نفط كردستان... الولايات المتحدة تُعيد ضبط العلاقة بين بغداد وأربيل

حلفاء إيران يعتبرون الملف ورقة ضغط أميركية ضد الحكومة المركزية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
محطة خورمالا للطاقة، جنوب أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق المتمتع بالحكم الذاتي، في 15 يونيو

نفط كردستان... الولايات المتحدة تُعيد ضبط العلاقة بين بغداد وأربيل

من خارج التوقعات تماما، وقّعت حكومة إقليم كردستان العراق أواخر الشهر المنصرم عقودا ضخمة مع عدة شركات أميركية خاصة بتطوير حقول النفط والغاز الطبيعي والطاقة الكهربائية في الإقليم، تجاوزت قيمتها 110 مليارات دولار. الأمر دفع الحكومة الاتحادية للاعتراض، معتبرا الأمر مسا بسيادتها، حتى إنها قطعت رواتب موظفي إقليم كردستان بعد أيام قليلة من التوقيع، فيما أعلنت الولايات المتحدة دعمها الكامل والمفتوح لتلك العقود المُبرمة، الأمر الذي اعتبره مراقبون تحولا في العلاقة الثنائية بين بغداد وأربيل، ومناسبة لاكتشاف الدور والاستراتيجية الأميركية تجاههما، وهي التي كانت الأكثر تأثيرا طوال السنوات الماضية.

نهاية مرحلة

الخطوات الأخيرة جاءت بعد سنتين من قرار محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية (ICC) القاضي بإيقاف صادرات إقليم كردستان النفطية عبر تركيا، فارضة على تركيا غرامة بقيمة 1.5 مليار دولار لصالح العراق، لأنها تعاقدت مع حكومة إقليم كردستان دون موافقة الحكومة الاتحادية.

وقتئذ، فسرت الحكومة الاتحادية الأمر بأنه "انتصار" لرؤيتها وتفسيرها لمواد الدستور العراقي الخاصة بملف المستخرجات النفطية والغازية وتصديرها، والذي بقي محل تنازع قانوني وتشريعي بينها وبين حكومة إقليم كردستان لأكثر من عشر سنوات (2013-2023). فالحكومة الاتحادية كانت تؤكد على الدوام أنها وبموجب المادة 111 من الدستور الذي أُقر في عام 2005، والتي تنص على أن "النفط والغاز ملك لجميع شعب العراق في جميع المناطق والمحافظات"، مخولة بإدارة هذا الملف تماما، سواء بالتعاقد أو الاستخراج أو التصدير، وعبر المؤسسات الرسمية المركزية فحسب.

طوال العامين الماضيين، صارت الأوساط السياسية العراقية تعد بأن يكون الوضع الجديد، أي "احتكار الحكومة الاتحادية للملف النفطي"، لصالح الجميع

خلال السنوات نفسها، كانت حكومة إقليم كردستان تستند في سياساتها النفطية والغازية شبه المستقلة إلى المادتين 112 و115 من الدستور العراقي. فالمادة الأولى تقول في فقرتها الثانية: "تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معا برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي معتمدة أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار". وتاليا تعتقد حكومة كردستان جازمة أن الدستور يفترض ويفرض شراكة واضحة ومبرمة بين المركز والإقليم في الملف النفطي.

أما المادة 115 من الدستور فتقول: "كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في حالة الخلاف بينهما". وتاليا ترى حكومة الإقليم أن الملف النفطي يندرج ضمن ذلك تماما، لأنها خارج ثلاثية الجيش والسياسة الخارجية والسياسة النقدية التي يحتكرها المركز دستوريا، وبذا من حقها التعاقد والاستخراج والتصدير.

أ.ف.ب
قوات الأمن العراقية تسير على طريق في مدينة كركوك، شمال العراق

طوال العامين الماضيين، بعد صدور قرار محكمة غرفة التجارة الدولية، صارت الأوساط السياسية العراقية تعد بأن يكون الوضع الجديد، أي "احتكار الحكومة الاتحادية للملف النفطي"، لصالح الجميع. فائتلاف "إدارة الدولة" الذي انبثقت عنه حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني وقّع ورقة سياسية مع الأحزاب الكردية الرئيسة المنضوية فيه، تعهد عبره بتسيير تمويل رواتب وحصة إقليم كردستان العراق من الميزانية العامة للبلاد، إلى حين إقرار قانون للنفط والغاز، مطابق لمضامين الدستور، وأن لا تزيد مُدة إنجازه عن ستة أشهر.

لكن القوى السياسية الكردية صارت تتهم الحكومة والأحزاب المركزية بعدم الجدية، مُشيرة إلى نزعتها لإبقاء الأمور على هذا الشكل إلى ما لا نهاية، مستفيدة من هيمنتها على القطاع الاقتصادي تماما، واستخدامه كأداة في علاقاتها الإقليمية والدولية للضغط على إقليم كردستان وانتزاع صلاحياته وقضم وضعه الفيدرالي/الدستوري. فقانون النفط والغاز لم يُقدم للبرلمان أساسا، ومثله كل التشريعات الجديدة الموعودة، البديلة عما ورثه العراق عن النظام السابق من قوانين وتشريعات شديدة المركزية. فيما ماطلت المؤسسات الحكومية كثيرا في ملف رواتب موظفي إقليم كردستان وحصة الإقليم من الميزانية العامة، إلى أن أعلنت إيقافها تماما.

المصالح الأميركية والعراقية تتحقق على أفضل وجه من خلال وجود إقليم كردستان العراق قوي ومرن داخل عراق فيدرالي ذي سيادة ومزدهر

المتحدثة باسم الخارجية الأميركية تامي بروس

الاتفاقات النفطية الأخيرة كانت بمثابة إعلان نهاية تلك المرحلة تماما، فمجموع الأوساط السياسية الكردية كانت تصرح طوال الشهور الماضية بأن استمرار الأمر حسب السياق الحالي سيعني موافقة الإقليم، وإن غير المباشرة، على التخلي عن صيغته الفيدرالية والعودة إلى آلية التعامل مع المحافظات مقابل الحصول على التمويل، كما كان الحال في زمن النظام السابق، وهو ما أوضحه زعيم الحزب "الديمقراطي الكردستاني" والرئيس الأسبق للإقليم مسعود برزاني بوضوح في "مؤتمر نساء كردستان" أواخر الشهر الماضي.

حضور أميركي

في هذا السياق، يرى المسؤولون الأكراد أن الولايات المتحدة هي من يجب أن تبت في الأمر، لأنها كانت المؤسس للنظام السياسي العراقي الجديد، ولشبكة مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية الضخمة مع العراق، ومن ضمنه إقليم كردستان. فالإحساس العام في إقليم كردستان متمحور حول الثقة بالموقف الأميركي، الذي لن يسمح بالتحلل السياسي والأمني والاقتصادي للإقليم، سواء لصالح القوى العراقية المرتبطة بإيران، أو لصالح الأخيرة نفسها.

أ.ف.ب
وزير خارجية أميركا السابق أنتوني بلينكن يلتقي رئيس وزراء إقليم كردستان العراق مسرور بارزاني في وزارة الخارجية الأميركية، في 26 فبراير 2024

الزيارة الأخيرة لرئيس وزراء إقليم كردستان مسرور بارزاني إلى الولايات المتحدة، ولقاءاته الواسعة مع الساسة الأميركيين، سواء التشريعيين أو التنفيذيين، أعادت التذكير بموقع إقليم كردستان ضمن الاستراتيجية الأميركية للعراق، وكامل المنطقة. فمستوى اللقاءات كانت أرفع من تلك التي يجريها أعضاء الحكومة الاتحادية العراقية في العاصمة الأميركية واشنطن، ومثلها التصريحات الأميركية، التي تكللت بتصريحات وزير الخارجية ماركو روبيو عقب لقائه مع بارزاني.

المتحدثة باسم الخارجية الأميركية تامي بروس أجملت موقف الولايات المتحدة بـ"دعم واشنطن القوي للشراكة الاقتصادية مع إقليم كردستان"، مسلطة الضوء على الدور المتزايد للشركات الأميركية في قطاع الطاقة في الإقليم. مذكرة في آخر يوم لزيارة بارزاني لواشنطن بـ"أهمية إقليم كردستان في العلاقة الأوسع بين الولايات المتحدة والعراق"، مضيفة: "ناقشنا بعض الصعوبات هنا، ولكن من الجدير القول إن الولايات المتحدة تدعم الصفقات الاقتصادية التي تعود بالنفع على جميع العراقيين، بما في ذلك الاتفاقان اللذان تم الإعلان عنهما الأسبوع الماضي، إن الولايات المتحدة تشجع بغداد وأربيل على توسيع إنتاج الغاز المحلي، وهذه الشراكات خطوة حاسمة نحو استقلال العراق في مجال الطاقة.. نحن نعتقد أن المصالح الأميركية والعراقية تتحقق على أفضل وجه من خلال وجود إقليم كردستان العراق قوي ومرن داخل عراق فيدرالي ذي سيادة ومزدهر".

الأحزاب والساسة العراقيون المقربون من إيران فسروا الأمر كأداة وورقة أميركية جديدة للضغط على الحكومة الاتحادية عبر دعم مطالب إقليم كردستان. فبغداد– حسب رأي هؤلاء- لم تُلبِ مختلف المطالب الأميركية، تحديدا فيما خص تفكيك "الحشد الشعبي" والفصائل المسلحة التي كانت تهاجم المصالح الأميركية، ولم تفك علاقتها الأمنية والاقتصادية والسياسية مع إيران ومختلف الجهات المحسوبة على "محور الممانعة"، ولم تخضع للرؤية الأميركية لمستقبل المنطقة عقِب ما حدث في غزة. وهذه كلها قضايا محل حساسية بالنسبة للولايات المتحدة، وهي ستسعى لأن تستخدم أقصى درجات الضغط لنيل استجابة عراقية سريعة وواضحة لها.

العراق ما يزال يعتمد على الغاز الإيراني رغم ثروته الهائلة، والكثير من المستخرجات العراقية يتم تهريبها إلى إيران، وهو ما يوفر مبالغ مالية طائلة لإيران

اللوحة الأوسع

دون أن ينفي تلك التفاصيل، يوسع الباحث في شؤون الطاقة فوزي شيرواني في حديث مع "المجلة" الرؤية للملف النفطي/الغازي في العراق وإقليم كردستان، والفاعلية التي ترى الولايات المتحدة أنها قادرة على لعبها في هذا الملف، كأساس لحضورها ونفوذها في منطقة ما تزال الأكثر أهمية بالنسبة لها حتى الآن.

يشرح شيرواني ذلك قائلا: "تعرف القوى العالمية الرئيسة موقع العراق في الخريطة النفطية والغازية العالمية، فهو خامس بلدان العالم من حيث الاحتياطات المستكشفة، بثروة تتجاوز 150 مليار برميل نفط خام، تتجاوز نسبته 20 في المئة من مجموع ما في منطقة الشرق الأوسط من احتياطيات، وتذهب الدراسات الاستشرافية إلى أن الاحتياطي الحقيقي للعراق يتجاوز 215 مليار برميل نفط خام، وأن حصة إقليم كردستان منه تقارب 45 مليار برميل حسب التقديرات، وتعترف حكومة إقليم كردستان بذلك، وهو ما يجعلها مركز جذب لعشرات الشركات العالمية، رغم الصعوبات القانونية بسبب مكانة الإقليم في الدولة العراقية، والعوائق اللوجستية المتعلقة بجغرافيا كردستان الحبيسة عن البحار. الأمر نفسه ينطبق على ملف الغاز الطبيعي".

أ.ف.ب
ناقلة الغاز المسال التي تحمل علم ليبيريا، نافيجيتور جيميني، عند رصيف الغاز المسال في ميناء أم قصر جنوب العراق في 4 سبتمبر 2024

ويضيف الباحث المختص في شؤون الطاقة: "في ظل هذه الوفرة النفطية والغازية الطافحة، تجد الولايات المتحدة، وحلفاؤها الأوربيون والغربيون، معضلتين متراكبتين. فالعراق ما يزال يعتمد على الغاز الإيراني رغم ثروته الهائلة، والكثير من المستخرجات العراقية يتم تهريبها إلى إيران، وهو ما يوفر مبالغ مالية طائلة لإيران، بالذات للكيانات الأكثر معاداة للولايات المتحدة ضمن النظام الإيراني، وهو شيء سعت الولايات المتحدة لإيقافه طوال سنوات، لكن مراكز القرار العراقية كانت تتعنت في الاستجابة للمطالب الأميركية وتتحجج بملف الكهرباء، وهو أمر يمكن لها أن تُغلقه عبر التعاقدات الأخيرة مع حكومة إقليم كردستان. الأمر الآخر يتعلق بتصاعد دور الصين في الصناعة النفطية العراقية. فالشركات الصينية مساهمة ومستفيدة من إنتاج 3 ملايين برميل نفط عراقي في اليوم، ولها شبكة واسعة من النشاط في البنية التحتية للنفط والغاز العراقي، وكمية الحقول الحصرية لشركاتها لا تقل عن 25 مليار برميل احتياطي، فيما تدعم، إلى جانب روسيا، تعزيز السياسات المركزية العراقية في القطاع النفطي، لتكون على شاكلتها. كل ذلك يتعارض مع الرؤية والاستراتيجية الأميركية الكبرى نحو المنطقة، التي تدمج الاقتصاد بالسياسة، وفعليا تجعل الأخيرة تابعة للأولى. لأجل ذلك ترى نفسها داعمة قوية لإقليم كردستان".  

font change