها آيلة إلى انهيار، كما تنبني على المراهنة على "وحدة الساحات" وتدخل الملائكة، مع العالمين العربي والإسلامي.
بيد أن اللافت، الآن، أن أصحاب تأجيل النقد انتقلوا، مؤخرا، إلى ضفة أخرى، باعتبارهم أن المقاومة انتصرت، لمجرد أنها لم تعترف بأنها هزمت، ما يذكر بخطابات الأنظمة العربية التي ادعت أنها لم تهزم في حرب 1967 لمجرد أنها بقيت في الحكم.
الآن، بعد أن توقفت الحرب، يجدر بنا مساءلة قيادة "حماس" عن خياراتها، وهذا ليس فيه جلدٌ للضحية، لأن الضحية هنا هي الشعب الفلسطيني، فهو الذي دفع باهظا ثمن هذه النكبة المهولة
أيضا، فإن حديث "الانتصار" يفيد بتحميل "حماس" مسؤولية هزيمة إسرائيل، وهذا غير واقعي، ويحمل تلك الحركة فوق احتمالها بكثير، علما أن هكذا استنتاج، عدا عن أنه منفصم عن الواقع، يفيد بأن هزيمة فصيل من فصائل المقاومة بمثابة هزيمة، أو استسلام، للشعب الفلسطيني، وهذا غير صحيح البتة، بالمعنى التاريخي، علما أن إدراك واقع الهزيمة ليس عيبا، فهو شرط مصالحة مع الذات، للنهوض مجددا، بناء على الدروس المكتسبة.
والآن، بعد أن توقفت الحرب، ولنأمل أنها توقفت نهائيا، يجدر بنا مساءلة قيادة "حماس" عن خياراتها، وهذا ليس فيه جلدٌ للضحية، كما يخاتل البعض، لأن الضحية هنا هي الشعب الفلسطيني، فهو الذي دفع باهظا ثمن هذه النكبة المهولة. والسؤال هنا يبتغي طرح الأسئلة الصحيحة لصالح الشعب، وحركته الوطنية، عن الرؤى السياسية الجامعة، وعن الاستراتيجيات الكفاحية، التي تصب في تحقيق إنجازات سياسية، بدل أن تصبّ في تبديدها.
في مستهل عملية "الطوفان"، تحدث محمد الضيف القائد العسكري لـ"حماس" عن أسباب العملية (7/10/2023) بقوله: "هذا يومكم لتُفْهِموا هذا العدو المجرم أنه قد انتهى زمنه... قاتلوا والملائكة سيقاتلون معكم مُردفين... اليوم يومكم لتكنسوا هذ المحتل ومستوطناته عن كل أرضنا في الضفة الغربية... اليوم، اليوم، كل مَن عنده بندقية فليُخرجها، فهذا أوانها. ومَن ليس عنده بندقية، فليخرج بساطوره، أو بلطته، أو فأسه، أو زجاجته الحارقة، بشاحنته، أو جرافته، أو سيارته. اليوم، اليوم، يفتح التاريخ أنصع وأبهى وأشرف صفحاته...".
وباختصار، فإن "حماس" أخذت هذا الخيار، لتحقيق عدة أهداف، أهمها كنس الاحتلال من الضفة الغربية، والتخلص من الاستيطان، ورفع الحصار عن قطاع غزة، ووقف الانتهاكات الإسرائيلية في القدس والمسجد الأقصى، وتبييض السجون، ووقف المجازر وهدم البيوت.
لكن ما تبين أن تلك الأهداف لم تكن واقعية، لا في الشهر الأول، ولا في الأشهر التالية، ولم يتحقق شيء منها، بل بالعكس، إذ وجدت إسرائيل، في ظل حكومتها اليمينية-الدينية المتطرفة، في تلك العملية فرصة سانحة لها للمضي بمخططها في تعزيز هيمنتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، حتى إنها توسعت، في نهاية العام الأول من تلك الحرب، إلى لبنان وسوريا وحتى إيران، بحيث استطاعت هزيمة كل ما يسمى محور "المقاومة والممانعة"، بطريقة سريعة، ومفاجئة، ومريعة، ومع ذلك ما زال البعض يعيش منفصما عن الواقع، باعتباره أن إسرائيل لم تحقق أهدافها، رغم أنها فعلت كل ذلك بالفلسطينيين وبالمنطقة!
ما يفترض إدراكه هنا أن الأساس في المقاومة أنها مقاومة شعب، وليس فصائل، وأن لا قيمة لمقاومة مسلحة إذا لم تتوفر لها موازين قوى، ومعطيات عربية ودولية مناسبة
هكذا تبين قصور إدراكات قيادة "حماس" لموازين القوى، ولواقع تفوق إسرائيل، بالنيران وبالقدرة التدميرية وبالاستخبارات والتكنولوجيا وبإدارة الموارد، وأيضا بالدعم الأميركي اللامحدود، الذي يضمن لإسرائيل أمنها وتفوقها، ولا يسمح بإحراز غلبة عليها، لا بالجملة، ولا بالنقاط. وهو ما جرى. وهذا ما تضمن في نقاط ترمب العشرين، التي تم التوافق عليها من أطراف عربية ودولية، ووافقت عليها قيادة "حماس" أيضا. وهي نقاط حاولت تبييض صفحة نتنياهو، عربيا ودوليا، بتجاهلها جرائم حرب الإبادة، وبفرضها وصاية على غزة، وبتجاهلها أي بعد فلسطيني في اليوم التالي، لا "حماسستان" ولا حتى "فتحستان".
في المحصلة فقد تغولت إسرائيل في الضفة التي باتت محشوة بالنقاط الاستيطانية مع تحول المستوطنين إلى ميليشيا عسكرية، مع تكريس انتهاكاتها في القدس، أما قطاع غزة فتم تدميره بالكامل تقريبا، وبات منطقة غير صالحة للعيش، مع ربع مليون ضحية، بين قتلى وجرحى ومعتقلين ومفقودين تحت الركام، ومليونين باتوا يفتقدون لمأوى ولموارد ولبني تحتية. هذه هي المحصلة الحقيقية للحرب الوحشية التي شنتها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
ما يفترض إدراكه هنا أن الأساس في المقاومة أنها مقاومة شعب، وليس فصائل، وأن لا قيمة لمقاومة مسلحة إذا لم تتوفر لها موازين قوى، ومعطيات عربية ودولية مناسبة، وتمكّن من الاستثمار بها سياسيا، كما لا قيمة لمقاومة مسلحة إذا كانت تؤدي إلى استنزاف شعبها، وزعزعة وجوده في أرضه، بدل استنزاف عدوها، وإذا كانت تقسّم شعبها بدل أن توحده.
مع ذلك يمكن الاتفاق مع مقولة أن "إسرائيل لم تحقّق أهدافها" في حال إخفاقها في نزع سلاح (حماس)، كسلاح للمقاومة، وليس لتعزيز سلطتها، وإذا لم تستطع إخراجها من المشهد الفلسطيني، وإذا لم تستطع احتلال أجزاء من غزة، وإذا لم تستطع دفع عشرات ألوف الفلسطينيين إلى مغادرة القطاع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ناعمة أو خشنة.
وبصراحة وبعيدا عن الشعارات والأوهام، ومع كل الاحترام للتضحيات والبطولات، فإن المرتجى الآن، وبعد كل ما جرى، بقاء الشعب الفلسطيني في أرضه، بأمان، وتمكينه من الصمود ومن أسباب الحياة، قبل أي شيء آخر.