الأكراد والحرمان من نعمة "دفن الماضي"

الأكراد والحرمان من نعمة "دفن الماضي"

في نهاية شهر أغسطس/آب من كُل عام، يستعيد الحزبان الكرديان الرئيسان في إقليم كردستان مواجهة إعلامية ومناكفة سياسية مطولة، بشأن ما حدث في مثل هذا التاريخ عام 1996. وقتها، وصلت الحرب الأهلية بين الحزبين الكرديين ذروتها؛ حيث تواجه الطرفان داخل العاصمة أربيل نفسها.

في تلك المعركة، كان الحزب الديمقراطي الكردستاني متحالفا مع النظام العراقي السابق، واستعان بجيشه للسيطرة على المدينة ومحيطها، بينما كان الاتحاد الوطني متحالفا مع إيران علنا، تؤازره قوات الحرس الثوري الإيراني، ومعها فصائل عراقية إسلامية موالية لإيران، مثل منظمة بدر.

وفي دورة حياتها السنوية، مع اقتراب نهاية شهر أغسطس/آب من كل عام، يشحذ الحزبان الكرديان مختلف مؤسساتهما الإعلامية وذخيرتيهما الأرشيفية وصُناع الرأي العام من مؤيديهما، يتبادلان فيضا من الاتهامات المتبادلة، المستسهلة للإدانة والتجريم والتخوين، يعيدان إثارة ما جرى، وكأنه حدث البارحة، ويدفعان القواعد الاجتماعية نحو الاستقطاب مجددا، ويمنعان نعمة "دفن الماضي" من الحلول.

ليست أحداث نهاية شهر أغسطس/آب فريدة في الحياة السياسية والعامة الكردية العراقية، فبعدها بأسابيع قليلة، تحل ذكرى أحداث 16 أكتوبر/تشرين الأول، التي جرت عام 2017. وقتئذ، اجترح الاتحاد الوطني الكردستاني توافقا مع إيران وفصائل الحشد الشعبي العراقية، سُلمت بموجبه مدينة كركوك المتنازع عليها إلى فصائل الحشد، وأُخرجت قوات البيشمركة من المدينة. فصار الحزبان يتبادلان الاتهامات والنعوت وأشكال التجريم والإدانة كل عام، في الذكرى السنوية لتلك الأحداث.

الحدثان المذكوران، هما حلقتان من سلسلة من الأحداث الدموية المشابهة، التي وقعت بين التيارات والقوى السياسية الكردية طوال التاريخ المعاصر للحركة الكردية في العراق، ومثلها ثمة سلاسل أخرى من الأحداث بين هذه الأحزاب الكردية العراقية وبين الأطراف الكردية من البلدان الأخرى، مثل الأحزاب الكردية الإيرانية والتركية وحتى السورية. وبين هذه الأخيرة فيما بينها، وبينها وبين الأحزاب الكردية في البلدان الأخرى. فالجغرافيا والتنظيمات والآيديولوجيات والقضايا كانت عابرة للحدود بين مختلف أعضاء الحركة التحررية الكردية في هذه البلدان.

وفي المشهد الأكثر عمومية، فإن الحركات التحررية الكردية المسلحة، ومثلما كانت في صراع دائم مع الأنظمة والجيوش والبلدان التي كانت تنشط ضمنها وضدها، كانت متصارعة أيضا فيما بينها، بقسوة وضراوة لا تقلان عن المواجهة مع "الآخرين".

حدث ذلك لأسباب كثيرة، وعلى رأسها السعي لأجل الظفر بالسلطة الرمزية والسياسية والمادية التي للشعب الكردي في هذه البلدان.

الحركات التحررية الكردية المسلحة، ومثلما كانت في صراع دائم مع الأنظمة والجيوش والبلدان التي كانت تنشط ضمنها وضدها، كانت متصارعة أيضا فيما بينها، بقسوة وضراوة لا تقلان عن المواجهة مع "الآخرين"

وحسب تلك المعادلة، فإن مختلف التيارات والقوى السياسية الكردية كانت على الدوام ضحية لتدخلات هذه البلدان وأجهزتها واستراتيجياتها وأفعالها ضد الحركات الكردية. هذه البلدان بمؤسساتها وتاريخها وأدواتها، كانت على الدوام أقوى شكيمة وخبرة ومعرفة وقدرة على الاستفادة من الحساسيات المتبادلة والمصالح المتناقضة بين التنظيمات الكردية في مختلف البلدان، وتعمل جاهدة للتعاون في ما بينها كدول، لخلق وإثارة وإدامة تلك الفخاخ بين التنظيمات الكردية. 
ومثلما كان الأكراد ضحايا فقدانهم لأي كيان سياسي في جغرافيا المنطقة، فإنهم صاروا بالتقادم ضحايا سوء قدرتهم على الفكاك من حتمية المواجهة الذاتية فيما بينهم، وفي مرحلة لاحقة استحالة تجاوزهم النفسي والسياسي والرمزي والاجتماعي لتلك المواجهات؛ فالعقل الجمعي للنُخب والمجتمعات الكردية مبني أساسا على عدم الإدراك العميق أن ما جرى بينهم من مواجهات ودماء لم يكن إلا نتيجة طبيعية لضعفهم الكلي في توازنات ومعادلات المنطقة. وأن الأحداث والتجارب التي مرت بها هذه الحركات الكردية المسلحة، ما كان لها أن تكون "أفضل مما كانت"، في ظل هذه النوعية من الأنظمة الحاكمة والمتوافقة على محق الأكراد وحركاتهم التحررية بكل شكل، وحيث إن اقتتالهم الداخلي أفضل الأدوات وأكثرها إغراء لتلك الدول. 
وأيضا لأن الأكراد لم يكونوا ذوي كيان دولتي، فإن جروحهم وذاكرتهم الأليمة جراء تلك الحروب البينية، لم تتحول إلى أي شيء آخر غير الجدالات السياسية والمواجهات الكلامية والاتهامات الرعناء المتبادلة، لم يصبح أي منها مادة ما فوق سياسية. لم تغد آدابا وفنونا قادرة على التعامل مع جروح الذاكرة بحيوية ولغة وأدوات وتعبيرات مختلفة، ولم تتسرب إلى الجامعات والدراسات والكتابات النقدية، وحُرمت من أن تكون علوما اجتماعية وتاريخية وسياسية، تملك أدوات تفكيك وتحليل عميقة، تستطيع أن تصبح عتبة أولى لتستطيع المجتمعات هضمها ووعيها وتاليا تجاوزها، استُبعدت لأن تصبح نقاشا عموميا محايدا ومفتوحا، بعيدا عن سطوة هذه الأحزاب، تستفيد المجتمعات مما جرى وتحوله إلى ذخيرة ورأسمال عمومي، يستطيع المجتمع عبرها تجاوز كل ما حدث، ومنع تكراره مستقبلا. 
المشكلة كامنة في عدم امتلاك الأكراد لنُخب وأدوات ومؤسسات، وحتى ذاكرة جماعية، غير سياسية، بالمعنى الحزبي تحديدا. فكل شيء في عالم الأكراد محتكر في فضاء السياسة الحزبية. وهذه الأحزاب تستميت في اعتبار تاريخها وأفعالها ومسيرتها العمومية مجبولة بالاستقامة والطهرانية، طلبا للقداسة، لأنها تعرف أن القداسة أقوى الأدوات للسيطرة في المجتمعات الكردية، وفي مختلف البلدان. 
 

اجترح الاتحاد الوطني الكردستاني توافقا مع إيران وفصائل الحشد الشعبي العراقية، سُلمت بموجبه مدينة كركوك المتنازع عليها إلى فصائل الحشد، وأُخرجت قوات البيشمركة من المدينة. فصار الحزبان يتبادلان الاتهامات والنعوت وأشكال التجريم والإدانة كل عام، في الذكرى السنوية لتلك الأحداث

لم تكن مأساة الأكراد خلال العقود الطويلة متمثلة في حرمانهم من الجدارة والحضور والمساهمة في التاريخ المعاصر للمنطقة فحسب، بكونهم جماعة قومية متساوية المقام والحق مع باقي الجماعات، بل كانت أيضا في قدرة هذا الحرمان على "تشويه" المجتمع الكردي وإمكانياته وسياقه التاريخي، الذي كان من المفترض أن يتبدل ويتحدث ويمتلك قدرات وبنى وحساسيات مطابقة لما لدى الجماعات الأخرى، وعلى رأسها القدرة على "دفن الماضي".

font change