ضمن الخط الاعتيادي للحياة الاجتماعية للأُسر السورية، تدور حياة العائلة نحو دفع الشباب إلى التحصيل العلمي، وتندرج أهمية الشهادة الجامعية بوصفها إطارا لتأمين الحياة الاقتصادية والاجتماعية اللائقة. خلال الربع الأول من الألفية الجديدة، كانت الشهادة الجامعية ذات معيار اجتماعي أولا واقتصادي ثانيا. حيث تظهر أبعاد اجتماعية وقيمية للشهادة الجامعية في سوريا، وتركز العائلات السورية على المعنى المضاف لبعض الشهادات كالطب والصيدلة وفروع الهندسة المختلفة.
إدلب في 15 يناير/ كانون الثاني 2020
منذ ثمانينات القرن الماضي، حتى أحداث عام 2011، كان الاهتمام بالوصول إلى الفروع العليا مدار جدال لدى العائلات السورية، فالشهادة الثانوية تشكل عبئا مضافا ومصيريا في حياة كل عائلة. وأنشأ الصراع على الوصول إلى الكليات العليا اقتصادا موازيا للحركة التعليمية الرسمية في ما يُسمى بالتعليم الخاص، أي الجامعات التي لا تتشدّد مثل الجامعات الحكومية في تسجيل الطلاب وفقا للعلامات التي حصلوا عليها. فتخطّي الفتيان والفتيات الشهادة الثانوية بمعدّلات مرتفعة، هو أمل ومهمة شاقة مشتركة بين الطلاب وأهلهم، لا سيما أن بلوغ المرحلة الجامعية يؤمّن وصولا إلى سوق العمل. وقد لجأت الطبقتان الثرية والمتوسطة إلى التعليم الخاص، عند فشل الطلاب في تحقيق العلامات المؤهلة لكليات الطب والهندسة. وافتتحت الجامعات والكليات الخاصة فروعا مختلفة، منها الحقوق والصحافة والإعلام وغيرها من الفروع الموازية والمختلفة عن فروع الجامعات الرسمية، تواؤما مع الاندفاع الاجتماعي لتحصيل الشهادات.
انهيار المنظومة التعليمية
إلا أن تحولا طارئا حدث منذ 2011، مع انهيار المنظومة التعليمية، وانكشاف عدم جودتها في أن تكون رافدة لسوق العمل، وانهيار الاقتصاد جراء عبثية الحرب، وضربها البنى التحتية والاجتماعية للبلاد، وصولا إلى القرارات الأخيرة القاضية بإلزام طلبة سوريا فتح حساب بنكي لاستيفاء الرسوم الجامعية، التي تتزايد في السنوات الثلاث الأخيرة بوتيرة لا تتناسب مع الدخل أو حال الطالب السوري المعيشي، وكان ذلك وفقا للقرار رقم 1109 الصادر عن وزارة التعليم العالي في يوليو/تموز الماضي. واعتبر كثر هذه القرارات كيدية، إذ صدرت بالتوازي مع احتجاجات عامة وشبابية مطالبة بتخفيف النفقات.
إلا أن الشهادة العليا لم تعد في حدّ ذاتها كفيلة بتأمين عمل للطالب الجامعي، وأصبحت الحسابات الاجتماعية والاقتصادية تأخذ طابعا مختلفا. خلال العقد الأخير أصبح سوق العمل محدودا للغاية، فآلاف الطلاب من المتخرجين لا يجدون فرصة عمل مناسبة لهم أو لخبراتهم. فتضيع الخبرات في سوق غير منظم وغير متطور، وينهار معنى الخيار الجامعي أو المهني للاحتراف الاكاديمي.
لا يجد طلاب الصيدلة، على سبيل المثل، عملا في اختصاصهم لانحسار عمل الشركات الدوائية، وتقلّص مجالات العمل بسبب الحرب. فبات مستحيلا توفير مكان لفتح صيدلية. أما طلاب الطب، بعد مرحلة الجامعة التي تمتدّ لست سنين، فيحتاجون إلى التخصّص لكي يمارسوا المهنة ويتمكنوا من الحصول على رواتب مجزية نتيجة عملهم وتطوير خبراتهم الاختصاصية داخل المستشفيات. الرواتب في الطب العام لا تزيد على 30 دولارا، وتمتدّ مرحلة الاختصاص إلى ست سنين أخرى، مما يجعل حياة الطبيب دون أي مردود مادي يؤمن الحدّ الأدنى من العيش لمدة 12 عاما.
مجموعة من اللاجئين السوريين، اليونان، 3 سبتمبر/ أيلول 2023.
أما فروع الهندسة بمختلف أنواعها، فلا تؤمن للمتخرجين، هي الأخرى، سبل العيش، فالبلاد تكتظ بالمهندسين الذين لا يجدون عملا يتناسب مع خبراتهم.
في المقابل، هناك شهادات لم تعد توفر فرص العمل، لا سيما بعد إغراق السوق بها، خاصة دراسات العلوم اﻹنسانية من علم اجتماع وعلم نفس، فضلا عن الحقوق والآداب.
المفارقة السورية
للإضاءة أكثر على المسألة، توجّهنا إلى الدكتورة هناء جابر المتخصّصة بشؤون الشرق الأوسط، التي أجرت بحثا استقصائيا مطولا في الثمانينات عن هجرات العمل في منطقة شرق آسيا، تناولت فيها آثار غرق المجتمعات بالشهادات الجامعية.
تشدّد جابر أن سوق العمل يعتمد على مبدأ العرض والطلب و"المفارقة في سوريا تكمن في تزامن وفرة الشهادات والمتخرجين مع ثلاثة أمور: أولا تدنّي صدقية الشهادات – العلمية منها بالتحديد- بحكم المأساة التي يعيشها المجتمع السوري منذ أكثر من عقد، ثانيا انعدام فرص العمل في غياب أفق إعادة الإعمار، وأخيرا انسداد أفق الهجرة بحثا عن سبل العيش. وهذا ينعكس حكما على القيمة العملية أو الرمزية للشهادة: العملية في الاقتصاد (مردود مالي)، الرمزية في المجتمع (الصورة الاجتماعية المرتبطة بالمهنة). إنما على أية حال تبقى للشهادة قيمة على صعيد الفرد، إذ تشير إلى رغبة الفرد في الحصول على المعرفة وعلى الاعتراف المجتمعي بالجهد المبذول في هذا الصدد".