الجمهورية الفرنسية الخامسة على محك الأزمات والتحديات

EPA
EPA
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس أركان الجيش تييري بوركارد في سيارة القيادة عند وصولهما إلى الشانزليزيه خلال العرض العسكري السنوي.

الجمهورية الفرنسية الخامسة على محك الأزمات والتحديات

تتزامن ذكرى اليوم الوطني الفرنسي في الرابع عشر من يوليو/تموز مع تراكم التحديات الداخلية والخارجية بالنسبة لبلد يعد راسخا في القدم، ويصنف بمثابة قوة نفوذ كبرى أوروبيا ودوليا.

تتزاحم الأسئلة في هذه المناسبة حول انعكاسات موجة العنف الأخيرة ومسلسل الاحتجاجات المتكررة على مصير الجمهورية الخامسة، وما إذا كنا على عتبة "ثورة" جديدة بعد 234 سنة على واقعة اقتحام الباستيل؟ أم سيقتصر الأمر على إصلاحات وتحولات في المشهدين السياسي والاجتماعي؟

وعلى صعيد مواز، تجد فرنسا نفسها في مواجهة تحديات جديدة أثارها نشوب حرب شديدة الحدة في قلب أوروبا وعلى نطاق أوسع بسبب التوترات الجيوسياسية والاقتصادية التي تتفاقم في جميع أنحاء العالم.

وإن كان من الصعب المبالغة في تقدير تأثير فرنسا على العالم، سواء في الماضي أو اليوم، فلا يزال التأثير الفرنسي موجودا من خلال تجميع عناصر القوة في السياسة والميدان العسكري والعلوم والاقتصاد، والأهم من ذلك في الثقافة، لا سيما أن فرنسا كانت من أوائل الدول التي دافعت عن حقوق الفرد. لكن كل منظومة القيم بما فيها الدفاع عن حقوق الإنسان تجد نفسها على محك امتحان غلبة المصالح المباشرة والسياسات الخاطئة، وتقهقر النموذج الفرنسي مع خطر ذوبان الاستثناء إزاء النموذج الأميركي الأنجلوساكسوني وبروز نماذج متنوعة منها النموذج الصيني حول العالم.

أدى مقتل الفتى نائل في ضاحية باريسية، مساء السابع والعشرين من يونيو/حزيران الماضي، على يد أحد رجال الشرطة، في ظروف مثيرة للجدل، إلى اندلاع موجة شغب لا سابق لها؛ إذ اضطربت فرنسا طوال خمس ليال، وخرجت ثلاثون مظاهرة ضد الشرطة في عدة مدن، وحسب إحصاءات متداولة يقدر عدد المحتجين و"الداخلين على الخط" بآلاف الأشخاص، وتضرر 273 مقراً أو مبنى لقوات الأمن و168 مدرسة. وألقي القبض على ثلاثة آلاف شخص على خلفية المظاهرات. وقُدرت الخسائر الاقتصادية من المظاهرات بمليار يورو، وحددت شركات التأمين التعويضات المستحقة بحوالي 650 مليون يورو.

والادهى من كل ذلك، تم ضرب صورة فرنسا وهيبة الدولة فيها وتماسك نسيجها التعددي واحتمالات استفادة قوى التشدد يميناً ويساراً من هذه الأزمة المركبة، ونجاح طروحات الانكفاء نحو الهويات الجزئية الثقافية أو الدينية. لذا لا بد من استخلاص دروس من أزمة متعددة الأبعاد: أمنية واجتماعية وسياسية وتربوية.

 من الصعب حصر تفسير الاضطرابات بالشرارة التي أطلقتها، أو بأعراض آنية اجتماعية أو سياسية، لأن جذورها تكمن في آفات وأمراض بنيوية معروفة للجميع وتُركت من دون حلول. 


 ومن الصعب حصر تفسير الاضطرابات بالشرارة التي أطلقتها، أو بأعراض آنية اجتماعية أو سياسية، لأن جذورها تكمن في آفات وأمراض بنيوية معروفة للجميع وتُركت من دون حلول. اهتزت الجمهورية تحت وقع احتجاجات وأعمال تخريب بضعة آلاف من المراهقين والشباب من الذكور، المتحدرين من الأحياء المهمشة وتتراوح أعمار معظمهم بين 14 و20 عاماً.

بعد الذهول والاستنكار لا بد من استنتاج خلاصات عن الشرخ الاجتماعي الكبير في بلاد شعارها "حرية، مساواة، أخوة". 

ومن المفارقات اللافتة أنه قبل أسابيع قليلة، أطلق مسؤولون منتخبون من أطراف مختلفة نداء للمساعدة تحت عنوان "الضواحي على وشك الاختناق"، مؤكدين على تداعيات التضخم على أزمة الغذاء والفقر عند بعض السكان. لكن هذا النداء- الإنذار بقي بشكل أو بآخر من دون صدى كما هو الحال منذ انتفاضة 2005 وما قبلها. كل شيء كان يوحي بأن عناصر التفجير موجودة، خاصة مع تفاقم البطالة وانعدام الفرص والآفاق. ولوحظ أن الوضع تدهور مع تحول كثير من الضواحي إلى أماكن للإقصاء والتهميش ونقص التعليم، وأضف إلى ذلك عنف الشرطة المفرط أحيانا، لا سيما في البؤر الاجتماعية الساخنة، والتي تخترق بعضها شبكات الإتجار بالمخدرات والجريمة المنظمة. 

AFP
ماكرون وعقيلته ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي ومسؤولين آخرين خلال العرض العسكري بمناسبة اليوم الوطني الفرنسي

وأخذ كثير من المراقبين يعتبرون فرنسا "رجل أوروبا المريض" فبالكاد هدأت الاحتجاجات ضد إصلاح نظام التقاعد، وقبلها خرج أصحاب "السترات الصفراء" إلى الشوارع. وأتى دور شباب الأحياء المنحدرين في غالبيتهم من أصول مهاجرة، ليسلط الأضواء على مسائل الهجرة والتعددية والهوية التي تعتبر من المسائل الخلافية التي تثير الانقسامات.

وفي هذا الإطار يتهم اليمين المتطرف الحكومة بتحويل البلاد إلى جحيم، ملقياً باللوم في أعمال النهب الواسعة والاشتباكات على محتجّين من خلفيات مهاجرة، مع المطالبة بوقف "الهجرة الفوضوية". وفي المقابل، يهاجم اليسار الراديكالي الحكومة أيضا بسبب "الإفراط في القمع" ويعتبر أن سبب الانفجار يعود إلى انعدام العدالة والمساواة والعنصرية.

وعلى خلفية التوترات الأمنية والاقتصادية، تبرز أزمة في الديمقراطية الفرنسية وفي الممارسة السياسية، نظراً لنسب الامتناع الكبيرة عن المشاركة في الانتخابات وعدم شعبية المنتَخَبين وغياب أكثرية وازنة في ظل طغيان سلطة الرئيس حسب الدستور.

الجمهورية الخامسة وإلزامية التغيير

فيما يتعدى الأزمات والاستحقاقات، تحتفل الجمهورية الخامسة في الرابع من أكتوبر/تشرين الأول القادم بذكرى تأسيسها الخامسة والستين. ويمكن القول إنها أرست استقراراً سياسياً مشهوداً وغير مسبوق خلال فترة طويلة واستثنائية. لكن المشهد السياسي المشتت منذ الانتخابات التشريعية في ربيع 2022، وتعديل الدستور الذي أتاح تقصير ولاية الرئيس وضرب أسس النظام شبه الرئاسي، أظهرا خللاً في الأداء.

EPA
من العرض العسكري السنوي بمناسبة اليوم الوطني، في باريس، فرنسا، 14 يوليو 2023

جرت ترجمة ذلك عبر شكوك الرأي العام والشعب حيال المسؤولين المنتخبين وحدوث "الطلاق" بين الشباب من جهة والأحزاب والسياسيين والمنتخبين من جهة أخرى. وبرز عداء مستمر لشخص رئيس الجمهورية سواء كاناسمه نيكولاساركوزي أوفرنسوا هولاند أو ماكرون. وهذا كله على خلفية الخوف من المستقبل، مغلف بتشاؤم مستمر ونوع من الغضب الجماعي.

من المفارقات اللافتة أنه قبل أسابيع قليلة، أطلق مسؤولون منتخبون من أطراف مختلفة نداء للمساعدة تحت عنوان "الضواحي على وشك الاختناق"، مؤكدين على تداعيات التضخم على أزمة الغذاء والفقر عند بعض السكان

هكذا أخذ يتضح أن "الجمهورية الخامسة" التي جرى توصيفها بـ"النظام الملكي الجمهوري" على قياس مؤسسها الجنرال شارل ديغول، لم تعد تتكيف مع مقومات الجمهورية الحديثة وأصبح من الملح إصلاح المؤسسات من دون تردد. 

ويتبين مع مرور الوقت أن أزمة إصلاح أنظمة التقاعد لم تكن أزمة موسمية، إذ لم يعد الفرنسيون يوافقون على قرارات فوقية أو على سلطة كبيرة يمارسها "سيد الإليزيه". 

وقد فرضت الجمهورية الخامسة رجحاناً لسلطة رئيس الجمهورية المنتخب بالاقتراع العام وكان هو مفتاح السلطات. وبرهن هذا النظام عن صلاحيته بعد عدم استقرار "الجمهورية الرابعة" بسبب صراعات الأحزاب. لكن في مرحلة الاضطراب العالمي الجديد وزمن الثورة الرقمية والأشكال الجديدة للعمل السياسي، لا مناص من تطوير المؤسسات نحو تغيير في أساليب وأشكال التمثيل الفرنسية، ومن خلال صياغة نموذج علماني منفتح وتعددي. 

EPA
استعراض للمركبات المدرعة الفرنسية في الشانزليزيه.

وقامت الجمهورية الفرنسية، منذ أكثر من قرنين من الزمن، على وعد بالمساواة جرى الحفاظ عليه إجمالاً بشكل جيد. لكن الفشل كان كبيراً على هامشها في الضواحي. 

لذا تبدو الإصلاحات ملحة على صعيد المؤسسات السياسية، وأكثر إلحاحاً على الصعيد الاجتماعي وتطوير نماذج الاندماج والمواطنة وعدم جعل التعددية الثقافية والدينية نقطة ضعف كبيرة تهدد مستقبل الجمهورية.

font change

مقالات ذات صلة