جان لوك ميلونشون: اليساري المعاند في فرنسا المرتبكة

Getty Images/ Majalla
Getty Images/ Majalla

جان لوك ميلونشون: اليساري المعاند في فرنسا المرتبكة

في تطور غير متوقع، أظهرت التقديرات الأولية لنتائج التصويت في الانتخابات التشريعية في فرنسا تصدّر تحالف اليسار في الجولة الثانية واحتلال معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون المرتبة الثانية، متقدما على اليمين المتطرف، لكن دون أن تحصل أي كتلة على غالبية مطلقة في الجمعية الوطنية.

وفور صدور التقديرات الأولية، رأى زعيم اليسار الراديكالي الفرنسي جان لوك ميلانشون الأحد أن على رئيس الوزراء "المغادرة" وأنه ينبغي على الجبهة الشعبية الجديدة التي ينتمي إليها حزبه، أن "تحكم".

من هو ميلانشون؟ كيف يفكر؟ ماذا يعني فوزه؟

نعيد نشر مقال عن سيرته:

لم تستنفد موجات ثورة 1789 الفرنسية زخمها، ووحده العمل الثوري كفيل بالانفصال عن الرأسمالية وإنقاذ الإنسانية من المأزق، يقول جان لوك ميلونشون، رئيس حزب "فرنسا الأبية" (أو المتمردة): بدأ هذا الراديكالي اليساري حياته المهنية في التعليم، وسرعان ما خطفته السياسة وجذبته أفكار ليون تروتسكي، وصولا للاقتداء بالفنزويلي، هوغو شافيز، وإلى الإشادة بفلاديمير بوتين مرورا بالانخراط الملتزم مع فرنسوا ميتران.

سكنت الثورة وجدان جان لوك، المتحمس والخطيب المفوه. واعتبر بعد مسار متعرج أن التغيير سيمر من خلال شخصه عبر خوضه غمار استحقاقي الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 2017 و2022، لكنه لم يتمكن من اجتياز الدور الأول في كلتا الحالتين.

بالرغم من إعلانه العزم على الانسحاب من الحياة السياسية، يبقى ميلونشون في قلب المعركة مراهنا على إمكانية حصول اختراق إبان مرحلة غليان ثوري وغضب اجتماعي.

إلا أن انفراط عقد "تحالف ميلونشون" المسمى "الاتحاد الشعبي الجديد البيئي والاجتماعي" (فرنسا المتمردة والخضر والشيوعي والاشتراكي) الذي أطلقه في 2022، عشية الانتخابات الأوروبية في 2024، يدلل على أن الشعبوية ومحاولة محاكاة أساليب اليمين المتطرف، سيخدم مصلحة الأخير وسيجعل من حلم ميلونشون "الثائر" سرابا يتحطم على صخرة واقع فرنسا المرتبكة وسط مشهد سياسي تصعد فيه التيارات المتشددة ويبدو اليمين بمجمل نزعاته في موقع أقوى.

فرنسا الثورة الدائمة وفق ميلونشون

يطبق اليساري الفرنسي، "الثائر الدائم"، مقولة الفيلسوف سينيكا التي لا تعني له الحياة "انتظارا لمرور العواصف بل رقصة تحت المطر". وهكذا بالنسبة لسياسيين من أمثال ميلونشون، لا يتوجب الانحناء أمام العاصفة بل مواجهتها والسير غالبا عكس التيار من أجل تحقيق الهدف.

لا تعد خيارات ميلونشون مفاجئة بالقياس لجذوره ومساره وتطلعات بعض أبناء جيله.

ولد زعيم اليسار الراديكالي الفرنسي في أغسطس/آب عام 1951 في مدينة طنجة المغربية من والدين من أصل إسباني، والده كان موظف بريد، وأمه مدرّسة، وقد ترعرعا في مدينة وهران الجزائرية عندما كانت مستعمرة فرنسية، وانتقلا منها لاحقا إلى المغرب. وبعد طلاق والديه، انتقل مع أمه إلى فرنسا حيث واصلت مهنة التعليم وبسببها اضطرت الأسرة لتغيير مسكنها عدة مرات واستقرت في منطقة الجورا (شرقي البلاد) حيث تلقى جان لوك، تعليمه في مدارس وجامعات المنطقة، فحصل على إجازتين في العلوم الإنسانية والآداب الحديثة.

يطبق اليساري الفرنسي، "الثائر الدائم"، مقولة الفيلسوف سينيكا التي لا تعني له الحياة "انتظارا لمرور العواصف بل رقصة تحت المطر". وهكذا بالنسبة لسياسيين من أمثال ميلونشون، لا يتوجب الانحناء أمام العاصفة بل مواجهتها والسير غالبا عكس التيار من أجل تحقيق الهدف

انطلق ميلونشون في رحلة العمل السياسي عندما انتمى إلى التنظيمات اليسارية المتشددة، قبل أن ينضم في سبعينات القرن الماضي إلى الحزب الاشتراكي الذي أخذ يصعد على حساب زعامة الحزب الشيوعي لليسار، وذلك  بعد أن أمسك ناصية هذا الحزب الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران. وفي ظل هذه الشخصية الاستثنائية في تاريخ الجمهورية الخامسة، سرعان ما برز اسم ميلونشون داخل صفوف الحزب، فانتقل إلى المنطقة الباريسية حيث انتخب عام 1976، عضوا في بلدية مدينة ماسي (جنوب باريس)، ولاحقا عضوا  في المجلس المحلي لإقليم أيسون. 

Shutterstock
تظاهرات في باريس في 23 مارس/ آذار 2023

وتتمة لهذا المسار، وبعد أن نجح في تكوين رأسمال سياسي داخل الحزب الاشتراكي، عين ميلونشون في 2002، وزيرا مفوضا للتعليم المهني، وشكّل هذا المنصب تجربته الحكومية الوحيدة. 

لم تؤثر التجربة الوزارية العابرة على المسار ولم يتراجع  ميلونشون عن طموحاته واستمر في اندفاعه السياسي عندما انتُخب نائبا أوروبيا، ولاحقا عضوا في مجلس الشيوخ. وخلال وجوده في صفوف الاشتراكيين، انتمى ميلونشون إلى الجناح اليساري المتشدد. وبعد وصول فرنسوا هولاند، المرشح الاشتراكي إلى رئاسة الجمهورية في العام 2012، كان ميلونشون من أشد النواب انتقادا لأدائه، وانضم إلى مجموعة النواب "المتمردين". وانتهى به الأمر إلى الخروج منه وتأسيس "حزب اليسار" ولاحقا حزب "فرنسا المتمردة" الذي لا زال يقوده. 

 تحت الراية اليسارية الراديكالية تمكن جان لوك ميلونشون، من أن يكون أحد أبرز ثلاثة مرشحين في السباق الرئاسي. لكن بالرغم من كلامه عن الاعتزال بعد فشله في آخر انتخابات رئاسية عام  2022، قرر ميلونشون انتهاز فرصة وصوله ثالثا في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية والقفز فوق فشله للمرة الثانية وطرح نفسه للتعايش مع ساكن الإليزيه، عبر فوز تكتله في الانتخابات البرلمانية وفرض نفسه رئيسا للوزراء في تجاوز للدستور الذي يمنح هذه الصلاحية لرئيس الجمهورية. 

وهذا التصميم عند ميلونشون لتكرار تجربة أحد ملهميه، فرنسوا ميتران، في توحيد اليسار كي يصبح وازنا في اللعبة السياسية. 

لكن هذه  الديناميكية التي غذاها تحت قيادة أقصى اليسار لم تفلح في إحداث تغيير لصالحه حسب نتائج الانتخابات التشريعية للعام 2022 التي أسفرت عن فوز أنصار إيمانويل ماكرون، بالأكثرية النسبية.
لم يمنع عدم وجود ميلونشون شخصيا داخل المؤسسات، من محاولته قيادة معارضة متشددة داخل الجمعية الوطنية بهدف تعقيد مهمة ماكرون عبر المشاغبة المستمرة على حكومته. 

وفي كل المحطات من الموقف إزاء حرب أوكرانيا إلى الاحتجاجات حول إصلاح أنظمة التقاعد، كان ميلونشون كامنا على كل مفترق من أجل إيجاد الثغرة للوصول إلى الفعل الثوري. لكن الصعود الموازي لليمين المتطرف وعدم وجود البيئة السياسية- الاجتماعية الحاضنة، أحبطا عمليا رهان ميلونشون، على الذهاب بعيدا في مسار التغيير الثوري الذي لطالما دغدغ مخيلته.

المبارزة والغلو... واستراتيجية التدمير الذاتي  

نادرا ما تمكن جان لوك ميلونشون، من تحويل انتصاراته الأولية إلى مكاسب لفريقه السياسي، أو للفكرة التي يدافع عنها لأن طغيان "الأنا" عند اليساري الحالم المجادل، أودى غالبا برهاناته المفرطة لتنتهي في مغامرة من دون أفق. 

لطالما تصور ميلونشون التغلب على الشيوعيين والاشتراكيين لقيادة جبهة يسارية، لكن عندما أتته الفرصة على طبق من فضة في 2022، سرعان ما أدت مغالاته، ومعارضته المتشددة، وقرارته الفردية إلى تضييع هذا التحالف. 
 

بعد أن نجح ميلونشون في تكوين رأسمال سياسي داخل الحزب الاشتراكي، عُين في 2002، وزيرا مفوضا للتعليم المهني، وشكّل هذا المنصب تجربته الحكومية الوحيدة

"خالف تعرف" عبارة تصلح ولا تصلح لتوصيف ميلونشون، لأن وقوفه في صف فلاديمير بوتين أو "حلفه" مع هوغو شافيز، أو رهانه على "البريكس" بوجه الناتو، ينم عن قناعة عميقة وليس مجرد معاكسة للتيار السائد. في زمن الانطواء القومي وعودة العصبيات والهويات، يبقى ميلونشون ثوريا أمميا على دروب كاسترو، ولولا داسيلفا، وغيرهما، لكنه يستند في غلوه ومبارزاته إلى التاريخ الثوري الفرنسي؛ إذ لم يتوقف عند تاريخ الثورة الفرنسية، و"الرعب" على طريقة روبسبير، و"المقصلة"، بل ذهب ليقدم روايته عن تاريخ العاصمة الفرنسية. 

Reuters

في 12 أبريل/نيسان الماضي، خلال مؤتمر نظمه معهد "La Boétie"، زعم ميلونشون، أنه "حوالي السنة 400 ميلادية في باريس، تم تنظيم أول مظاهرة في العصور القديمة لجنود من أجداد الفرنسيين (Gaulois) في زمن الإمبراطورية الرومانية وذلك في بوليفار سان ميشال، لأنهم كانوا يرفضون الذهاب إلى الحرب في المشرق". 

أراد ميلونشون تقديم البرهان على أن باريس ثورية بامتياز منذ تأسيسها, لكن ليس من الأكيد أن المظاهرة حصلت وأن الجادة التي تقع اليوم في قلب الحي اللاتيني كانت موجودة آنذاك… لكنه الغلو الثوري والديماغوجية اللذان جعلا الخطيب البارع ينسى تذكارات مدينة باريس مع الثورة من الباستيل، إلى الكومونة، ومايو/آيار 1968 عدا المحطات الكثيرة الأخرى.  

وعلى صعيد السياسة الخارجية، لا يزال الحنين يتملك ميلونشون للصراع ضد الرأسمالية والإمبريالية، وكأنه في زمن الاتحاد السوفياتي، أو كأنه يريد الإسهام في نسج حلم يساري عالمي وأممية جديدة ربما يراهن من خلالها على فرنسا ثورية متحالفة مع روسيا، والصين، وبرازيل لولا داسيلفا، وجنوب أفريقيا، من أجل قلب الموازين الدولية. 

ومما لا شك فيه أن مواقف ميلونشون المعادية للفكرة الأوروبية يمكن أن تقود إلى مأزق. وفقا للخبير  السياسي أوليفييه كوستا، فإن عصيان بعض معاهدات وأحكام القانون الأوروبي، الذي يروج له الزعيم الراديكالي اليساري، يمكن أن يؤدي إلى تفكك بطيء للاتحاد الأوروبي، وإلى عزلة  فرنسا. 

يتهم خصوم  مؤسس "فرنسا  المتمردة" ميلونشون بأنه يتحالف مع الإسلاميين السياسيين في تنسيق يطلقون عليه لقب "اليسار الإسلاموي"، لكن نائب مرسيليا السابق يعترف بأن "الدفاع عن المسلمين في بلاده لا يجلب له إلا المشاكل"، مضيفا أنه "يتحمل ذلك لأنه في مصلحة فرنسا". 

 

هكذا مقابل اليمين المتطرف المنادي بالوطنية الفرنسية الإقصائية المستندة إلى خلفية فاشية، يقف ميلونشون على رأس يسار وطني متشدد مؤمن بالتعددية، وينعكس ذلك صراعا على الهوية وعلى موقع فرنسا ومستقبل التعددية فيها. 
وهذا الصدام بين الأضداد المتشددين يمكن أن يأخذ فرنسا إلى أسوأ السيناريوهات وقد شكلت موجة العنف أواخر يونيو/حزيران الماضي إنذارا حقيقيا.

طوال السنوات الأخيرة كرس جان لوك ميلونشون نفسه ظاهرة لا يمكن الالتفاف عليها في الحياة الفرنسية، لكن استراتيجيته "الثورية" أصبحت عمليا، استراتيجية التدمير الذاتي؛ لأنه بالرغم من تراجع الديمقراطيات وصعود الأوتوقراطيات وتصدع العولمة، من الصعب أن تعود فرنسا إلى زمن القائد الملهم، أو الربان الوحيد لأن منظومة قيمها الثورية، وتاريخها المضطرب والحافل، وحاضرها المرتبك يمنع فرنسا من اعتماد هكذا خيار.

font change

مقالات ذات صلة