لبنان في بطن الوحش

لبنان في بطن الوحش

ليس ثمة مبالغة في القول إن لبنان رهينة. رهينة ميليشيا مسلحة تسيطر على سيادته وقراراته. رهينة دول لا ترى فيه سوى صندوق بريد لتوجه الرسائل كيفما أرادت. ورهينة حكومة وسلطة ومعارضة لا تتزحزح عن أجنداتها الخاصة خدمة لمصالح شخصية وحزبية. وهو رهينة زعماء طوائف لا يرون في لبنان إلا مجرد ساحة لجني المكاسب عبر استحضار صراعات تاريخية مر عليها أكثر من ألف عام، وهم على استعداد دوما لإذكاء أي خلاف لتحويله لصراع شامل بين الخير والشر.

فما هي الا ساعات بعد أن أحيا اللبنانيون ذكرى انفجار أو تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب الثالثة، حتى استفاقوا على خبر دعوة السفارة السعودية لرعاياها من أجل مغادرة لبنان "على وجه السرعة"، فيما طالبت السفارة الكويتية رعاياها في لبنان بـ"التزام الحيطة والحذر والابتعاد عن مواقع الاضطرابات الأمنية في بعض المناطق".

ليست وحدها العدالة مفقودة، بل حتى الحد الأدنى من الأمن صار صعب المنال؛ فبينما كان اللبنانيون يعدون أنفسهم بصيف هادئ ومثمر، اندلعت الاشتباكات أو ما يمكن تسميته "ميني حرب" في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، المخيم الذي تأسس عام 1948 بعد النكبة والذي يعد الأكبر في لبنان من حيث عدد السكان؛ إذ يضم نحو 50 ألف لاجئ مسجل حسب الأمم المتحدة، بينما تقدر إحصاءات غير رسمية سكان المخيم بما يزيد على 70 ألف نسمة في مساحة محدودة. وإن كان المواطن اللبناني محروما من الأمن والعدالة، فإن الفلسطيني في لبنان محروم من كل ذلك وأكثر. وعندما بدأت الاشتباكات بين حركة "فتح" ومجموعات إسلامية في المخيم، تساءل المدنيون هناك: من أين تدخل هذه الأسلحة والذخائر في حين أنهم محرومون حتى من إدخال مواد بناء لترميم منازلهم من دون أذونات وتعقيدات؟ لكن في الحالة الطبيعية يكون السؤال: لماذا يوجد سلاح في مخيم للاجئين؟

في ربيع عام 2006 انعقدت طاولة الحوار بين جميع الأطراف اللبنانيين في مجلس النواب، يومها اتفق الجميع على جمع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وتنظيمه داخلها، كما وافقت السلطة الفلسطينية على دخول الدرك اللبناني إلى المخيمات وتسيير دوريات وإلقاء القبض على المطلوبين، اتفق اللبنانيون يومها على كثير من النقاط الخلافية، لكن اتفاقهم ذهب أدراج الرياح، يوم وعدهم أمين عام "حزب الله" بصيف هادئ، وأشعل حربا مع إسرائيل لم يتعاف منها لبنان حتى اليوم.

في لبنان الحقيقة واضحة وضوح الشمس كما يقولون، لكن العدالة غائبة دوما

في كل الأحوال هي ليست المرة الأولى التي تكون فيها المخيمات الفلسطينية سببا لحروب وصراعات في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية. فمن ينسى معركة نهر البارد وما لحق بالفلسطينيين واللبنانيين من ويلات بسببها، جاء شاكر العبسي من سوريا وقام بعمليات إرهابية في لبنان، وعندما أراد الجيش محاربة جماعة "فتح الإسلام" الإرهابية قال زعيم "حزب الله" حسن نصر الله عبارته الشهيرة: "دخول الجيش إلى نهر البارد خط أحمر"، ولكن الجيش لم يخضع لتهديد نصر الله آنذاك.

اليوم هناك صعوبة كبرى بدخول الجيش إلى المخيم، سواء كان بسبب اختلاف طبيعة عين الحلوة عن مخيم نهر البارد، أو بسبب الكثافة السكانية وما يمكن أن يتسبب فيه الصراع من ضحايا بين المدنيين.
المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، دعا إلى "ضرورة الوقف الكامل للاشتباكات في مخيم عين الحلوة"، مشددا على ضرورة التزام كافة الأطراف بوقف إطلاق النار. في وقت كانت أصابع الاتهام تتجه إلى ذراع إيران اليمنى، أي "حزب الله"، بالوقوف وراء ما يحصل في المخيم.

في لبنان الحقيقة واضحة وضوح الشمس كما يقولون، لكن العدالة غائبة دوما، من اغتال كمال جنبلاط معروف بالاسم من الجميع، ومن اغتال الرئيس رينيه معوض أول رئيس منتخب بعد "اتفاق الطائف" معروف من الجميع أيضا، ومن اغتال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه معروف، من اغتال عشرات الشخصيات اللبنانية بعد انتفاضة الاستقلال عام 2005 وقام بعمليات التفجير والإرهاب معروف، تسريب تسجيل الوزير السابق ميشال سماحة سمعه الجميع، وان كان لبنان نجا من المخطط المعروف بمخطط مملوك سماحة، إلا أن من كشفه وهو اللواء وسام الحسن اغتيل في وضح النهار. من أرسل العبسي معروف، ومن يشعل الحرب في مخيم عين الحلوة معروف، من أتى بنترات الأمونيوم وخزنها في مرفأ بيروت حتى فجر المدينة بأهلها معروف، ومن اغتال لقمان سليم بعدما تحدث عن الأمر معروف أيضا، ولكن العدالة في كل هذه الجرائم وغيرها مفقودة.

وحدهم اللبنانيون يحاولون في كل مرة الوقوف دقائق صمت احتراما لشهدائهم ويقومون بعدها ليعيدوا بناء ما تهدم، لكن المجرم يأبى إلا أن يرتكب المزيد من الجرائم، لمَ لا ما دام أن أحدا لم يستطع أن يحاسبه أو يوقفه عن إجرامه طيلة عقود.
فمتى سيقتنع "أصحاب القرار" أن السلام لا ولن يتحقق ما دامت العدالة غائبة؟
 

وحدهم اللبنانيون يحاولون في كل مرة الوقوف دقائق صمت احتراما لشهدائهم ويقومون بعدها ليعيدوا بناء ما تهدم، لكن المجرم يأبى إلا أن يرتكب المزيد من الجرائم

لبنان اليوم لا يحتاج للعدالة من أجل إحقاق الحق وحسب، بل يحتاجها من أجل التحول إلى دولة المواطنين، بدلا من دولة زعماء الطوائف والميليشيات التي يعيشها حاليا.
لبنان بحاجة إلى أن يكون لديه مواطنون يرتبطون بوطنهم عبر العقد الاجتماعي الشامل للجميع، وليس عبر جبة المطران وعمامة الشيخ ومكاتب الزعماء الذين تركوا لبنان يتخبط في الفوضى والفقر والفشل الاقتصادي، في الوقت الذي نمت فيه شركاتهم وأرصدتهم المصرفية في بنوك أوروبا وأميركا، وينعمون بيخوتهم وقصورهم ورحلات صيدهم في أنحاء العالم.

لبنان بحاجة اليوم لمواطنين يستعيدون وطنهم من بطن الوحش، ليكونوا مرة واحدة وللأبد مواطنين لبنانيين، لا مجرد حطب في صراعات الزعماء الذين لا يرون في بلدهم إلا مجرد مزرعة يملكون كل ما فيها.

font change