ضواحي الغضب الفرنسية: قطيعة وعجز مزمنان

هوة اجتماعية وثقافية تزداد اتساعا

AFP
AFP
لافتة كتب عليها "العدالة لنائل" على طول طريق سباق للدراجات الهوائية في تور دي فرانس، في 1 يوليو، 2023.

ضواحي الغضب الفرنسية: قطيعة وعجز مزمنان

خلال جولتي في ضاحية نانتير الباريسية، قبل فترة وجيزة، كان يسهل تبيّن ملامح المكان المختلفة عن العاصمة باريس. ففي شوارع هذه الضاحية، وفي أماكنها العامة، يطغى حضور المهاجرين وأبنائهم، كما يسهل تمييز الحضور الطاغي للفتيان والفتيات المراهقين الذين يشغلون الحيّز العام ويفرضون إيقاعهم عليه. ومن هنا لم يكن مستغربا أن تكون هذه الضاحية منطلق انفجار غضب الفتيان الفرنسيين المنحدرين من آباء مهاجرين، فهم يعيشون في تجاور يتسم بالقطيعة والانفصال، أكثر مما بالتواصل أو الامتداد الطبيعي، عن المركز المديني، كما هو الحال في جميع مدن فرنسا وحواضرها الكبرى.

الشرارة

في نحو التاسعة من صبيحة الثلاثاء 27 يونيو/ حزيران الماضي، كان الفتى الفرنسي من أصل جزائري، نائل المرزوقي (17 سنة)، يقود سيارة يقال إنها مستأجرة، من دون حيازته إجازة تسمح له قانونيا بقيادة سيارة، لأن حيازتها تتطلب أصلا عمرا يتجاوز سنّه. لذا أوقفه حاجز للشرطة الفرنسية.

بعد 14 ساعة على إطلاق شرطي برتبة ضابط النار على الفتى من مسدسه وقتله، وادعائه أنه "لم يمتثل لأوامره، وحاول صدمه بسيارته"، وتبنّي الأجهزة الأمنية والقضائية الرسمية الفرنسية رواية ضابط الشرطة، أظهر شريط فيديو صوّرته كاميرا في مكان الحادث أن الضابط كان يكلم الفتى الجالس خلف مقود السيارة المتوقفة، يتوعّده ويهدّده بالقتل قبل أن يطلق نيران مسدسه ويرديه قتيلا.

مشكلة ضواحي المدن الفرنسية ليست طارئة، بل هي قديمة وعميقة في المجتمع الفرنسي. وقد تعود جذورها الأولى إلى فكرة الدولة - الأمة التأسيسية في فرنسا، وإلى حقبة العولمة الكولونيالية

نائل وشعبه

يعمل نائل المرزوقي في توصيل وجبات البيتزا إلى المنازل. ويبدو أنه لم ينجح في حياته المدرسية. ويمارس إلى جانب عمله رياضة "الرغبي" مع فتيان أمثاله في حي من أحياء ضاحية نانتير الباريسية، حيث يقيم مع والدته. وشأن معظم ضواحي المدن الفرنسية، يتخالط في نانتير سكان من أصول فرنسية شعبية أو متواضعة، ومهاجرون مثلهم يحملون الجنسية الفرنسية. ونائل ابن وحيد لأمه العزباء التي تعمل في القطاع الطبي.

وما إن شاع خبر الجريمة ودوافعها "العنصرية" التي دلت حوادث سابقة كثيرة على أنها تتفشى بين رجال الشرطة ضد المهاجرين المقيمين في الضواحي، حتى هبّ فتيان وشبان من نانتير وسواها من ضواحي باريس، وبادروا إلى انتفاضة غضب وشغب وحرق وتدمير ممتلكات عامة وخاصة، احتجاجا ليليا على جهاز الشرطة الذي يرون أنه يكِّن لهم عداوة عنصرية، وأن قتل نائل ليس سوى علامة متكرّرة على ذلك. وهم يرون أيضا أن المجتمع الفرنسي الآخر، خارج ضواحيهم، والذي تحميه الشرطة منهم، يكِّن لهم الاحتقار العنصري نفسه.

وسرعان ما توسّعت "الانتفاضة" إلى ضواحي مدن فرنسية أخرى، فأحرق فتيانها الليليون سيارات كثيرة وأشعلوا حرائق وحطموا متاجر وشركات ومصارف، في ليالي 28 و29 و30 يونيو/ حزيران. وشاركت والدة نائل في تظاهرة بباريس سمّيت "المسيرة البيضاء" وشارك فيها نحو 10 آلاف من المحتجين والمتظاهرين النهاريين المسالمين. وقالت الأم في المسيرة: "لا ألوم الشرطة، بل شخصا واحدا منها هو الذي قتل ابني".

EPA
قوات شرطة مكافحة الشغب تؤمن المنطقة بالقرب من قوس النصر خلال ليلة أخرى من الاشتباكات مع المتظاهرين في باريس، فرنسا، 1 يوليو 2023.

وأدّى توسّع موجة احتجاجات فتيان وشبان الضواحي، وتوسّع شغبهم وعنفهم الليليين، إلى إعلان الحكومة الفرنسية تعطيل حركة المواصلات العامة ووقفها من التاسعة مساء للحد من موجة الشغب العارمة. واعتقلت الشرطة ما يتجاوز ألفا من الفتيان والشبان المحتجين - أكثر من 30 في المائة منهم قُصّر ما دون الـ14 من العمر -  وجرح بضع مئات من رجال الشرطة. وسرعان ما عنفت حركة الغضب والاحتجاج وبلغت ذروتها في باريس ومرسيليا ليلة الخميس - الجمعة (29- 30 يونيو/ حزيران) فقطع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مشاركته في قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل نهار الجمعة، وعاد إلى باريس للإشراف بنفسه على معالجة الأزمة، وقال إن "الأولوية هي ضمان الوحدة الوطنية. وطريقة ضمانها هي استعادة النظام العام".

وأجمعت التقارير الصحافية في متابعاتها هذه الموجة من انتفاضة" غضب وشعب فتيان الضواحي، على ربطها بسابقاتها، أقله منذ العام 2005 الذي شهد انتفاضة ضخمة مماثلة استمرت مدّة أسبوعين في عهد الرئيس جاك شيراك ووزير خارجيته نيكولا ساركوزي الذي انتخب لاحقا رئيسا للجمهورية. وربطتها متابعات كثيرة بالعنف الذي مارسته الشرطة على حركة "السترات الصفراء"، وعلى المحتجين على رفع سن التقاعد، في عهد الرئيس ماكرون. 

لا يمتلك هؤلاء الفتيان سوى أجسادهم وشغبهم الاحتجاجي العنيف والمباشر في الشوارع للتعبير عن غضبهم المنقطع الصلة بالحياة الثقافية والسياسية العامة السائدة في فرنسا

فرنسا الهجرة والهوية

ليست مشكلة ضواحي المدن الفرنسية طارئة، مستجدّة وآنية، بل هي قديمة وعميقة في المجتمع الفرنسي. وقد تعود جذورها الأولى إلى فكرة الدولة - الأمة التأسيسية في فرنسا، وإلى حقبة العولمة الكولونيالية والاندفاعة الصناعية الرأسمالية الكبرى في أوروبا القرن التاسع عشر.

فمن وجوه العولمة الكولونيالية أن شطرا من الجيش الفرنسي المقاتل في الحربين العالميتين الأولى والثانية في النصف الأول من القرن العشرين، كان من أهل المستعمرات الفرنسية الإفريقية والآسيوية. وأن شطرا من الطبقة العاملة في فرنسا إبان اندفاعة التصنيع الكبرى، ومنها إنشاءات البنية التحتية، قبل الحربين وفي أثنائهما وبعدهما، كان أيضا من البلدان المستعمرة، وخصوصا من شمال إفريقيا. وكان للجزائريين حضورهم الكثيف في الأعمال المجهدة التي لا تحتاج إلى خبرات وتأهيل مهنيين، عندما كانت الجزائر مستعمرة فرنسية منذ مطلع ثلاثينات القرن التاسع عشر، وتعتبرها فرنسا "أرضا فرنسية"، قبل انتصار الثورة الجزائرية في ستينات القرن العشرين.

ويستمر حتى اليوم تدفق موجات هجرات أجيال المهاجرين من شمال إفريقيا وبلدان جنوب الصحراء الإفريقية إلى أوروبا، وخصوصا في ما يسمى "قوارب الموت" عبر البحر المتوسط. أما محاولات دول الاتحاد الأوروبي الحدّ من هذا التدفق، فأدّت إلى خلافات في ما بينها أثناء وضعها سياسات وإجراءات "أمنية" مشتركة لإيقاف موجات الهجرة والمهاجرين المتزايدة، فرارا من بلدانهم ومن دبيب الحروب الأهلية والتصحّر والفقر والجوع فيها.

وكان "الربيع العربي" - بحلقاته المتلاحقة في تونس ومصر وليبيا واليمن والجزائر والسودان أخيرا، وتصديعه أنظمة هذه الدول الديكتاتورية المزمنة، وقيام "ثورات مضادة" وحروب أهلية مدمّرة في بعضها (سوريا، ليبيا، اليمن، والسودان) - قد ضاعف موجات اللاجئين الفارين والراغبين في الفرار إلى أوروبا.

ورغم أن فرنسا لم ينلها من هذه الموجات سوى جزء محدود، قياسا بألمانيا التي استقبلت أكثر من مليون لاجئ سوري، فإن مسألة اللجوء والهجرة وجاليات المهاجرين في ضواحي المدن الفرنسية، تبدو مزمنة ومحورية في سياسات الدولة وأزمتها السياسية التي تطال الهوية الفرنسية. وهذا ما تجلى بوضوح منذ مدة في سياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وكلماته إلى "الأمة الفرنسية"، وفي أحاديثه عن "قيمها الجمهورية" المهددة.

الشرطة الفرنسية تحرس الشانزليزيه في باريس، السبت 1 يوليو 2023.

القطيعة والعجز

الأرجح أن ثورة الطلاب والشبان الفرنسيين في مايو/أيار 1968، على القيم والأخلاقيات والمعايير الاجتماعية والسياسية والثقافية للحداثة التقليدية الجامدة، كانت تنطوي على بذور تأسيسية أو نموذج تأسيسي شكلي لانتفاضات الغضب الصاخبة والعنيفة التي يمارسها منذ مطلع الألفية الثالثة وحتى اليوم فتيان الضواحي. لكن ثورة مايو الفرنسية، وانتفاضة ربيع براغ 1968 (حسب الروائي البراغي التشيكي والفرنسي لاحقا، ميلان كونديرا) شكلا انعطافة كبرى في الثقافة والفكر والفلسفة الاجتماعية - السياسية اليسارية العالمية. وكان لتلك الانعطافة "نجومها" الثقافيين الكبار في الستينات والسبعينات والثمانينات، خصوصا في فرنسا من أمثال سارتر وميشال فوكو وجيل دولوز وبير بورديو وريجيس دويريه وجاك دريدا وفرنسوا ليوتار، وسواهم. أما نجوم انتفاضات فتيان الضواحي اليوم فهم كبار لاعبي كرة القدم المولودين والناشئين في تلك الضواحي قبل انطلاقهم إلى النجومية.

ورغم أن غضب فتيان ضواحي المدن الفرنسية، يصدر عن هوامش المجتمع الفرنسي وهويته، ويغيب عنه البعد الثقافي والفكري والسياسي والفني الذي لابس بقوة انتفاضات الستينات التي صدرت عن متن المجتمع الفرنسي وهويته، فإن ذلك البعد خفيّ وكامن وصامت في ثورات الغضب الجديدة المتناسلة. ففتيان الغضب اليوم أبناء التهميش والتسرّب الدراسي والبطالة وتقافة التوك توك والرسائل النصية عبر واتساب. ولا يمتلك هؤلاء الفتيان سوى أجسادهم وشغبهم الاحتجاجي العنيف والمباشر في الشوارع للتعبير عن غضبهم المنقطع الصلة بالحياة الثقافية والسياسية العامة السائدة في فرنسا.

لكن هذه القطيعة بين سكان الضواحي وفتيانها المهمشين، وبين مجتمع المتن السياسي والثقافي العام في فرنسا، تكاد تشكل صلب الغضب الكامن والمنفجر دوريا انطلاقا من تلك الضواحي الهمشة، مستهدفا المتن الفرنسي المديني والاجتماعي. كأن انتفاضة أو ثورة مايو 1968 الفرنسية - وهي استلهمت كومونة باريس في 1871 - لم يبق منها لفتيان ضواحي الغضب اليوم سوى العنف وأشكال التعبير العارية والعاجزة عن أي قول غير جسماني مباشر.

وقد يكون هذا العجز التعبيري مصدر انفجار موجات الغضب الجسماني المباشر شغبا وعنفا ليليين في الشوارع. وهو أصل الغربة والقطيعة الاجتماعيتين والثقافيتين والسياسيتين بين ضواحي المدن الفرنسية والحياة الاجتماعية والثقافية والسياسة العامة في فرنسا، العاجزة نخبتها وتياراتها السياسية كافة عن إيجاد حلول لتلك القطيعة.

لا ينطوي شغب فتيان الضواحي المتناسل دوريا، إلا على تعبير وأفق سياسيين مكتومين، هما وليدا الاختناق والعزلة والقطيعة، والعجز عن تمثل الهوية الفرنسية المفترض أنها عامة ومحاكاتها

شغب بلا تعبير سياسي

الأرجح أن هذين القطيعة والعجز المزدوجين، يجسدان نواة الأزمة السياسية المتناسلة في فرنسا. 

فضواحي العزلة والقطيعة - بأجيالها الكثيرة المتلاحقة، وبتزايد أعداد المهاجرين وتكدس فتيانهم وشبانهم في اختناق بائس وموحش، وما ينجم عنه من حوادث "أمنية" دامية ترتكبها هيئات إنفاذ القانون الفرنسي العام (الشرطة) الذي يعتبره فتيان وشبان تلك الضواحي ومجتمع المهاجرين من خلفهم، "عنصريا" عليهم وضدهم - لا تمتلك ردا على هذا كله غير انفجار غضبها المكبوت والمحتقن ضد المجتمع الفرنسي الآخر. أي المجتمع المجاور والمنقطع عن ضواحي الاختناق والبؤس والعزلة الموحشة، والذي يرى فيه سكان الضواحي ومهاجروها الفرنسيون في جنسيتهم فقط، والعراة من الثقافة والهوية اللتين تشكلان ركيزة الدولة والمجتمع الفرنسيين، وتصمان بالمهانة مجتمع الضواحي والهجرة وفتيانه.

وإذ لا تجد مجتمعات الضواحي المهمّشة والمعزولة سوى مطالبتها، من قبل هيئات الدولة الرسمية وفئات اجتماعية فرنسية واسعة، بالاندماج وتبني هوية فرنسا الثقافية والسياسية - وهي عاجزة أصلا (أي مجتمعات الضواحي) عن ذلك بسبب عزلتها وقطيعتها - يبادر فتيان الضواحي إلى صبّ غضبهم الجامح على المؤسسات العامة في أحيائهم: مقار الشرطة، البلديات، المدارس، باصات النقل العام، وسواها من الخدمات. وهذا ينطوي على ما يشبه انتحارا ذاتيا يائسا. أما غضبهم العنيف الذي يصبونه على المؤسسات الخاصة في مجتمع المتن المديني المنفصل - أي المتاجر، المصارف، والمطاعم والمخازن الكبرى، والشركات والسيارات -  فينطوي على رغبتهم في تدمير ذاك المجتمع ورد المهانة التي يصمهم بها.

وقد لا ينطوي شغب فتيان الضواحي المتناسل دوريا، إلا على تعبير وأفق سياسيين مكتومين، هما وليدا الاختناق والعزلة والقطيعة، والعجز عن تمثل الهوية الفرنسية المفترض أنها عامة ومحاكاتها، وعن الاندماج بثقافتها. لذا لا يجد هؤلاء الفتيان غير الشغب تعبيرا "سياسيا" و"غير سياسي" في الوقت نفسه، عن عدم قدرتهم على الاستجابة إلى ما يطالبون به.

والحكومات الفرنسية المتعاقبة تعجز بدورها، بل يتضاعف عجزها، عن ردم تلك الهوة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية بين الهوية الفرنسية الرسمية العامة وبين مجتمعات الضواحي.

معادلة من هذا النوع - أي القطيعة والعجز المتكافئين والمتكاملين - غالبا ما تنطوي على نواة سلم وحرب أهليين باردين. وذلك في مجتمعات ودول يقوم بين جماعاتها خليط من حواجز اجتماعية وطبقية واقتصادية وهوياتية، يحتاج تجاوزها إلى ابتكار مخارج وحلول سياسية مبتكرة، جديدة ومعقدة. وهذا ما لا يبدو أن سياسات الحكومات الفرنسية قادرة على الإقدام عليه في المدى المنظور.

font change

مقالات ذات صلة