"الشرق الوثائقية" تنطلق... إثبات الحقائق وتفنيد الخرافات

مقاربة معمّقة تعيد الاعتبار إلى البحث والتقصّي

"الشرق الوثائقية" تنطلق... إثبات الحقائق وتفنيد الخرافات

تنطلق الأحد، الثالث من سبتمبر/ أيلول، الساعة الخامسة بتوقيت السعودية قناة "الشرق" الوثائقية" المختصّة بتقديم الأفلام الوثائقية بالعربية، وإنتاجها وعرضها، لتسدّ بذلك فراغا كبيرا لطالما كان الإعلام العربي يعاني منه. فعلى الرغم من ظهور برامج وأفلام ومحطات تعنى بعرض المحتوى الوثائقي، إلا أن الاهتمام بهذا النوع من المحتوى بقي ضعيفا ويسوده الكثير من الخلل الذي يعود إلى أسباب كثيرة أهمها معاداة طبيعة التوثيق التي تفترض الموضوعية البحتة والمطلقة والانطلاق من الوثائق والعمل عليها ومن خلالها حصرا.

وقد اتّصفت التجربة العربية في البرامج الوثائقية، سواء عبر المواد المنتجة عربيا أو تلك المستوردة والمترجمة، عموما بالوقوع في فخ الأيديولوجيات والدعاية والاختلاق والتزييف، وكانت بذلك جزءا من عمليات التضليل بدلا من أن تكون مسار توعية وتثقيف، ولعل الفئات الأنشط في هذ ا المجال كانت التيارات المتطرفة التي عملت على إنتاج مواد تحمل عنوان الوثائقي في حين أنها كانت مؤطرة في قوالب تستعير آليات عمل التوثيق لناحية الشكل وتستعملها في نسف فكرة الحقيقة التي يقوم عليها الخطاب الوثائقي.

 في الوقت الحالي تفتقد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجود قناة وثائقية باللغة العربية تتعمّق في الموضوعات التي تشكل عالمنا اليوم 

جمانا الراشد

تعد قناة "الشرق الوثائقية"، وفق مطلقيها، بتقديم محتوى يستجيب للشروط العالمية  للإنتاج الوثائقي في إطار عربي يعنى بمعالجة العناوين التي تهم المشاهد العربي  من ناحية والغوص في ما يشكل الفضاء العالمي ويؤثر فيه على كل المستويات سياسيا وتاريخيا وثقافيا واقتصاديا وبيئيا، وكذلك فإن مشروع إنتاج محتوى أصلي يتناول مختلف القضايا مع التركيز على الراهن وعلى إتاحة الفرصة أمام الطاقات الشابة المحلية يسمح باكتشاف جيل من الوثائقيين السعوديين والعرب وصناعتهم، وتحويل أفكارهم إلى نتاج عربي أصلي وخلق حضور ودور عربيين في صناعة المعرفة التي يتشكل من خلالها خطاب التأثير في المجالات كافة.

 التعبير عن المواقف وعرضها من خلال وسيط التوثيق الموضوعي يمكنه أن يخلق شبكة تأثير تتفوّق على المجالات الأخرى، وذلك لأنه ينسجم مع خطاب العقلنة المسيطر في العالم الغربي، ما من شأنه، بعد مرحلة من التراكم، طرح خطاب مواز تقول من خلاله المنطقة العربية وجهة نظرها في كل ما يحدث في العالم من باب معرفي دقيق ومحكم.

سدّ الفراغ

يأتي إطلاق القناة استجابة لدراسات كشفت أن أكثر من 80% من المشاهدين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يتلهفون لمشاهدة محتوى وثائقي عربي عالي الجودة، كما أن اختبار قناة "الشرق للأخبار" الذي قامت خلاله بعرض 400 ساعة من الأفلام الوثائقية محققة تفاعلات قياسية أثبت حماسة المشاهدين لمثل هذا النوع من المحتوى المعرفي والجدّي. كل ذلك يجعل من خروج  قناة "الشرق الوثائقية" إلى النور استجابة طبيعية وضرورية لحاجة ملحّة وقصوى، لذا فإن تعزيزها بقدرات إنتاجية عالية ترصد الخبري واليومي وتسجّله وتساجله وتعالجه يقدّم الإطار اللازم لإخراج مادة ناجحة تتلهف الجماهير لاستقبالها.

وتقول جمانا راشد الراشد الرئيس التنفيذي لـ "المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام"SRMG  أنه "في الوقت الحالي تفتقد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجود قناة وثائقية باللغة العربية تتعمّق في الموضوعات التي تشكل عالمنا اليوم"، وتصف هدف القناة وطبيعتها بأنها "مخصصة للكشف عن القصص الحقيقية وراء العناوين والأخبار والتفاصيل خلف الأحداث"، مؤكدة أن هذه الخطوة "هي إحدى مبادرات إستراتيجية النمو والتوسع التي اعتمدناها في srmg لقيادة التغيير في صناعة الإعلام ولتزويد متابعينا بمحتوى تثقيفي عالي الجودة".

تعبّر الراشد في تصريحها عن أن التعمّق في الطرح هو السبيل الوحيد لخلق معرفة علمية وموضوعية لما يجري في العالم، فالأخبار والعناوين والتفاصيل التي يتوالى عرضها على المشاهد بوتيرة عالية ودائمة التدفق، تقيم حجابا بينه وبين الحقائق، تكمن مهمة ووظيفة القناة في إخضاعها لمختبر التمحيص والتدقيق والكشف عما تخفيه، وعرض خلاصة ذلك المسار على هيئة منتج ثقافي مكتمل الأركان ينسجم مع طموحات المؤسسة الإعلامية ويعبر عن مشروعها.

بدوره، أشار مدير قناة "الشرق الوثائقية" محمد اليوسي إلى آليات العمل التي  تطبع روح القناة قائلا "يأتي إطلاق قناة الشرق الوثائقية لتكون المصدر الأول لأبرز الإنتاجات الوثائقية السياسية التي تتضمّن التفاصيل الكاملة لمختلف الأحداث التي تعيشها المنطقة وأبرز الأحداث الدولية، وستعمل الشرق الوثائقية على إنتاج أفلام وثائقية لمختلف المواضيع بعمق ودقّة تتنوّع بين السياسة والاقتصاد والأعمال والتاريخ، وذلك باستخدام أحدث التقنيات في هذه الصناعة".

   يأتي إطلاق قناة "الشرق الوثائقية" لتكون المصدر الأول لأبرز الإنتاجات الوثائقية السياسية التي تتضمّن التفاصيل الكاملة لمختلف الأحداث التي تعيشها المنطقة



محمد اليوسي

ملاحقة الحدث وقراءة التاريخ وتحولات الاقتصاد بعين التوثيق المشكّكة المتأمّلة والفاحصة والملتقطة بأفضل الوسائل التقنية وآخر تقنيات صناعة الصورة المنتجة برؤيا عربية تشكّل البعد الذي ينطلق منه مدير القناة، الذي يعد بإطلاق عملية  تشتغل في الوقت نفسه على مسار إعادة النظر في المعروف والسائد من الأفكار والمعلومات وعلى معالجة الجديد والطارئ والحدثي في شتى المواضيع انطلاقا من مفهوم التوثيق ومعناه العريض بوصفه نظام كشف يتسم بالدقة والموضوعية.

تفنيد الخرافات

تعرض القناة مع انطلاقها الجزء الأول من وثائقي "أفغانستان بين واشنطن وطالبان" المؤلف من ثلاثة أجزاء أتاحت إدارة القناة لـ "المجلة" الاطلاع عليها كاملة قبل عرضها. يروي صانع الأفلام الوثائقية الأميركي مارتن سميث في هذا الفيلم سيرة أفغانية مأساوية، عارضا أحوال بلد تمزقه الصراعات التي تجري فيه ومن خلاله، ويكشف بعد عملية سبر شاقة وطويلة وممتدّة من بدايات ظهور طالبان وصعودها وانحسارها الذي سبق احتلالها للمشهد الأفغاني بالكامل مع الانسحاب الأميركي في 31 أغسطس/ آب 2021.

يلاحق سميث الحقائق من كل زواياها ويستضيف صناع الحدث من قيادات طالبان ومن مسؤولين سياسيين وعسكريين أميركيين، ويسائل المواطنين من أهالي الضحايا أو المشاركين في الحروب، محاولا استكشاف خرائط تشكّل الدوافع الصانعة للحدث من قلبه، جاعلا من الحضور الميداني في المناطق التي شهدت الأحداث شكلا من أشكال الممارسة الصحافية المعارضة للتأويلات.

 يفرض صيغة تحليل تنطلق من الوقائع ويدمج النفسي والعاطفي في السياسي والديني الاجتماعي والتاريخي ليخلق كتلة منتظمة وواضحة من السياقات التي تكشف دون مواربة كل ما كان يجري فعلا.

يلاحق السياسات الأميركية تجاه أفغانستان التي تعاقب على تصميمها أربعة رؤساء أميركيين من جورج بوش الابن إلى باراك أوباما ودونالد ترامب وصولا إلى جو بايدن، ويكشف عن وجوه التماثل المرعبة بين أميركا التي تزعم أنها تخوض حروبها ضد الإرهاب ودفاعا عن الديمقراطية وبين طالبان التي تزعم أنها تخوض حروبها تحب عباءة الإسلام.

يضيء الوثائقي على الممارسات الكارثية الأميركية في أفغانستان والتي كانت حربا خاسرة منذ بدايتها، وكيف ساهمت بقوة في منح سلوكات طالبان شرعية. يظهر حجم الفشل الهائل في تشكيل سلطات وطنية متمكّنة وقادرة وفي صناعة الحلفاء وكسب القلوب، وكيف أن طالبان التي كانت تنظيما متطرّفا يعادي المجتمع ويتسلّط على الناس، قد استفادت بقوة من أشكال المقاربات الأميركية للقضايا الأفغانية التي تمثلت في غارات ليلية واقتحامات يومية للبيوت وانتهاك للحرمات وعمليات أمنية غير مستندة إلى معلومات استخباراتية دقيقة والتي كانت تترك وراءها كما كبيرا من الضحايا المدنيين.

يثبت الأثر السلبي لتلك الممارسات وكيف أسّست لتعمّق مشاعر العداء للحكومة الأفغانية الحليفة وللوجود الأميركي عموما والتي كانت تنمو وترتفع وتيرتها لدرجة دفعت الرئيس الأفغاني حامد كرزاي المتحالف مع الأميركيين للوقوف ضدها بشراسة، خصوصا أنها عززت خطاب تمجيد الانتحاريين الذي كانت طالبان تعمل على تفعيله وتوظيفه سلاحا فاعلا في المواجهة، حيث يسجل التزايد الكبير في أعداد الراغبين بتنفيذ مثل هذا النوع من العمليات وخطاب البهجة والسعادة الذي يسم رسائلهم الموجهة إلى العامة.

يروي وثائقي "أفغانستان بين واشنطن وطالبان" الذي تنطلق به القناة سيرة أفغانية مأساوية، عارضا أحوال بلد تمزقه الصراعات التي تجري فيه ومن خلاله


عزّزت السياسات الأميركية مقام الانتحاري في المجتمع الأفغاني وساهمت في قلب صورته، فبدل أن يكون إرهابيا لا يبالي بقتل الناس في سبيل تنظيمه المتطرف، بات من ينتقم لشرف الأفغانيين من الانتهاكات اليومية والوحشية التي يرتكبها الأميركيون.

وفي لقاءات كثيرة مع قيادات "طالبان"، نرى ذلك التماثل المرعب بين جهتين يفترض أنهما يتناقضان في كل شيء، إذ أن التبريرات التي ينجح سميث بانتزاعها من قادة طالبان، والتي تبرّرارتفاع ضحايا المدنيين في العمليات التي تستهدف الأميركيين في ظروف الحرب ومتطلباتها، تتلاقى مع تبريرات الأميركيين وتتناسب معها، وكأن كل التصريحات صادرة عن جهة واحدة. 

شكّل احتقار حياة المدنيين قاسما مشتركا بين طرفي النزاع، وكذلك فإن محاولات تصميم خطط كسب العقول والقلوب التي أسمتها إدارة الرئيس باراك أوباما "مكافحة التمرّد"، أثبتت جهلا بطبيعة المجتمع الأفغاني وخصوصياته والعجز عن صناعة استراتيجية قادرة على معالجة المشكلات العميقة التي يعاني منها.

كانت إدارة أوباما تعوّل على  فعالية هذه الإستراتيجية بشكل جعلها نوعا من الإيمان العقائدي وليس استراتيجية سياسية واجتماعية وميدانية. كانت تريد أن تصنع تأثيرا على شعب عانى من تاريخ طويل وممتد من الصراعات والنزاعات ويمتلك إرثا ثقافيا متنوعا ومعقدا بـ 21000 جندي ينفذون سياسة الاختلاط بالناس ومحاورتهم من دون رغبة أو قدرة على فهمهم، والتعامل مع ما يسم حياتهم وأوضاعهم من تعقيدات. كان الخلل واضحا في تلك الرؤيا لدرجة دفعت بجو بايدن الرئيس الحالي الذي كان نائبا للرئيس حينها إلى انتقادها بشكل حادّ ومباشر.

عارض الرئيس دونالد ترامب تلك الإستراتيجية ولكنه لم يلغها تماما، بل عمل على تحقيق الانسحاب التدريجي للأميركيين من أفغانستان والذي أنجز تماما في عهد  الرئيس جو بايدن خالقا مشهدا كارثيا لاحتلال طالبان لكامل المشهد الأفغاني وسيطرتهم التامّة على كل مفاصل الحياة فيه، وكأن كل ذلك الصراع لم يكن سوى تمهيد لهذه اللحظة.

لم ينس الوثائقي الشأن الاجتماعي من خلال موقف طالبان من النساء، فقدّم إشارات مكثفة وموجزة توضح آليات تمثل التنظيم المتطرّف للمرأة، فخلال مقابلة مع قيادي طالباني وسؤاله عن الشأن النسائي وحقوق المرأة في التعليم وغيرها كانت الإجابة المختصرة: "تلك المواضيع لا تهمّنا" تكثيفا بليغا للموقف من المرأة.

 وقد تعمقت تلك النظرة لاحقا مع تقدّم مراحل سيطرة طالبان وتبلورت بالكامل مع تحوّلها إلى منظومة السلطة الأساسية في البلاد حيث صنعت مجتمعا لا ملامح فيه للمرأة ولا حق لها في التعليم أو الخروج الى المجال العام. كل ذلك جعل من النضالات التي تمارسها النساء الأفغانيات فعلا بطوليا خالصا يوجّه مارتن سميث من خلاله رسالة إلى العالم معلنا عن الانحياز لقضايا المرأة والضحايا من خلال الحقائق الصافية البحتة المجرّدة التي يضعها في متناول الجميع مكثفة وحاسمة.

عبر اختيار هذا الوثائقي للاحتفال بإطلاق القناة نكتشف الإطار الذي يتوقع أن يحكم تجربتها والقائم على محاربة الإرهاب والتطرف عبر تفكيك الوقائع المؤسّسة له، وتفنيد الخرافات والتراكم الخبري المسطّح بالغوص التحليلي الفاحص في ما يختفي وراءه من سياقات ووقائع، والدفاع المستميت عن مفهوم الحقيقة بوصفه أصلا لمعنى الإعلام والصحافة وصانع مجدها، والمؤسس لسلطتها وشرعيتها ودورها. 

       

 

font change