عندما تصبح اللامعقولية هي المعقول

عندما تصبح اللامعقولية هي المعقول

بعد ما يقارب الستة أشهر من احتجاجات الإسرائيليين في تل أبيب ومدن أخرى على مشاريع الائتلاف الحكومي وخطة "الإصلاح القضائي" التي يصفها المعارضون بـ"الانقلاب القضائي"، أقر الكنيست الإسرائيلي مشروع القانون الذي اقترحته حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لتقييد بعض صلاحيات المحكمة العليا، حيث صوّت بالقراءتين الثانية والثالثة على المشروع ليصبح قانونا نافذا.

ويعرف القانون بـ"قانون الحد من المعقولية"، وهو واحد من ثمانية مشاريع قوانين طرحتها الحكومة في إطار "إحداث التوازن بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية" على حد زعمها. ومن شأن القانون أن يمنع المحاكم الإسرائيلية- بما فيها المحكمة العليا- من تطبيق ما يعرف باسم "معيار المعقولية" على القرارات التي يتخذها المسؤولون المنتخبون، وهذا يعني الحد من قدرة المحكمة العليا على إلغاء قرارات حكومية.

وبعيد قرار الكنيست الذي حظي بموافقة 64 صوتا من أصل 120 نائبا وذلك بعدما غادر نواب المعارضة الجلسة احتجاجا على المشروع، صرح وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير أن إقرار الكنيست "قانون الحد من المعقولية" هو "مجرد بداية"، معتبرا أن بلاده "أصبحت أكثر ديمقراطية وأكثر يهودية".

لكن في الواقع يصح القول إن إسرائيل نفسها التي طالما تغنت بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة بين جيرانها، اتخذت خطوة أساسية ضد ديمقراطيتها.

وحتى إن كانت ديمقراطية إسرائيل غير كاملة أو مبتورة لما يعانيه فلسطينيو أراضي الـ48 من تمييز، إلا أنه وبعد التعديل على قانون "المعقولية"، لن يتمكن القضاة من إصدار أي أمر أو قرار في المسائل المتعلقة بقرارات الحكومة والائتلاف، ويشمل ذلك التعيينات الحكومية أو الطرد والفصل من المناصب.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن التعديلات القضائية والتي باتت تعرف في الأوساط القانونية والإعلامية بـ"قوانين التغلب"، حيث باتت الحكومة في موقع محصن من رقابة القضاء، وذلك خدمة لمصالح اليمين الديني المتطرف وأيضا خدمة لمصالح نتنياهو الشخصية، فمن المعروف أن التعديلات القضائية ستؤثر على مجريات محاكمة نتنياهو بتهم فساد، وعدم إقالته من منصبه خلال محاكمته، وكذلك إعادة تعيين رئيس حزب شاس، أرييه درعي، وزيرًا للداخلية وإلغاء قرار قضائي سابق بإقالته.

بعد أن كانت المحكمة العليا تمارس رقابة قضائية على عمل السلطة التنفيذية، حكومة ووزارات وهيئات رسمية، صار القضاء اليوم بيد الحكومة تقحمه بالصراع السياسي في البلاد

وينص بند آخر على أن الحكومة أصبحت صاحبة القول الفصل في تعيين القضاة بجهاز المحاكم الإسرائيلية، بما في ذلك المحكمة العليا، وبالتالي يفقد القضاء مع الوقت استقلاليته ويصبح تابعا وملحقا بالسلطة التنفيذية.
وبعد أن كانت المحكمة العليا تمارس رقابة قضائية على عمل السلطة التنفيذية، حكومة ووزارات وهيئات رسمية، صار القضاء اليوم بيد الحكومة تقحمه بالصراع السياسي في البلاد.
وإن كان "قانون المعقولية" جاء بالأصل من القضاء البريطاني، إلا أن "قانون اللامعقولية" ذكرني بما يعرف بمذبحة القضاة في مصر عام 1969 (أي بعد عامين على هزيمة 67)، يومها قرر الرئيس جمال عبدالناصر عزل نحو  200 قاضٍ بتهمة "العداء للثورة"، وحل عبدالناصر نادي القضاة وشكل لجنة جديدة لإدارته، وأعطي رئيس الجمهورية سلطة نقل وتعيين القضاة بقرار جمهوري.


وبما أن القضاء هو أحد الأعمدة الرئيسة لقيام الدولة القوية والعادلة، وبما أنه هو من يمكنه أن يرغم الحكام والمحكومين على الالتزام بالشرعية والخضوع للقانون العام، فلذلك عندما تلحقه بالسلطة السياسية فأنت لا تلغي فقط مفهوم القضاء المستقل، بل تكون بذلك قد منحت السلطة السياسية أيا تكن، مطلق الحرية باتخاذ ما يحلو لها من قرارات وسياسات بغض النظر عن مصلحة الدولة والمواطن بتلك القرارات، فيكفي أن تحقق تلك القرارات مصلحة الحاكم سواء كان حزبا أو شخصا.
اليوم إذن وبعد 75 عاما على احتلال فلسطين وقيام دولة إسرائيل، لم يعد بإمكان إسرائيل ولا الغرب التباهي بديمقراطية إسرائيل وسط أنظمة قمعية قضت على مفهوم الدولة وحقوق المواطن باسم تحرير فلسطين ومحاربة إسرائيل، اليوم خطت إسرائيل خطوة عملاقة لتشبه محيطها أكثر، ومن يدري كيف سيتعامل نتنياهو غدا مع الإسرائيليين أنفسهم من المعترضين على قراراته. 
 

يبدو الصراع السياسي في إسرائيل مجرد صراع دستوري بين معارضة وموالاة، إلا أنه في حقيقة الأمر أكثر عمقا وخطورة مما يظهر على السطح

قد يبدو الصراع السياسي في إسرائيل مجرد صراع دستوري بين معارضة وموالاة، إلا أنه في حقيقة الأمر أكثر عمقا وخطورة مما يظهر على السطح، فمنذ التسعينات من القرن الماضي عندما استطاع اليمين الإسرائيلي السيطرة على الحكم في إسرائيل بعد الانهيار شبه الكامل لليسار وأفول نجمه، يحاول هذا اليمين تغيير طبيعة الدولة في إسرائيل وتحويلها إلى دولة دينية بكل ما يعنيه ذلك من معنى. 


لقد استطاع اليمين، وعبر أكثر من ربع قرن، فرض سلسلة من القوانين تدعم التعليم الديني للتوراة وتخصيص موارد كبيرة لدعم مجتمع الحريديم. وأيضا إقرار قانون الهوية القومية الدي يجعل من اليهود فقط مواطنين كاملي المواطنة في إسرائيل وقوانين التضييق على عمل الجمعيات المدنية وتقييد نشاطاتها. وفي كل هذه القوانين عملت المحكمة العليا على محاولة التلطيف من آثارها والحد من نطاقها. لكن على ما يبدو فإن اليمين القومي المتحالف مع اليمين الديني المتطرف في إسرائيل بقيادة نتنياهو قرر استكمال إحكامه السيطرة على الدولة وذلك عبر إزاحة آخر عائق أمامه وهو القضاء الذي بقي يتمتع باستقلال نسبي، وهذا النموذج الذي تسير إلية إسرائيل سيسمح لليمين برؤيته العنصرية والمتطرفة بفرض آيديولوجيته وتعريفه للدولة ولأهدافها.


اليوم، حيث تبدو اللامعقولية هي المعقولية في منطقة يسيطر عليها جنون السلطة والتطرف، وسيكون لما يحدث في إسرائيل أثره الكبير على مستقبل المنطقة واستقرارها، فلا يجب أن ننسى أنه بات في المنطقة اليوم دولتان يُحكمان من قبل نظامين دينيين وكلاهما يملك برنامجا نوويا عسكريا نشطا، هما إيران وإسرائيل، وهذا الوضع الخطر حيث تصبح القوة العسكرية المفرطة تحت إمرة تنفيذ الأهداف الآيديولوجية لتلك الجماعات التي ترى نفسها تنفذ توجيهات الله، ستقود حتما لمزيد من الجنون والدفع باتجاه حروب دينية، وربما انتصر اليمين في إسرائيل على القضاء، لكن الاحتفالات الحقيقية قد تكون في قم التي ترى أن نموذجها في الشرق الأوسط بات نموذجا غالبا.
 

font change