سلام المقابر

سلام المقابر

خفت دوي المدافع في العراق وسوريا وليبيا في الأعوام القليلة الماضية. وبدا أن الأوضاع قد استقرت على نوع من الأمر الواقع الذي يعكس موازين القوى الداخلية والإقليمية ويُجمّد الصراعات عند خطوط تماس جغرافية أو طائفية لا تتجاوزها.

ويجوز لمراقب أجنبي، يجلس ربما وراء مكتبه داخل مركز أبحاث في عاصمة بعيدة، التشدق بأن الأمر الواقع المجمد أو "الستاتوكو" يظل أفضل من أن يموت الناس تحت أنقاض بيوتهم أو ذبحا على حواجز مسلحين موتورين وغاضبين.

بيد أن البلدان المذكورة وغيرها مثل لبنان الذي يتشارك معها في حقيقة الانقسام السياسي والطائفي غير القابل للتجاوز، إنما تعيش الآن نوعا خاصا من السلام. إنه سلام المقابر.

مقتل أكثر من مئة ضحية من المشاركين في حفل الزفاف في بلدة قرقوش العراقية، واختفاء الآلاف من المفقودين إثر إعصار دانيال في درنة الليبية، وسقوط آلاف القتلى جراء زلزال السادس من فبراير/شباط الماضي في سوريا وتدمير حوالي ثلث العاصمة اللبنانية بيروت في انفجار حصد أرواح 230 شخصا في أغسطس/آب 2020، مصائب تتشارك كلها في دور مهم "للعامل البشري" الذي يحضر كممهد لكوارث كان يمكن أن لا تقع إطلاقا في تفجير مرفأ بيروت أو أن تكون نتائجها أقل مأساوية مثل زلزال شمالي سوريا.

"العامل البشري" هذا تختبئ وراءه قارات ومحيطات من الفساد المتراكم والتجاهل المتعمد للقوانين، وتراث من الإفلات من المحاسبة والعقاب. لتأتي النتائج في غفلة من الجميع، وربما برضاهم ووسط الصمت والتواطؤ، على شكل غرق المئات في البحر على متن قوارب الهجرة أو التشرد بين مخيمات تديرها جهات لا تبالي بكرامة البشر ولا بمصائرهم.

يجوز لمراقب أجنبي، يجلس ربما وراء مكتبه داخل مركز أبحاث في عاصمة بعيدة، التشدق بأن الأمر الواقع المجمد أو "الستاتوكو" يظل أفضل من أن يموت الناس تحت أنقاض بيوتهم أو ذبحا على حواجز مسلحين موتورين وغاضبين

أن يتحول زفاف في سهل نينوى حيث يخرج سكان المنطقة من حرب أهلية، ليدخلوا في مجزرة ينظمها تنظيم داعش، أو أن تجرف المياه سكانا آمنين في درنة التي كانت قد مرت عليها الحرب الليبية المتمادية، أو أن يُدمر انفجار خرافي الأبعاد منازل سكان بيروت، ليست أمورا من صنع القدر يتعين قبولها بذريعة أن "الحياة أقوى"؛ فتفجير مرفأ بيروت، على سبيل المثال، الذي منع التحالف السياسي الحاكم التحقيق فيه، وأفرج عن المتورطين المباشرين بالمسؤولية عنه بعد اعتقالهم، كشفت وسائل الإعلام كيف حصل؟ ومن استورد المتفجرات؟ ومن أين جاءت؟ ومن كان يستطيع الوصول إليها؟ الوزراء والمسؤولون الرسميون الذين طلب القضاء مثولهم أمامه، كانوا أقوى من أن يستجيبوا لنداءات الأمهات الثكلى بتحقيق العدالة البسيطة المجردة الخالية من الاعتبارات السياسية والطائفية وموازين القوى ومصالح زعماء الائتلاف الحاكم ورهطهم. 

بيد أن العدالة، على بساطة معناها، ليست بهذه السهولة في بلادنا؛ فالتحقيق في تفجير المرفأ صار في لمحة بصر "يهدد أمن المقاومة" أي أمن فريق منيع ومسلح وقادر على القتل والتهرب من تحمل مسؤوليته، كما أظهرت إدانة أحد عناصر "المقاومة" في المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. وطويت التحقيقات العلمية والإدارية في كيفية وصول 2750 طنا من نيترات الأمونيوم من درجة عالية التركيز لا تستخدم إلا في المتفجرات، وغابت المعطيات والأسماء والأرقام في الأدراج. ولن تخرج منها قريبا. 

لماذا؟ لأن السلم أفضل من الحرب. ولأن سقوط مئات القتلى من دون أن تجري محاكمة المجرمين الذين قتلوهم، أكثر إنسانية وتوافقا مع مصلحة البلد العليا من استئناف الحروب الطائفية التي ستنتهي كما بدأت، أي عودة قادة الجماعات المسلحة لحكم البلد الذي يكون قد خسر عمرانه واقتصاده إضافة إلى الأبناء. 

الطريقة التي يُفرض بها سلام الأمر الواقع في بلادنا العربية، والقبول بسيادة الفساد على كل نواحي الحياة العامة وتفشي العنف المسلح كوسيلة عيش يومية، وانضواء مؤسسات القضاء في التقاسم المافيوي للسلطة، هو من سمات باتت واسعة الانتشار وتجد الكثير من القبول والتأييد والتبرير

ولا يقتصر الوصف هذا على الحالة اللبنانية بداهة. بل إن الطريقة التي يُفرض بها سلام الأمر الواقع في بلادنا العربية، والقبول بسيادة الفساد على كل نواحي الحياة العامة وتفشي العنف المسلح كوسيلة عيش يومية، وانضواء مؤسسات القضاء في التقاسم المافيوي للسلطة، هو من سمات باتت واسعة الانتشار وتجد الكثير من القبول والتأييد والتبرير. 

القتلى الأقل الذين يموتون في حوادث ترجع المسؤولية عنها إلى الفاسدين الذين يمعنون في تجاوز القانون ويحولون دون تطبيقه، أفضل من القتلى الكثر الذين ستحصدهم نيران الميليشيات المسلحة في الشوارع. ثم ماذا تفضل؟ حربا من نوع تلك المندلعة في السودان لا تعرف لماذا بدأت ومتى ستنتهي؟ أم حريقا في قاعة أفراح في سهل نينوى قد يبقى المسؤولون عنه احرارا؟ يسألك الخبير الأجنبي معتقدا أنه أوقعك في فخ الواقعية السحيق. 

font change