ماذا يحدث في بلاد فولتير؟

الجمهورية لم تعد وفية لشعاراتها

REUTERS
REUTERS
الشرطة الفرنسية متأهبة خلال أعمال الشغب، الشانزليزيه، باريس، فرنسا، 1 يوليو/ تموز 2023

ماذا يحدث في بلاد فولتير؟

ما يحدث هذه الأيام في فرنسا لم يكن من الممكن أن يحدث إلاّ فيها. تتميّز فرنسا في ذلك عن باقي البلدان الأوروبية. لأنها ربما هي وحدها، من بين كل تلك الدول، بلد المتناقضات، أو لنقل إنها أكثر تلك البلدان تناقضا. من الممكن ألا نعتبر ذلك امتيازا، إلا أنّه تميّز بالرغم من ذلك. وربّما لأجل ذلك يتّخذ هذه الحدّة، ويضع الفرنسيين، بجميع أطيافهم ونزعاتهم السياسية، وبمكونات مجتمعهم جميعها، في حالة من التوتّر والقلق، وكل ما يمكن أن يتولد عن العيش في تناقض: لا ينبغي أن نظنّ أن هناك فرنسيين مرتاحون لما يقع، وآخرين مستاؤون منه. الجميع في سلة واحدة، الجميع في حيرة من أمره.

لا ينبغي أن ننسى أنّ فرنسا هي، أولا وقبل كل شيء بلد الثورة، بلد الحرية والمساواة والإخاء. ولكن أن يوجّه فيها ممثل للقانون فوهة مسدسه نحو شاب جزائري لا يتجاوز سنّه الـ17 عاما بدعوى خرق بند من بنود قانون المرور ليرديه قتيلا، أمر يتنافى كل التنافي مع شعارات الجمهورية. وهو، كما صرّح الرئيس ماكرون، أمر لا يجد تفسيرا ولا عذرا. الأدهى من ذلك، أن هذا النوع من الحوادث أصبح يتكرر في فرنسا، مع ما يتمخض عنه من هيجان اجتماعي، فقد تزايد تطرف الشرطة إزاء شباب الضواحي حدة منذ تبني قانون 2017 الذي سمح لرجل الأمن بأن يستعمل مسدسه بحسب "تقديره" وما يرى أنه يعرضه هو أو يعرّض الأمن العام للخطر. ومنذئذ صارت حياة الضواحي قنبلة اجتماعية معرضة للانفجار في أيّ لحظة. وعلى رغم ذلك، فإننا لا نستطيع أن نعزو ما يقع إلى هذه العلاقة المتوترة وحدها. إذ إن هناك أسبابا معقدة متشابكة متغلغلة في بنية المجتمع الفرنسي وتاريخه. وما الحوادث التي تشعل فتيل الهيجانات، مثل ما وقع مؤخرا، أو ما حدث سنة 2005، إلا عوامل "ثانوية". ذلك أن الاحتجاجات التي تعقبها تفجر تناقضات كثيرة لا يكفي إرجاعها إلى عامل بعينه: كأن نقول إنها تعود إلى إهمال الضواحي وفقرها، أو إلى عدم اندماج المهاجرين وكثرة أعدادهم، كما لا يكفي تفسيرها بردّها إلى معتقدات دينية أو عادات ثقافية من ملبس أو مأكل.

تزايَد تطرف الشرطة إزاء شباب الضواحي حدة منذ تبني قانون 2017 الذي سمح لرجل الأمن بأن يستعمل مسدسه بحسب "تقديره" وما يرى أنه يعرضه هو أو يعرّض الأمن العام للخطر. ومنذئذ صارت حياة الضواحي قنبلة اجتماعية معرضة للانفجار في أيّ لحظة

ما هو مؤكد أن الأحداث التي تسري اليوم في كثير من المدن الفرنسية لا يمكن أن تفسّر فحسب بالمطالبة بالعدل، ومحاكمة الجاني، وإلا لكان استنكار الرئيس لفعلة الشرطي، والزج بهذا الأخير في الحجز المؤقت كافيين لوقف مسلسل الأحداث. يمكن أن نقول إن استهداف الشاب الجزائري كان مجرد الشرارة التي أشعلت النيران وفجّرت التناقضات، وكشفت عن مكبوتات الجمهورية التي أصبحت تخون ذاتها، وتدوس مقوماتها.

لعل ذلك هو سبب إعلان كثير من الهيئات عن رفضها المطالبة بخفض التوتّر، اقتناعا منها أنّ الجاني ليس الشرطي وحده، ولا القانون ومن يمثلونه، وإنما "الجمهورية" التي لم تعد وفية لمبادئها ولا محترمة لقيمها، هي التي كانت ملجأ كثير من اللاجئين السياسيين عبر التاريخ، وكانت في وقت ما موطن فكر الأنوار، وصارت تنعت اليوم، ومن طرف إحدى هيئات الأمم المتحدة بأن "ممثلي القانون فيها عنصريون"، وبأن فرنسا تعيش "عنصرية الدولة".

لا ينبغي أن نغيّب عوامل أخرى ما فتئت تغذي روح الكراهية عند الفرنسي مهما كان انتماؤه ومستواه الاجتماعي، ولعل أهمها الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي كان بعضها يجعلنا نحسّ، في تصريحاته على الشاشة الصغيرة، أو في كتاباته، أنه يستعجل، لاشعوريا، مثل هذه الأحداث، إثباتا لصلاحية تحليلاته، وصدق تنبؤاته، مع ما يحيط بذلك من تخويف وترهيب. ويكفي أن نتذكر كم مرة جاءت على لسان إيريك زمور أثناء حملته الانتخابية السابقة عبارة "الحرب الأهلية"، هذا من غير أن نتوقف عند المفاهيم التي عمل على غرسها في عقول الفرنسيين وقلوبهم، خصوصا التمييز الذي يضعه بين الفرنسيين "الأقحاح"، ومن يدعوهم الفرنسيين ذوي الأصول غير الفرنسية. كأن فرنسا لا تاريخ لها، وكأن حركات الهجرة عبر التاريخ لم تفعل فعلها في المجتمع الفرنسي، وبنيته الاجتماعية، وكأن هؤلاء الذين ولد آباؤهم على أرضها جاؤوا متطفلين عليها، وأن الحاجة إليهم لم تعد قائمة.

AFP
الشرطة الفرنسية أمام قوس النصر في منطقة الشانزليزيه في باريس في 1 يوليو/ تموز 2023.

وعلى رغم محاولات اليمين المتطرف بجميع نسخه، القديمة منها والحديثة، فإننا نستطيع أن نقول إنه لم يفلح، مع ذلك، فيما طمح إليه سنين وأعواما. لسنا نقصد بذلك فشل لوبين وعائلته في الحصول على الرئاسة، كما أننا لا نقصد النتائج المخجلة التي حصدها زمور في الانتخابات الأخيرة، وإنما عدم التمكن من تمكين الفرنسي العادي من تحليل يرتاح إليه، بحيث يستطيع بوضوح أن يكون مع هذا وضدّ ذاك. الانطباع الذي يخلّفه معظم الفرنسيين الذين استجوبوا أثناء الأحداث الأخيرة، هو أنهم لم يعودوا يفهمون ما يدور حولهم، ولم يعد في استطاعتهم أن يصدروا أحكاما بصدد ما يجري، كأنهم، هم أبناء ديكارت، لم يعودوا يتوفرون على القدرة على التمييز، إنهم لم يعودوا يميّزون اليمين من اليسار، والشر من الخير، والباطل من الحق، والظالم من المظلوم. هذه الحيرة ربما هي التي كانت وراء نجاح رئيس لا لون يميزه، رئيس "جوكر" كل قوته تكمن في أنه بدا أنه يمكن أن يكون بديلا، وأن يجسّد تردّد المواطن الفرنسي وعجزه عن الاختيار والتمييز.

الجاني ليس الشرطي وحده، ولا القانون ومن يمثلونه، وإنما "الجمهورية" التي لم تعد وفية لمبادئها ولا محترمة لقيمها، هي التي كانت ملجأ كثير من اللاجئين السياسيين عبر التاريخ، وكانت في وقت ما موطن فكر الأنوار

لا يمكن لأحد أن يدّعي تفسير ما آلت إليه الأمور في بلد فولتير، ولا يمكنه، بالأولى، أن يتنبأ بما ستؤول إليه، إلا أننا لا يمكن إلا أن نسجّل عجز المقاربة الأمنية عن إخماد نيران الفورة الشعبية، والأهم من ذلك، غياب مفكرين كبار عن الساحة الثقافية الفرنسية. ففرنسا غدت يتيمة الفكر. فأن يظهر ميشيل أونفري على الشاشة الصغيرة صباح مساء ليحدثنا عن الإسلام ويفسّر لنا بعض آيات القرآن في بلد درّس فيه جاك بيرك، وروجي أرنالديز، وأندري ميكيل، وأن يتنقل إيريك زمور بين الشاشات جميعها ليحدّثنا عن تاريخ فرنسا وهويتها في بلد عرف أسماء كميشلي وشارل بيغي، وعلّم فيه فيرنان بروديل، وأن يملأ آلان فينكلكروت الفضاء الثقافي الفرنسي بتحليلات تقطر عنصرية في بلد فولتير، كل هذا قد لا يفسّر الوضع في بلد الأنوار بأبعاده جميعها، لكنّ من شأنه أن يسلّط بعض الأضواء على ما آلت إليه الأمور، وما لعلّها ستؤول إليه.

font change

مقالات ذات صلة