خوان فيلورو: اضطراب التاريخ سبب لاضطراب الرواية حوله

يسعى إلى الجمع بين تاريخ المكسيك وراهنها

AFP
AFP
خوان فيلورو الأديب والصحفي مكسيكي

خوان فيلورو: اضطراب التاريخ سبب لاضطراب الرواية حوله

في كتابه "دوران أفقي: مدينة تُسمّى المكسيك"، تناول خوان فيلورو تاريخ المدينة التي ولد فيها ولا يزال يعيش فيها. والكتاب مزيج من تاريخ المدينة ورؤيته الخاصة لحاضرها. يقول فيلورو: "في القرن العشرين، نمت بعض المدن نموا هائلا، أصبحت أكبر بستة أو سبعة أضعاف خلال فترات قياسية. توسّعت القاهرة ومكسيكو سيتي وطوكيو وساو باولو ونيويورك ومدن أخرى بصورة بات من الصعب فيه التعرّف على شكلها السابق. إذا كنت قد ولدت في عشرينات القرن الماضي في إحدى تلك المدن، فبالكاد يمكنك التعرف عليها بحلول نهاية القرن".

كيف يمكننا التعامل مع مثل هذا التوسع؟

يجيب فيلورو: "من خلال الذاكرة! كلّ مدينة مكوّنة من حقائق وذكريات. عقلك يمكنه استيعاب المدينة الحالية وكذلك المدينة القديمة، والجمع بين الحاضر والماضي. فهو يتصوّر ويصوّر مدينة الحاضر الرائعة، وكذلك المدينة التي تعيش في ذاكرتك منذالطفولة. ويذهب أعمق في الماضي".

أحاول إقامة روابط بين الأخبار العنيفة التي يعرفها الجميع والتحول الدقيق التي تشهده عاداتنا وثقافتنا وطريقة عيشنا واستمراريته

تاريخ من التحوّلات

تاريخ مكسيكو سيتي الحافل بالتحولات يزيد من جاذبيتها بالنسبة إلى فيلورو، يقول: "تتمتع المدينة بتاريخ جذاب، فقد كانت عاصمة إمبراطورية الأزتك، ثم جاءت المدينة الإسبانية المليئة بالروائع المعمارية، ثم أعيد تشكيلها من خلال الحداثةوما بعد الحداثة، بل وشكلت نموذجا حتى للمدينة المستقبلية (إذ لطالما استخدمت خلفية "طبيعية" للعديد من  الخيال العلمي)".

يعتبر فيلورو روايته "الشاهد" والتي نال عنها عدة جوائز ومنها "هيرالد دي نوفيلا"، والتي ناقش فيها العلاقة الشائكة بين السياسة وعالم الجريمة المنظمة في المكسيك، أهم رواياته "إذ تناولتُ من خلالها الحياة الغامضة لرامون لوبيز فيلاردي، الشاعر الأبرز في ثقافتنا الأدبية، ونهاية حقبة سياسية (الحزب الذي حكم البلاد لمدة 71 عاما هزم لأول مرة. في عام 2000)، وتجربة العودة إلى بلدك بعد العيش في الخارج لأكثر من عشرين عاما (عند وصوله، يجد الشخصية الرئيسية أنه أصبح غريبا في بلده، فهو لا يشعر بأنه كسائر المكسيكيين، بل إنه شاهد غريب على الواقع). حاولت من خلال الرواية رسم جدارية لبلدي في نهاية القرن".

عالم الجريمة

استطاع فيلورو إقامة روابط بين مجالات المعرفة المختلفة، وغالبا ما جمع في كتاباته الموضوعات المتباينة، ومنها عالم الجريمة والمخدرات. يقول: "في السنوات الست الماضية، امتلأت المكسيك بلافتات المخدرات المكتوبة بأخطاء إملائية مرعبة. لكنْ، عدا عن ذلك، يظلّ من الصعب العيش أو البقاء على قيد الحياة في بلد عنيف مثل المكسيك. لست خبيرا في الشؤون الأمنية، لكني شاهد على واقع يومي تحول بصورة جذرية بفعل عمليات الخطف والاغتيالات. الجريمة المنظمة تدير جزءا كبيرا من بلادنا. وهذه ليست مشكلة مكسيكية فحسب. فنحن نتشارك مع الولايات الأميركية المتحدة الحدود مع عدد هائل من المعابر (العديد منها غير قانوني)، وتعدّ الولايات المتحدة أكبر مستهلك للمخدرات وأكبر بائع للأسلحة في العالم. تهريب المخدرات مشكلة هيكلية بين البلدين، كما أنه تجارة عملاقة أثرت على العديد من الجوانب في مجتمعنا. وحتى لغتنا تغيرت مع تأثير اللهجة العامية المستقاة من عالم الجريمة المنظّمة. أحاول في كتاباتي إقامة روابط بين الأخبار العنيفة التي يعرفها الجميع والتحوّل الدقيق التي تشهده عاداتنا وثقافتنا وطريقة عيشنا واستمراريته".

يعدّ مفهوم الهوية من أبرز الأفكار التي يطرحها فيلورو في كتاباته. كيف تتأثر هويتنا بالثقافات والمجتمعات التي نعيش فيها، وما دور الأدب في تشكيل فهمنا للهوية؟ يرى فيلورو أن المكسيك "بلد متعدّد الثقافات، لكن الكثير من الناس يميلون إلى اعتبار أنفسهم مجرد غرباء فيه. ويعدّ نمط العيش الأميركي نموذجا وطموحا للكثيرين. لكنّ لدينا جذورا عميقة تربطنا بالثقافات القديمة (حضارات المايا والأزتك والأولميكا وغيرها الكثير). الهوية عبارة عن طبقات ثقافية نتشاركها لفترة من الزمن. ولدت المكسيك من رحم هزيمة الشعوب الأصلية واختلاطها مع الإسبان.ومنذ اليوم الأول، اعتمدت هذه المغامرة الاجتماعية على الأدب. كتب المحتل هرنان كورتيس كتابا يشرح فيه أفعاله ويحاول الحصول من خلاله على الاعتراف المناسب. كذلك فعل المؤرخ العظيم برنال دياز ديل كاستيلو، وحافظ الأزتك على ثقافتهم من خلال القصائد، وما إلى ذلك. وقد نشأت المكسيك المستقلة انطلاقا من المثقفين والكتاب الذين خاضوا معارك صنع القوانين وتأسيس المؤسسات. فتشكّل تاريخنا في ساحات القتال وفي الكونغرس، إنما أيضا في الخطب والكلمات.وما اضطراب التاريخ إلا سبب من أسباب اضطراب الروايات حوله".

يعدّ نمط العيش الأميركي نموذجا وطموحا للكثيرين في المكسيك، لكنّ لدينا جذورا عميقة تربطنا بالثقافات القديمة

أن يكون والدك فيلسوفا

خوان هو ابن لويس فيلورو أحد أهم الفلاسفة والمفكرين المكسيكيين. عن علاقته به وذكرياته معه، يروي لـ "المجلة": "لقد كان شخصية عامة بالغة الأهمية، لكنه بعيد بعض الشيء بالنسبة إليّ. فقد والده في إسبانيا عندما كان صغيرا ونشأ في مدرسة داخلية يسوعية في بلجيكا (أصبح شقيقه كاهنا يسوعيا). وقد اعتاد منذ الطفولة أن يكون وحيدا، ثم أصبح فيلسوفا وكان نوعا ما مدرّسا أكثر من كونه أبا عاديا. كان يشارك في القضايا الاجتماعية، وخاصة دعم حقوق الشعوب الأصلية في المكسيك. كان يحسن التعامل مع الأفكار والحركات الاجتماعية لكنه واجه صعوبة في التعامل مع الناس. وهذا التاريخ المعقّد هو ما حداني إلى تأليف كتاب عنه من المقرّر أن يصدر قريبا. ولا أسعى من خلاله إلى تقديم لحياته كما أعرفها، بل إلى استكشاف شخصيته المخفية. أحاول معرفة من هو، وأحاول أن أفهم نفسي من خلال الرحلة. كل شخص لديه حياة سرّية، خاصة إذا كان فيلسوفا. الفيلسوف هو عميل مزدوج يعيش حياة موازية مصنوعة من الحجج والنظريات. لم يكن والدي يحسن التواصل الاجتماعي، لكنني التقيت بفضله بعض المفكرين المهمين. وكتابي عنه يتضمن فصلا عن علاقته بالسياسي والشاعر الحاصل على نوبل أوكتافيو باث".

دور الأدب

غالبا ما تعكس كتاباتك اهتماما عميقا بالعدالة الاجتماعية. إذ تستخدمها لمعالجة قضايا اللا مساواة والظلم، ما الدور الذي تعتقد أن الأدب يمكن أن يؤدّيه في إحداث التغيير الاجتماعي؟

المكسيك بلد غير عادل، به عدد كبير جدا من الفقراء وأقلية من أصحاب الملايين الفاحشي الثراء. أن تكون كاتبا يعني أن تتمتع بامتياز معين. أنا أنشر الكتب في بلد يعاني فيه الكثير من الأمية، ويمكنني أن أتكسب من خلال كتابتي.أشعر بالحاجة إلى إعطاء شيء ما مقابل هذا الامتياز. وعلى غرار والدي، فإنني أؤيد القضايا الاجتماعية قدر المستطاع، وأحاول التنبيه إلى مشاكلنا الأكثر فداحة من خلال كتاباتي الصحفية. الصحافة لا تغير الواقع بشكل فوري إلا أن كشف الفساد وإيجاد الحقيقة هو الخطوة الأولى لتحقيق هذا الهدف.

قال فيلورو في إحدى مقابلاته إنه "ليس دور الروائي معالجة القضايا كصحفي أو عالم أو مؤرخ". فما دور الروائي بالنسبة إليه؟

يعتبر فيلورو أن"الروائي يستطيع فهم العالم على نحو مختلف. فالخيال يمنح البشر مدخلا خاصا جدا للواقع لأنه لا يتعامل مع ما يحدث فحسب، بل مع ما يمكن أن يحدث. وهذه طريقة مهمة لدراسة الحياة العامة والخاصة وحتى السرّية للناس. يتعيّن على المؤرّخين والصحافيين التركيز على الحقائق، في حين يمكن الكتاب أيضا الغوص في الأحلام والتخيلات والذكريات وإعادة التفكير والتخمينات الجامحة ونفسيات الشخصيات".

أنشر الكتب في بلد يعاني فيه الكثير من الأمية، ويمكنني أن أتكسب من خلال كتابتي. فأشعر بالحاجة إلى إعطاء شيء ما مقابل هذا الامتياز

في عشق الكرة

يُعرف عن خوان فيلورو عشقه لكرة القدم، حتى إنه اعتبر أن الكرة، بحسب عنوان كتاب ألفه عن اللعبة الأكثر شعبية في العالم، هي بمثابة "معبود مستدير". وفي هذا الكتاب يطرح الدلالات الثقافية لكرة القدم وكيف أنها جزء لا يتجزأ من ثقافة أميركا اللاتينية: "كرة القدم هي أكبر حدث في العالم (من المثير للاهتمام أن 'فيفا' لديها عدد من المنتسبين يفوق منتسبي الأمم المتحدة: كوكبنا يجيد تنظيم أمور الرياضة والمال، أفضل مما يستطيع تنظيم السياسة. في أميركا اللاتينية، يقدّم أبطال كرة القدم تعويضا عاطفيا عن واقع فقير. قال لي سائق سيارة أجرة في بوينس آيريس ذات مرة: 'لم يمنحني أحد في حياتي السعادة أكثر من مارادونا'. وقد استقبل حشد فاق خمسة ملايين شخص المنتخب الأرجنتيني عند عودته إلى بلاده بعد فوزه بالكأس في 2022. وكان الشعور بالانتماء هائلا. كرة القدم هي مجرد لعبة، لكنها تساعدك على نسيان مصاعب الحياة اليومية وتوفر لك الفرصة لمشاركة عواطفك مع الآخرين. في الملاعب، يصبح اللاعبون أكثر من مجرد رياضيين يتقاضون مبالغ ضخمة: فهم يمثلوننا ويجسدون أحلامنا".

 رغم انتقاد خوان فيلورو الدائم للمجتمع المكسيكي إلا أنه شارك مع سبعة صحافيين مشهورين، في إصدار كتاب "أحزان المكسيك"، في مسعى لتغيير نظرة العالم إلى بلده. حول هذا المشروع، يقول: "قبل بضع سنوات، حضرت مهرجان إدنبرة في اسكتلندا وشاركت ندوة مع سيرجيو غونزاليس رودريغيز ، وهو كاتب وصحافي رائع، ومؤلف كتاب مهم عن قتل النساء في سيوداد خواريز ("عظام في الصحراء"). تشاركنا وجهات النظر حول العنف في المكسيك. وقد تأثّر الجمهور بعمق، خاصة بطرح سيرجيو. وكان الناشر المستقبلي لـ 'أحزان المكسيك' من بين الجمهور. وبعد الندوة قال لنا: 'أريد أن أفعل شيئا من أجل المكسيك'. فكانت تلك بداية المشروع".

 

أخيرا، من الكتاب الذين أثروا فيك؟

إنهم كثر. أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر رولفو ، بورخيس ، تشيخوف ، دوستويفسكي، غارسيا ماركيز، كالفينو . كما أنني أكنّ محبة خاصة لنجيب محفوظ.

font change

مقالات ذات صلة