لبنان ينهار والسيارات الفارهة تغزو شوارعه

علاقة شغف وغرام

Luca D'Urbino
Luca D'Urbino

لبنان ينهار والسيارات الفارهة تغزو شوارعه

بيروت: يهيمن على اللبنانيين يأس عام تشوبه حوادث مأسوية، موضعية، متنقّلة ومفاجئة، بعد ما أصاب لبنان في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة، من إفلاس خزينته المالية العامة، وانهيار قطاعه المصرفي وقيمة عملته النقدية وحياته الاقتصادية، وخراب مؤسسات الدولة والحكم فيه، وتصدّع مجتمعه وغرقه في صمت وضياع: جرائم قتل أهلي وعائلي وزوجي مروّع. انتحارات لا يُكشف إلا عن القليل منها بين حين وآخر. هذه وسواها من أمثالها لا تكاد تترك سوى أصداء ضئيلة، مختنقة وعابرة، كأنها صارت حوادث من طبيعة الحياة والموت العاديين في بلاد يائسة، وغارقة في الفوضى والإهمال.

لكن على الرغم من هذا كله، يبدو لبنان اليوم متجها بفئاته وجماعاته كلها إلى تعوّد وتأقلم قدريين على ما أصابه من تصدّعات، كأنها ظاهرة دورية عادية ومتأصّلة في تاريخه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولا أمل في خروجه أو شفائه منها.

وما دامت حال اللبنانيين على هذه الصورة، فلا مهرب لهم من الاجتهاد الصامت في تصريف شؤون حياتهم وخدماتهم وحاجاتهم العامة، بصفتها شؤونا خاصة تعني كلا منهم بمفرده من دون سواه. وهذا معناه أنهم تعوّدوا على العيش بلا دولة ولا مؤسسات عامة، إلا إذا شاءت بناءها وإنشاءها مصادفات لا يد لهم فيها ويستجيبون لها صاغرين، بلا إرادة منهم ولا قرار. ويعني أيضا أنهم ليسوا مجتمعا، بل جماعات عصبية تستقوي وتتسلّط إحداها على الأخريات، إلى أن تفقد الجماعة المتسلطة وعصبيّتها المعين والمدد الخارجين لقوّتها، فتذوي وتتأكل من داخلها، ويصيبها الاهتراء والتحلّل.

ربما هناك ظاهرة واحدة على الأقل سلِمت مما أصاب لبنان من اهتراء وتحلّل. وهي ظاهرة حافظت بقوة مستميتة على ثباتها ومتانتها واستمرارها. والأرجح أنها ازدادت وضوحا وصارت فاقعة في مشهديتها، بسبب ذينك الاهتراء والتحلّل العامين في مشاهد الحياة اليومية اللبنانية العامة.

الظاهرة هذه هي علاقة فئات لبنانية واسعة بالسيارات، وهي علاقة ترقى إلى غرام تلك الفئات المشغوف بالسيارات الجديدة والفخمة والفلكية الأسعار، والباهظة التكلفة المادية في مستلزماتها وصيانتها والحفاظ على بريقها أثناء سيرها الاستعراضي في شوارع متأكلة مليئة بالحفر.

والأرجح أن المغرمين حتى التولّه بما يُفترض أنها وسيلة نقل وتصريف شؤون يومية، يرددون ما قاله الشاعر أبو نؤاس، أو الحسن بن هانئ، في الخمرة: "دعْ عنك لومي فإن اللوم إغراءُ/ وداوني بالتي كانت هي الداءُ".

وبعد ما حصل في لبنان السنوات الثلاث الماضية، ليس ضربا من المبالغة والتجاوز والمجاز أن يصف المراقب علاقة اللبنانيين، عامة، بالسيارات، بأنها شغف ووله. فأرتال، بل أسطول السيارات الفخمة والجديدة والباهظة الأسعار، لم تتناقص أعدادها في شوارع بيروت ومناطق لبنانية كثيرة. بل هي على العكس تتزايد وتتضاعف عددا وجِدّة وفخامة. كأنما أصحاب هذه السيارات يقولون: "هيهات منا الذّلة". وهذه عبارة أطلقها حزب "لبناني" - إقليمي، وجعلها شعارا لسيطرته عليهم.

يبدو لبنان اليوم متجها بفئاته وجماعاته كلها إلى تعوّد وتأقلم قدريين على ما أصابه من تصدّعات، كأنها ظاهرة دورية عادية ومتأصّلة في تاريخه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولا أمل في خروجه أو شفائه منها

لا يقلّل قوة ظاهرة اقتناء السيارات وتوسعها، أن فئات متوسطة ومن محدودي الدخل، قد انهارت مقدرتها المادية إلى الحضيض، فأقدمت على بيع سياراتها الخاصة المتوسّطة والمتهاودة الأسعار، لتسدّ بأثمانها حاجاتها المعيشية الضرورية. ويكثر بين هذه الفئات من لم يبع سيارته. لكن هؤلاء غالبا ما ركنوها قرب بيوتهم وتخلّوا، إلا في مناسبات الأعياد والعطل، عن استعمالها في تنقلاتهم اليومية، لتوفير تكلفة المحروقات المرتفعة، وراحوا يتنقّلون في حياتهم العادية سيرا.

هناك كثيرون من هذه الفئات أقدموا على اقتناء دراجات نارية، تتزايد أعدادها تزايدا كبيرا في شوارع أحياء مدينية ومناطق كثيرة. وهؤلاء غالبا ما يقودون دراجاتهم مسرعين على غير هدى. وهذا يجعل قيادة السيارات مجازفة خطيرة في تلك الأحياء والمناطق.

لكن هذا كله يقابله تضخّم في أعداد السيارات الجديدة الفخمة التي لا تتوقف أرتالها عن التزاحم في الشوارع. كأنّ تخلي الفئات غير المقتدرة ماديا عن سياراتها الخاصة، المتوسطة والمتهاودة الأسعار، ضاعف إصرار الفئات الميسورة على اقتناء السيارات التي تناسب يسرها، كي تعرضه وتتباهى وتتولّه به مشهديا في الشوارع. حتى صارت شوارع كثيرة لا تزدحم وتغصّ إلا بسيارات الميسورين وبالدراجات النارية، وبقليل من السيارات الصغيرة غير الفخمة والرباعية الدفع. ولا يخلو المشهد من دراجات نارية أنيقة تقودها بهدوء وانتظام استثنائيين فتيات من الفئات المتوسطة.

 

ماضي الأيام الآتية

كيف يمكن مقاربة "مجتمع السيارات" الفخمة الباهظة الأسعار في لبنان، والكشف عن دلالاته؟

لا بدّ أولا من الإشارة إلى ذلك الغموض الرمادي الذي يكتنف الحياة الاقتصادية في لبنان، وكيفية أو أشكال ووسائل تحصيل اللبنانيين معاشهم. وهو غموض ربما يعود، أقله، إلى أزمنة الحروب الأهلية في لبنان (1975- 1990). لكنه استمر بأشكال متجدّدة في زمن ما بعد الحرب. وقد يكون بلغ ذروته في سنوات الانهيار والإفلاس المستمرين.

في سنوات الحرب المديدة أقلعت الشركات والوكالات العالمية عن بيع السيارات بالتقسيط وبقروض مصرفية في لبنان، بسبب غياب الضمانات. وكانت كثرة منها قد أقفلت أو أوقفت أعمالها في الديار اللبنانية. لذا نشأت لاستيراد السيارات المستعملة من الخارج بحرا إلى لبنان، تكتلات من "رجال أعمال" بملامح شبه مافيوية على صلة بميليشيات الحرب المسيطرة على المرافئ البحرية. وسادت في تلك التجارة التعاملات بالأموال السائلة (الكاش).

AFP
"القدس رايز" أول سيارة تعمل بالطاقة الكهربائية يتم تصميمها وتصنيعها بالكامل في لبنان، 2021.

طوال أكثر من 15 سنة من الحروب هيمنت السيارات المستعملة المستوردة على المشهد اليومي العام المضطرب والدامي في الديار اللبنانية. وكثيرا ما كانت السيارات تصاب بالقصف في الشوارع. وغلب على استعمالها وسيلة ضرورية للتنقّل والهرب والنزوح بين المناطق. وقد يكون انطفأ في تلك الحقبة الطويلة ذلك السحر الاستعراضي المبتهج بالسيارة أثناء ما سماه اللبنانيون "الزمن الجميل" السابق على الحرب، والذي ساورتهم إليه في زمنها موجات حنين جارف.

في زمن ما بعد الحرب هجمت فئات واسعة من اللبنانيين هجوما كاسحا لتعويض واستلحاق ما فاتها من حياة آمنة وأسباب الرفاه ومظاهره في الملبس والمسكن والأثاث وارتياد المطاعم والحياة الليلية، وصولا إلى السفر ورحلات الاستجمام. وسرعان ما برزت السيارات الجديدة سلعة أساسية برّاقة في المشهد الاستعراضي اليومي العام، إلى جانب التباهي بالأزياء وجراحات التجميل النسائية والعاملات المنزليات "المستوردات" من شرق آسيا.

العلاقة بالسيارات ترقى إلى غرام تلك الفئات المشغوف بالسيارات الجديدة والفخمة والفلكية الأسعار، والباهظة التكلفة المادية في مستلزماتها وصيانتها والحفاظ على بريقها أثناء سيرها الاستعراضي 

وكان تثبيت سعر الليرة اللبنانية عنوان تلك الحقبة الطويلة التي أرستها سياسات رفيق الحريري المالية والاقتصادية. ومن مظاهرها: الاستدانة والقروض ورفع أسعار الفائدة وتضخم أعمال القطاع المصرفي. إلى جانب إعالة ميليشيات الحرب وجماعاتها المنتصرة، واستقبال أو إيواء مؤسسات القطاع العام الحكومي جيشا لجبا من الموظفين، ورفع مرتباتهم أضعافا مضاعفة. وهذا ما مكّنهم - مع أثرياء الحرب والنافذين الجدد من بطانات الحكم والزعامات السياسية - من أن يصيروا طبقة شبه طفيلية جشعة في نمط حياتها الاستهلاكية الاستعراضية الفاقعة.

أما "حزب الله" فانصرف في هذا الوقت المديد إلى إنشاء دولة ظلّ عسكرية، شبه سرّية في اقتصادها وسياساتها النقيضة للدولة العلنية ومجتمعها الاستهلاكي والاستعراضي.

ظلّ هذا النظام، بجناحيه العلني والسرّي، قائما على حاله حتى انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي بها يؤرّخ لانكشاف الإفلاس المالي والانهيار الاقتصادي والانسداد السياسي المستمرة فصولها حتى اليوم.

 

معنى الحياة السقيم

لكن ماذا عن ظاهرة غرام فئات واسعة من اللبنانيين وتولّههم بالسيارات الفخمة واستعراضها في غمرة مشهد البؤس اللبناني العام اليوم؟

تُروى في لبنان حكاية متداولة كمثل نمطي عن كيفية تسلّق المراتب وحيازة مكانة ومنصب مرموقين في الحياة العامة أو السياسية. وتقول الحكاية إن شابا لبنانيا لا يمكّنه عمله العادي ولا وضع عائلته الاجتماعي من حيازة سيارة فخمة باهظة الثمن، يقتنيها ويقودها متجولا بها ويستعرضها في شوارع بيروت. وكان الشاب من عائلة حاز رجل من أجيالها القديمة السابقة منصبا سياسيا لمرة واحدة، فلم ترفع عائلته إلى مرتبة البيوتات أو العائلات السياسية المكرسة.

ولما سئل الشابُ مرة عن غايته من تلك السيارة ومن أين تدبّر ثمنها، أجاب: لقد استدنته. أما غايتي منها، فهو إصراري على استعادة منصب ابن عائلتي السياسي القديم. وحين قال للشاب صديقهُ الذي سأله: كان عليك أن تسعى أولا للحصول على المنصب الذي يمكّنك من تحصيل مال وفير، فتشتري به سيارات كثيرة، بدل أن ترهق نفسك باستدانة المال لشراء هذه السيارة.

AFP
امرأة تقف لالتقاط صورة أمام سيارة فورد ثندربيرد حمراء اللون من طراز 1966.

هنا أفصح الشاب الطموح عن واحدة من الحكم اللبنانية السديدة: يقتضي المبدأ أن تبدو وتظهر، تسلك وتتصرف، بوصفك من أهل الثروة والمكانة والمناصب لتُعامَل على هذا الأساس. والسيارة الفخمة علامات أساسية في ذلك. وبعدها سرعان ما يسعى المنصب إليك من تلقاء نقسه.

تشبه هذه الحكاية في دلالاتها تلك العبارة التي غالبا ما يردّدها لبنانيون كثيرون: "أنت عارف حالك مع مين عم تحكي؟". وهذا في معرض تعريف هذا أو ذاك بنفسه من يكون، في حال اشتباكه الكلامي الغاضب مع شخص آخر يبارزه أو يتحدّاه.

الأرجح أن الغرام الهيامي بالسيارات واستعراض فخامتها، ليس أقل من مسألة وجودية أو كيانية في حياة فئة واسعة من اللبنانيين، مهما أصاب بلادهم وانحدرت أحوالها إلى حضيض البؤس واليأس والقنوط. وربما يُضاعف هذه الأحوال اقتصار معنى الحياة على عبادة مشهدها الاستعراضي السقيم والخاوي.

font change

مقالات ذات صلة