هل تنجح استراتيجية الأمن القومي الألمانية دون ردع؟

الدولة ليست مخولة فقط بحماية مصالحها بما يتجاوز العوائق القانونية ولكنها مخولة أيضا بالردع

AFP
AFP

هل تنجح استراتيجية الأمن القومي الألمانية دون ردع؟

لأول مرة في تاريخها الحديث، تفتخر جمهورية ألمانيا الاتحادية بطرح استراتيجية للأمن القومي. لكن المفارقة هي أن تقديم هذه الاستراتيجية احتاج لبناء تحالف ثلاثي الأطراف من الاشتراكيين الديمقراطيين-الاجتماعيين والليبراليين والخضر (البيئيين)، أي تحالف الأحزاب السياسية التي كانت غالبا ما تشكك في الحروب وأولوية الأمن.

ويبدو أن اختيار مصطلح "تقديم" هنا كان مناسبا، إذ لم يبدُ المسؤولون الحكوميون الذين عرضوا الاستراتيجية يوم الأربعاء الماضي أمام الصحافة شديدي الحماس لها. وكان "العقد الحكومي"، وهو مذكرة تفاهم تقليدية وقعتها أحزاب الائتلاف قبل تشكيل الحكومة في عام 2021، قد وعد بطرح خطة بشكل أو بآخر، لذا حان الوقت لتحقيق ذلك. وبينما قام حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ– والموجود اليوم في المعارضة– بحملة لم تؤت أكلها لإنشاء مجلس أمن قومي لألمانيا، لم يُظهر التحالف رغبة كبيرة في تبني مثل هذا المشروع.

Reuters
المستشار الالماني اولاف شولتز والامين العام لحلف النيتو جينس ستولتنبرغ يتحدثان الى الصحافيين في برلين في 19 يونيو

وفي نظام مثل ألمانيا، حيث تخضع شؤون الأمن الداخلي لنزاعات على النفوذ بين السلطات الإقليمية والفيدرالية على نطاق شبه شعبي، لم تستطع وزيرة الخارجية التي تنتمي لتحالف الخضر، والمستشار الاشتراكي الديمقراطي الوصول لاتفاق حول من سيتولى زمام الأمور في مثل هذا المجلس، لذلك قررا ببساطة التخلي عن هذه الفكرة.

وردت وسائل الإعلام الألمانية والخبراء الأمنيون بالمثل على العرض الفاتر للاستراتيجية بعد قراءتهم للتفاصيل؛ إذ تعرضت الحكومة للانتقاد لعرضها ما تريد فعله لجعل ألمانيا أكثر أمانا– دون توضيح الطريقة. ووفقا للجزء التحليلي في الوثيقة، فإن روسيا تمثل التهديد الرئيس للأمن في نظر الحكومة الألمانية، بينما اعتبرت الصين كجهة فاعلة مركبة؛ فهي شريك في عدة مجالات، لكنها منافس في عدد متزايد من المجالات الأخرى.

ويبدو أن الشرق الأوسط، الذي يُنظر إليه تقليديا في أوروبا على أنه مصدر دائم للمشاكل غير المتوقعة، يلعب دورا أقل أهمية بكثير في الاعتبارات الاستراتيجية للحكومة. ويستند هذا إلى ثلاث ركائز للأمن المتكامل، وهي رفع مستوى القدرات العسكرية والدفاعية الألمانية، وتعزيز مرونة المجتمع ضد التدخل الأجنبي، لا سيما من خلال نشر المعلومات المضللة والحرب الإلكترونية، والتنمية المستدامة. ويؤكد هذا العنصر الأخير الاعتقاد القوي في برلين بأن تهديدات مثل تغير المناخ ستؤدي إلى أزمة وجود في أوروبا وجوارها، وبالتالي يجب اعتبارها مخاوف أمنية. وحتى الآن، كل شيء ما زال على ما يرام، على الورق.

في نظام مثل ألمانيا، لم تستطع وزيرة الخارجية التي تنتمي لتحالف الخضر، والمستشار الاشتراكي الديمقراطي الوصول لاتفاق حول من سيتولى زمام الأمور في مثل هذا المجلس، لذلك قررا ببساطة التخلي عن هذه الفكرة

مع ذلك، قد يكون لدى ألمانيا خيار استراتيجي آخر يمكن أن تتخذه، وهو خيار لا يناقش كثيرا في الأماكن العامة ويتعلق بعقليتها الأمنية بدلا من مهاراتها الفنية؛ إذ لم تستفد أي قوة اقتصادية كبرى أخرى مثل ألمانيا مما يسمى عائدات السلام بعد نهاية الحرب الباردة. ويؤمن الألمان تقليديا بالمزايا الاقتصادية لنظام عالمي متعدد الأطراف يفضل التجارة على الهيمنة. وأثر هذا المنحى بشكل كبير على الناخب الألماني، لأن الدولة- في بعض الأحيان- فوضت ضمنيا حماية مصالحها الأمنية إلى حلفاء مثل الولايات المتحدة أو فرنسا. ولكن بصرف النظر عن القدرات النووية لهاتين الدولتين، هناك شيء آخر يميزهما عن ألمانيا، وهو قدرتهما واستعدادهما للردع، أو حتى أخذ مسائل الأمن القومي على محمل شخصي.

 

وقد يكون البحث عن الأدلة من خلال اللجوء إلى العالم العربي تشويهاً مهنياً لخبير في الشرق الأوسط مثلي. لكن المنطقة واللاعبين السياسيين يجعلون هذا الاختلاف واضحا إلى حد ما. إذ غالبا ما يتفاخر المعلقون الأوروبيون بالادعاء أن الولايات المتحدة قد انسحبت من الشرق الأوسط  لصالح خصومها الجيوسياسيين، وبالتالي لم يعد هناك داع للخوف منها. وفي حين أن الجزء الأول ربما يكون حقيقيا، إلا أن الادعاء الثاني لا يمكن أن يكون أكثر سخافة.

إذ يعرف قادة الشرق الأوسط جيدا أن أميركا ليست قادرة فحسب، بل إنها لن تتردد في استخدام قوتها المطلقة في كل مكان ضد أولئك الذين يهددون أمنها أو مصالحها الجيوسياسية. حاول أن تتجاوز بعض الخطوط مع الأميركيين، وستستيقظ غدا لتجد اسمك مدرجا على قوائم العقوبات في البنوك حول العالم، أو لربما ستجد طائرة (ريبر) مسيرة تحلق بشكل مفاجئ فوق مكان إقامتك في عطلة نهاية الأسبوع. 

AFP
زوار يستمعون الى شرح عن "المقاتلة الاوروبية" (يوروفايتر) في قاعدة كوفبورن جنوب المانيا في 17 يونيو

وحتى فرنسا، الأخت المفضلة لألمانيا في مشروع الحضارة العظيمة والقائم على القواعد والمسمى الاتحاد الأوروبي، يمكن أن تكون قاسية تماما عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي- والذي يشمل واجب حماية شرف الجمهورية. فالفرنسيون يقبلون بشكل كبير ودون جدال قيام الرئيس الفرنسي بإصدار مرسوم يحكم فيه بالإعدام على أفراد يشتبه بهم في التآمر لتنفيذ هجمات إرهابية.

أميركا ليست قادرة فحسب، بل إنها لن تتردد في استخدام قوتها المطلقة في كل مكان ضد أولئك الذين يهددون أمنها أو مصالحها الجيوسياسية

هذه التفاصيل جزء من إطار أوسع من العقليات الأمنية: وهي فكرة أن الدولة ليست فقط مخولة بحماية مصالحها بما يتجاوز العوائق القانونية، ولكنها مخولة أيضا بالقيام بالردع والمحاسبة. وبغض النظر عن التراث الإمبراطوري، يمكن للدولة، في حالات فرنسا والولايات المتحدة، أن تأخذ الأمور بشكل شخصي.

وبخلاف حلفائها الغربيين الرئيسين، لا تشارك جمهورية ألمانيا الاتحادية في أعمال نشر القوة خارج حدودها الإقليمية، والتي تماثل مناطق صلاحياتها. ولذلك، لم تشعر ألمانيا بالحاجة الملحة لتطوير نظام، ناهيك عن عقلية، للردع بخلاف تطبيقها للقانون.

كان الألمان، منذ نهاية الحرب الباردة، متشككين في ضرورة تعزيز أجهزتهم الأمنية. وكثيرا ما كانت صحة الانتقادات تثبت كلما أعطيت مساحة كبيرة جدا لمجتمع الاستخبارات. كما شكلت مغامرات التجسس الألمانية مهزلة كبيرة في بعض الأحيان؛ إذ اكتسب بعض أباطرة أجهزة المخابرات الألمانية، مثل دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية (بي إن دي) وجهاز المخابرات الداخلية السرية الملقب بالمكتب الاتحادي لحماية الدستور، سمعة سيئة بسبب مشاركتهم في أنشطة سياسية غريبة أو عمل استشاري خاص مشبوه بعد تقاعدهم.

وحتى يومنا هذا، لا يعتبر التجسس مهنة مغرية في ألمانيا. وسينتهي بك الأمر غالبا كموظف حكومي محلي يمتلك امتيازات محدودة تقتصر على الحصول على خصومات لشراء ملابس غير عصرية. وفي مناخ كهذا، من الصعب التصور بأن ينقل العاملون في المجال الاستخباراتي المعركة ضد الخصوم الأجانب- سواء أكانوا دولا أو غير ذلك-  إلى مستوى يتطلب الكثير من الالتزام الشخصي، والمخاطرة الشخصية. ومع ذلك، قد تكون هناك حاجة إلى القيام بذلك عندما يكون الجانب الآخر متورطا بشكل شخصي تماما.
 

بخلاف حلفائها الغربيين الرئيسين، لا تشارك جمهورية ألمانيا الاتحادية في أعمال نشر القوة خارج حدودها الإقليمية، والتي تماثل مناطق صلاحياتها

وإذا كان لألمانيا أن تؤخذ على محمل الجد في تقييمها للتهديدات على النحو المبين في استراتيجيتها الأخيرة للأمن القومي، فهي تحتاج إلى تقييم قدرة أخرى، وهي القدرة على إلحاق الأذى، وفي بعض الأحيان، إلحاق الألم بأولئك الذين لا ينوون لها الخير. وبالتأكيد، إنه لإنجاز كبير لألمانيا أن تلغي سيادة القانون واحترامها للنظام الدولي جميع ردود الفعل الانتقامية.

ولكن كجزء من دفاع ألمانيا ضد التهديدات الخارجية والداخلية، أي التهديدات التي تنشأ في أماكن خارج مناطق صلاحياتها، فإنها ستحتاج إلى تطوير الأدوات المناسبة لتضمن أن تكون كلفة الهجوم باهظة لخصومها. وينطبق هذا بشكل أساسي- لا حصري- على عالم الحرب الإلكترونية. كما تحتاج ألمانيا أيضا إلى إعادة تقييم الحدود القانونية والعملية بين الضربة المضادة الانتقامية وما يمكن اعتباره في إطار الدفاع عن النفس ضد تهديد وشيك.

وأولئك الذين حددتهم الحكومة الألمانية مؤخرا كمصدر رئيس للخطر على أمنها القومي، هم لاعبون أذكياء في هذا المجال. وهم، وفقا لتقدير الحكومة الألمانية الخاص، يعملون بشكل عشوائي وبلا حدود، طالما أنهم– افتراضيا- لا يخشون أبدا أن يتم الرد عليهم بالمثل. وقد لا يكون الاحترام حتى الآن عملة مقبولة على نطاق واسع في ألمانيا، لكنه كذلك بالتأكيد بين أولئك الذين يستهدفون أمنها.

font change


مقالات ذات صلة