احتجاجات فرنسا تختبر ماكرون

ديونها الى ارتفاع وصعوبات مالية واقتصادية واجتماعية متعاظمة

إدواردو رامون
إدواردو رامون

احتجاجات فرنسا تختبر ماكرون

اهتزت صورة فرنسا مجددا في العالم بعد حرائق وأعمال شغب عاشتها ضواحي باريس ومرسيليا وليون وغيرها من المقاطعات التي شهدت انتفاضة الجيل الثالث والرابع من المهاجرين، ردا على مقتل الشاب من أصول جزائرية نائل المرزوقي في مقاطعة نانتير على يد رجل شرطة. وقررت مئات شركات السياحة والسفر إلغاء آلاف الحجوزات الفندقية، ونصحت العديد من الدول الأوروبية رعاياها تجنب السفر إلى فرنسا، في أسوأ موسم سياحي منذ سنوات، قد تكون له أضرار بالغة، نظرا الى أهمية السياحة في الاقتصاد الفرنسي المهدد بالانكماش.

واعتبر خبير علم الاجتماع والباحث في المركز الفرنسي للبحث العلمي، جوليان تالبان، أن ردة فعل شبان الضواحي في نانتير، وهي مقاطعة شمال غرب باريس يقطنها نحو 100 ألف نسمة معظمهم من مهاجري شمال إفريقيا، "يعكس حالة احتقان قديمة وشعور بالإقصاء الاقتصادي وسوء معاملة قوات الأمن، وتخلي الحكومات المتعاقبة عن التزاماتها الاجتماعية لتحسين أوضاع سكان الأحياء الشعبية الفقيرة". ولا يخفي أن أبناء المهاجرين يشعرون أن لا شيء تغير في معيشتهم مقارنة بأقرانهم في أحياء أكثر حظا.

وتسجل البطالة معدلات عالية في كثير من الضواحي التي يقيم فيها المهاجرون، وينتشر الانحراف والمخدرات و يسود الفقر والتهميش، خصوصا في ضواحي باريس وشمال مرسيليا التي تحولت إلى أحياء يكتنفها العنف ولا يدخلها رجال الشرطة في غالب الأحيان.

وانقسم الجسم السياسي الفرنسي على نفسه بقوة، بين الداعين الى اعتماد مزيد من التشدد مع المشاغبين، بما فيها إقرار حالة طوارئ يدعو إليها حزب ماري لوبين اليميني المتطرف وزميلها إيريك زمور، المعروف بمواقفه المناهضة للمهاجرين المغاربيين والمسلمين، وعدد من الإعلاميين المحسوبين على التيارات المناهضة للهجرة، خصوصا المسلمة منها. بينما دافع زعيم فرنسا الأبية، المرشح السابق للرئاسة، جان لوك ميلونشون، وهو فرنسي ولد في طنجة المغربية، عن الحقوق الدستورية والاقتصادية للمهاجرين وحقهم في التعبير عن مواقفهم الرافضة لعنف الشرطة المتكرر، وهاجم التعاطي غير المسؤول للحكومة مع مطالب مشروعة وسلمية اجتماعية واقتصادية في أصلها.

وتتخوف الشركات الفرنسية من انكماش الاقتصاد في الربع الثالث من السنة الجارية، الذي يصادف فصل الصيف، وهي الفترة التي تشهد حركة تجارية وسياحية وقدوم ملايين الزوار. وتمتد المخاوف إلى الاستثمارات الأجنبية المباشرة من آسيا والولايات المتحدة ودول الخليج، في وقت يراهن الرئيس إيمانويل ماكرون على إعادة التصنيع لتحفيز التنمية المحلية وفرص عمل للشباب، خصوصا في ضواحي المدن الكبرى حيث يعيش المهاجرون، الذين يمثلون نحو 11 في المئة من مجموع السكان، منهم 36 في المئة حصلوا على الجنسيبة الفرنسية بحسب إحصاء وزارة الداخلية لعام 2022.

أ.ف.ب.
أحد المتابعين للدوري الفرنسي لسباق الدراجات الهوائية بنسخته الـ 110 يحمل لافتة كتب عليها " العدالة لنائل"

تعميق الأزمة داخليا وخارجيا

تعيد أزمة مقتل الشاب المرزوقي إلى الأذهان الدور الفرنسي الاستعماري التاريخي في القارة الأفريقية وما يشهده حاليا من تراجع إلى حد الاندثار. كلما تراجع الدور الفرنسي في أفريقيا والعالم، زادت صعوبات باريس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. الزمن دار دورته وبات البلد الذي كان يحتل المرتبة الخامسة من حيث الدخل الفردي قبل خمسين عاما، يُصنّف في المرتبة 26 في عهد الرئيس ماكرون، بعدما تجاوزته دول صاعدة ونامية، أضحت أكثر حضورا على المسرح العالمي، وتعزز موقعها بعد أزمة كوفيد-19، والحرب الروسية على أوكرانيا وتضخم الأسعار، وشح مصادر الطاقة في أوروبا، فغدت تركة الأمبراطورية التاريخية مهددة من قوى صاعدة، وبات الدب الروسي والتنين الصيني يفترسان ما تبقى من صياح الديك الفرنسي.

بعد خفض وكالة "فيتش" التصنيف الائتماني السيادي لفرنسا من AA الى AA-، ازدادت المخاوف من ارتفاع كلفة الديون الفرنسية التي تقدر بثلاثة تريليونات يورو، تمثل نحو 112 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي

هل صحيح أن الفرنسيين هم أكثر الشعوب الأوروبية شعورا بالتعاسة والتشاؤم على الرغم من كل الرفاه الظاهر؟ 

أظهر استطلاع للرأي أنجزه المعهد الفرنسي للرأي العام (Institut français d'opinion publique - IFOP) أن 83 في المئة من الفرنسيين يعيشون حالا من القلق الدائم، والخوف المتزايد من المستقبل الغامض، وعدم ثقة في مؤسسات يصفونها بغير ناجعة، ويواجه متخرجو جامعاتهم مصيرا غير مضمون. وأفاد الاستبيان أن 39 في المئة من الذين استطلعت آراؤهم أصبحوا أكثر قلقا منذ أزمة كوفيد-19 والحرب الروسية في أوكرانيا وارتفاع التضخم وغلاء الأسعار والتغيرات المناخية والقرارات الحكومية غير الشعبية. 

وزادت نسبة القلقين تسع نقاط عن استطلاع أجري قبل ثلاثة أعوام. واستبعد تقرير السعادة العالمي للسنة الجارية (World Happiness Report 2023)  فرنسا من مجتمعات المتفائلين الـ20 الأولى، وحلت الدول الاسكندينافية في المراتب الأولى للسعادة وحافظت ألمانيا والمملكة المتحدة على مكانتيهما ضمن قائمة السعداء. وانضمت بعض الدول العربية إلى القائمة.

خفض في التصنيف وعدم يقين 

سبق لوكالة "فيتش" العالمية (Fitch Rating) أن خفضت التصنيف الائتماني السيادي لفرنسا من AA  الى AA-، مما زاد المخاوف من ارتفاع كلفة الديون الفرنسية التي تقدر بثلاثة تريليونات يورو، تمثل نحو 112 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ورأت "فيتش" أن الطريقة التي تم بها تمرير قانون التقاعد من دون غالبية برلمانية واضحة، والاحتجاجات الشعبية التي قوبلت بعنف وقوة، لا تساعد في تحقيق إجماع حول الإصلاحات المطلوبة. 

وتتوقع "فيتش" نموا للاقتصاد الفرنسي نسبته 0,8 في المئة فقط في السنة الجارية، ونحو 1,3 في المئة سنة 2024. وقال المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (National Institute of Statistics and Economic Studies - INSEE) إن الاقتصاد الفرنسي سجل نموا ضعيفا  في الربع الأول من السنة الجارية بحدود 0,2 في المئة، مما مكنه من تفادي السقوط في براثن الانكماش، وأبدى حالا من عدم اليقين للشهور المقبلة.

 العجرفة الفرنسية

يبدو أن أحداث  الضواحي ستزيد في  معاناة الاقتصاد الفرنسي، وتهدد بخفض إضافي للائتمان السيادي في الأسابيع القليلة المقبلة بعد قرار فيتش. وقد انتقذ الرئيس ماكرون خفض التصنيف الفرنسي، وقال في حوار مع  صحيفة "لوبينيون" (L'Opinion)  "إن وكالة "فيتش" أخطأت في تحليلها السياسي، لأننا نملك مؤسسات قوية قادرة على تمرير مشاريع القوانين ومنها قانون التقاعد"، لافتا إلى أن الديموقراطية في بلاده غير مهددة، والعامل الفرنسي مدعو إلى العمل أكثر ولسنوات أطول، كونه يُنتج 10 في المئة أقل من العامل الألماني نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. ومن وجهة نظره، "يحتاج هذا إلى إعادة هيكلة فرنسا، وجذب الاستثمارات الأجنبية، والرهان على التكنولوجيا والاقتصاد الأخضر".

واعتبرت صحيفة "لوموند" هذه القرارات والبيانات الدولية بمثابة صفعة قوية للحكومة والاقتصاد الفرنسيين على السواء، وقالت "إن الحكومة التي كانت تراهن على تسريع تمرير قانون التقاعد، وجهت رسالة عكسية لطمأنة الأسواق عن الوضع المالي لفرنسا وهذا خطأ. صحيح أن تمديد سنوات العمل ما قبل التقاعد سيوفر 10 مليارات يورو للخزينة سنويا، لكن صورة فرنسا اهتزت في الداخل والخارج، وخلفت جراحا عميقة لم تندمل بعد". 

بدورها ألمانيا، التي لا تخفي امتعاضها من سياسة الرئيس ماكرون، ألمحت إلى أنها غير مستعدة لمساعدة فرنسا ثانية، إلى جانب دول أخرى صغيرة وغنية، في ضمان قروض لدعم الدول الأوروبية المتضررة من أزمة كوفيد-19 ومنها فرنسا. وتهمس برلين في أذن بقية الأوروبيين أن باريس تتعامل كما لو أنها دولة غنية من الشمال، وهي تستجدي المساعدة مثل بقية دول البحر الأبيض المتوسط. 

كلمة عجرفة (Arrogance) تزعج الألمان والأوروبيين والأفارقة والمغاربيين وبقية العالم. وتواجه باريس أزمات ديبلوماسية معلنة وصامتة مع أكثر من بلد أوروبي، خصوصا إيطاليا، التي طالبت باعتذار وزير الداخلية عن تصريحات حول الهجرة السرية. وهو موضوع يثير حساسية لدى حكومة روما اليمينية التي تتخوف من نزوح جماعي من جنوب البحر الأبيض المتوسط. كما تختلف باريس مع مدريد في شأن بناء أنبوب للغاز الطبيعي والهيدروجين الأخضر يمر عبر جبال البيرينيه نحو فرنسا. كما تدهورت العلاقات مع الرباط وعواصم أفريقية عدة لأكثر من سبب، بما لا يخدم الاقتصاد والشركات الفرنسية التي تبحث عن الأسواق وعقود العمل في القارة السمراء.

مديونية فرنسا والصعوبات المالية

تقدر مديونية فرنسا بنحو 112 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مما يجعلها من ضمن الدول الخمس الأولى في ديون الاتحاد الأوروبي إلى جانب اليونان (171%) وإيطاليا (144%) وإسبانيا (113%)  والبرتغال (114%)  بحسب تقديرات الفصل الرابع من 2022 على موقع "إنفوغرام". 

تحتاج باريس إلى ضخ 70 مليار يورو سنويا لتسديد خدمة الدين التي زادت 10 في المئة، بعد التضخم ورفع أسعار الفائدة، وهي مبالغ توازي نفقات وزارة التعليم 

ترتفع المديونية العامة في دول جنوب أوروبا، وتنخفض في شمالها، وتقدر بـ30 في المئة في الدانمارك، و33 في المئة في السويد، ومن 37 الى 40 في المئة في ليتوانيا، و49 في المئة في إيرلندا. بينما تبلغ المديونية نحو 67 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي الألماني، وتقل في كل دول شرق أوروبا. 

وتحتاج باريس إلى ضخ 70 مليار يورو سنويا لتسديد خدمة الدين التي زادت 10 في المئة، بعد التضخم ورفع أسعار الفائدة. وهي مبالغ توازي نفقات وزارة التعليم. وتساءلت صحيفة "لو فيغارو" في نوع من الاستهجان إزاء قرارات الحكومة، هل تتجه فرنسا إلى استنساخ التجربة اليونانية في التعاطي مع تحديات العجز والمديونية وأسعار الفائدة؟ وكتبت أن القروض التي حُصّلت من دون فائدة في زمن الوفرة وخفض الأسعار، سوف تُسدد بفوائد عالية في زمن شح الموارد. وشكك محللون في بروكسيل في قدرة برنامج التثبيت المالي الفرنسي 2023-2027 المقدم إلى لجنة الاقتصاد والمال الأوروبية، على بلوغ أهداف الإصلاحات المعلنة بخفض عجز الموازنة إلى 3 قي المئة والتحكم في المديونية عند سقف 108 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2027. وقد تخطت فرنسا مخاوف من أن تتخذ وكالتا "ستاندرد أند بورز" (S&P) و"موديز" (Moody's) المنحى نفسه في خفض الائتمان السيادي لفرنسا ردا على قانون التقاعد، مما كان سيؤدي إلى ارتفاع تكلفة تسديد الديون، في وقت تواجه الموازنة ضغطا في النفقات واحتجاجا وعنفا في الشوارع لتحسين الأوضاع الاجتماعية.

تشاؤم البنك المركزي

توقع البنك المركزي الفرنسي أن يتباطأ النمو الاقتصادي في البلاد بدرجة كبيرة عام 2023 على خلفية أزمتي الطاقة والتضخم، لكنه أفاد بأنه سيعود إلى الانتعاش في 2024 و2025. وسيتراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي من 2,6 في المئة عام 2022 إلى 0,6 في المئة السنة الجارية، وفق السيناريو "الأكثر احتمالا"، وسيتبع تباطؤ نمو الاقتصاد انتعاش بنسبة 1,2 في المئة عام 2024.

وقال مدير عام البنك المركزي للاقتصاد والشؤون الدولية، أوليفييه غارنييه، إن هذا أقل من نسبة الـ 1,8 في المئة التي كانت متوقعة سابقا، لأن فصل الشتاء ظل معقدا بعض الشيء بسبب أزمة الطاقة. وأشار البنك المركزي إلى أن الانتعاش سيتواصل عام 2025، حيث من المتوقع أن يصل النمو إلى 1,7 في المئة.

قبل نصف قرن، كانت فرنسا تصنف في المرتبة الخامسة في الدخل الفردي عالميا، بلد جميل يشتهر بالأزياء والأناقة والعطور ومحلات شانزليزيه الراقية. تراجعت البلاد عشرين نقطة وأصبحت في المرتبة 25 في الدخل الفردي عام 2022

التوقيت الخطأ 

ترى، لماذا اختار ماكرون التوقيت السيئ لتمرير قانون التقاعد وتهديد شعبيته، ومعها استقرار فرنسا الاجتماعي الداخلي، وخاصم جيرانه الأوروبيين وأصدقاءه وحلفاءه؟ هو يعلم أنه غير محبوب في أكثر من قارة ومنها أفريقيا، التي أهانه فيها أكثر من رئيس على مرأى ومسمع من الصحافيين. ويُدرك أنه غير مرغوب فيه في أكثر من نزاع، وفشل في كل وساطة، أهمها حرب أوكرانيا، إضافة إلى تودده لبوتين الذي أجلسه على طرف طاولة تمتد على طول ملعب كرة السلة!

رويترز
الشرطة الفرنسية تحرس متاجر الشانزيليزيه مساء امس السبت 1 يوليو/تموز

قبل نصف قرن، كانت فرنسا تصنف في المرتبة الخامسة في الدخل الفردي عالميا، بلد جميل يشتهر بالأزياء والأناقة والعطور ومحلات شانزليزيه الراقية. تراجعت البلاد عشرين نقطة وأصبحت في المرتبة 25 في الدخل الفردي عام 2022، تتجاوزها دول نامية وصاعدة نجحت في تحقيق التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي، في حين لم تتمكن مدينة الأنوار من تحقيق وضع  سياسي واقتصادي عادل لملايين المهاجرين. تحولت فرنسا إلى مجتمع غير متجانس مثقل بالصعوبات الاجتماعية والأخطار الاندماجية، لديها كثير من مظاهر دول العالم الثالث.

font change

مقالات ذات صلة