وداعاً لـ "القوة الناعمة" في العالم

تأرجح العالم إلى أن جاء الغزو الروسي لأوكرانيا

وداعاً لـ "القوة الناعمة" في العالم

مع انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفياتي نهاية الثمانينات، روّج مفكرون وسياسيون لنظرية "القوة الناعمة"، أي انتهاء "صراع الحضارات" وطي صفحة سباق التسلح، بعد "فوز" النموذج الأميركي الحيوي على الترهل السوفياتي.

وقتذاك، بشّر الرئيس الأميركي جورج بوش حلفاءه وخصومه، بأن خفض الإنفاق الدفاعي سيعزز الرفاه الاجتماعي والازدهار الاقتصادي. قال في بداية عقد التسعينات، إن البشرية تستطيع جني مكاسب السلام بخفض ميزانيات الدفاع. وبالفعل، انتقلت أميركا من تخصيص 6 إلى 3 في المئة من ناتجها المحلي لميزانية الدفاع، خلال عقد التسعينات.

لمَ لا، وقد انتصر "الأمركة" على "السَفْيَتَة"، وعمّ الخير العالم، وبات الجميع يريدون تناول سندويشات "ماكدونالد" ويتبضعون الكافيين بين "كوكا كولا" و"ستاربكس"، بعدما انهار "شر" الاتحاد السوفياتي وكتلته الشرقية... دون أن تطلق رصاصة. هذه "االاجازة" و "الانتصار" كانا بين أسباب الاستثمار في البنى التحتية والتكنولوجيا والاقتصاد والعالم الافتراضي.

بعد ذلك، جاءت أحداث 11 سبتمبر/أيلول في العام 2011، وشكلت اختبارا جديا لهذه الأفكار أو الأحلام "الناعمة". بسرعة ماتت نظريات وبيانات "القوة الناعمة" على أسوار كابل وبغداد بالغزو الأميركي لافغانستان والعراق عامي 2011 و 2003. الذي "قتل" هذه النظرية هو ابن الرئيس الأميركي جورج بوش، الذي كان يدافع عنها. فائض القوة الأميركية، دفعها الى الانقلاب على ذاتها ونظرياتها.

تأرجح العالم لسنوات، بين نظريتي "القوة الناعمة" القائمة على الاقتصاد والأسواق، و"القوة الذكية" التي تجمع بين السيف والقلم، إلى أن جاء الغزو الروسي لأوكرانيا بداية العام الماضي.

كانت الحرب بمثابة انقلاب دولي، سرعان ما رمى به التوتر الأميركي– الصيني والحروب الإقليمية الكثيرة إلى مستوى آخر عزز اللجوء إلى "القوة الصلبة" وسباق غير مسبوق على التسلح بين القوى الكبرى والإقليمية. بلغة الأرقام، يقول المعهد الدولي لأبحاث السلام في استكهولم، إن الإنفاق الدفاعي في العالم العام الماضي، ارتفع نحو 4 في المئة ليصل إلى نحو تريليوني دولار أميركي.

الهدف الذي كان ينادي به الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بتخصيص أعضاء "حلف شمال الأطلسي" (الناتو) اثنين في المئة من ناتجهم الإجمالي لموازنة الحلف، بات أمرا واقعا

الهدف الذي كان ينادي به الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بتخصيص أعضاء "حلف شمال الأطلسي" (الناتو) اثنين في المئة من ناتجهم الإجمالي لموازنة الحلف، بات أمرا واقعا. الدولتان اللتان كانتا تخافان من "العسكرة" بسبب ماضيهما الإشكالي وهزيمتهما العسكرية، باتتا في طليعة من يطبقون نظرية "القوة الصلبة"؛ ألمانيا تخصص اثنين في المئة من ناتجها لموازنة "الناتو" فيما ستزيد بولندا حصتها إلى 4 في المئة، واليابان ستزيد نفقات الدفاع بمقدار الثلثين في السنوات الأربع المقبلة.

 ومن المتوقع أن ترتفع نفقات الدفاع 4 في المئة لتصل الى 700 مليار دولار في السنة، حسب مجلة "الايكونومست". الهند ستزيد موازنتها الدفاعية بنسبة 50 في المئة، في الوقت الذي تدخل فيه الصين الحلبة العسكرية من أوسع أبوابها بتعزيز جيشها وأسطولها البحري وصواريخها الفرط صوتية ومسيّراتها وسيطرتها على الفضاء والعالم الافتراضي؛ إذ نمت موازنتها الدفاعية بنحو 75 في المئة بالقيمة الحقيقية في السنوات العشر. كما أوصى الكونغرس الأميركي بزيادة إنفاق الدفاع بعد "تراخي" في الصرف، مع تعزيز تحالفات إقليمية مع أستراليا وبريطانيا واليابان لـ "تطويق" للصين.

هناك سباق تسلح. تلويح تعزيز وتلويح بالسلاح النووي. سباق للسيطرة العسكرية على الفضاء والصواريخ والمسيرات. على "عسكرة" الذكاء الاصطناعي. واضح أن هناك مخاضا كبيرا في العالم، جراء انتهاء القوة الأميركية والأحادية القطبية وبروز الدور الصيني والتعددية القطبية.

ذاك الشعور باللايقين لدى جميع الدول، الكبيرة والإقليمية، ما سيعزز نزعاتها الهجومية والاتجاه إلى تعزيز مواقعها بالقوة والتمدد عبر الحدود

كل هذا يعزز أربعة ملامح مقلقة في السنوات المقبلة:

الأول، ذاك الشعور باللايقين لدى جميع الدول، الكبيرة والإقليمية، ما سيعزز نزعاتها الهجومية والاتجاه إلى تعزيز مواقعها بالقوة والتمدد عبر الحدود إلى الدول المجاورة؛ تركيا وإيران نموذجان لتمددات وتوغلات في دول كثيرة من سوريا إلى العراق وصولا إلى أوكرانيا الذي بادرت روسيا الى عبورها حدودها.

الثاني، صراعات داخلية وبروز دور العسكر والانقلابات والتنافس بين الطامحين المحليين بالاعتماد على داعمين خارجيين، إقليميين ودوليين، والإفادة من التنافس بين نماذج دولية مختلفة. لم يعد النموذج الأميركي هو الوحيد، فهناك الصيني والروسي وغيرهما. ولا شك أن الانقلابات ومحاولات الانقلاب الكثيرة التي حصلت في العالم، دليل على ذلك. آخر الأمثلة الحارة، ذاك الصراع الشديد في السودان بين الجيش و"قوات الدعم السريع".

في حالة اللايقين والمخاض العسير و "العسكر"، باتت المسيرات والميلشيات بدائل للتمدد وكسب النفوذ بـأقل "الخسائر" البشرية والحربية

الثالث، تنامي اعتماد الدول الكبيرة والصغيرة على اللاعبين غير النظاميين. في حالة اللايقين والمخاض العسير و "العسكر"، باتت المسيرات والميلشيات بدائل للتمدد وكسب النفوذ بـأقل "الخسائر" البشرية والحربية. النموذج الروسي هو "فاغنر" والاميركي هو "بلاك ووتر"، اضافة الى مسيرات ايران وتركيا وتنظيماتهما.

الرابع، تحول الاستثمارات والأموال والابتكار من الساحات العلمية والاقتصادية إلى القطاعات العسكرية، ذلك أن شركات السلاح الخاصة باتت مزودا أساسيا لوزارات الدفاع في الدول الكبرى، إضافة إلى دخول المستثمرين قطاعات جديدة بينها السيطرة على الفضاء. من المؤشرات ارتفاع قيمة أسهم شركات السلاح في العالم.

ستصرف أموال كثيرة وتهدر دماء غزيرة وتجري تحولات كبيرة، قبل الوصول إلى صيغة جديدة

واضح أن العالم لا يزال في خضم تحولات كثيرة؛ أوكرانيا الآن وتايوان لاحقا ربما. ستصرف أموال كثيرة وتهدر دماء غزيرة وتجري تحولات كبيرة، قبل الوصول إلى صيغة عالمية بتحالفات إقليمية جديدة وخرائط جديدة غير تلك التي عرفناها في العقود المنصرمة.

font change