ذهبنا في باريس إلى قاعة لنبكي خالد خليفة فوجدناه يضحك علينا، أو هكذا تخيّلناه ونحن نستعيد أيّامنا معه، مرحه ورفقته الحميمة وصموده النادر في الحياة.
فليلة السبت الماضي كان لنا لقاء لاستعادة الخال، كما يناديه أصدقاؤه، لتثبيته في الذاكرة، على الصورة التي ألفناها منه. فتحدّث البعض عن ذكرياته كفرد من العائلة، وهي عائلة بدت كبيرة بحجم سوريا، التي لم يشأ أن يغادرها إلاليعود إليها.
في جزء من فيلم سينمائي قيد الإنجاز، عُرض في اللقاء، وصف خالد مدينته بـ "المظلمة" و"المفخّخة" لكنّه قال إنّه لن يغادرها.
كان يظن أن الذين غادروا سوريا إلى المنافي لديهم الشجاعة الكافية لعمل ذلك. هو لم يمتلك هذه الشجاعة، كما ردّد في معظم اللقاءات، لأنّه غير قادر على الابتعاد عن غرفته وسريره وأشيائه الخاصّة.
أراد خالد أن يقول إن الكاتب ابن بيئته وهي مصدر هواجسه الإبداعية ولن يستطيع أن ينجز ما هو أهم إذا ابتعد عن قصص بلده التي سمعها وقرأها وعاش فيها.
في كتابه الأخير "نسرٌ على الطاولة المجاورة/ دفاتر العزلة والكتابة/ الدفتر الأوّل" [نوفل، بيروت 2022] يتحدث خالد عن اشتراطات يراها مهمّة لعمل الكاتب بعضها شروحات وملاحظات مألوفة كتنظيم الوقت واقتناء الفكرة والمثابرة على الجلوس أمام الطاولة وعلاقة الكاتب بمحيطه العائلي والاجتماعي، إلا أنّ أهم ما يمكن ملاحظته في الكتاب هو حرص خالد خليفة على تحديد علاقة المستبدّ بالكاتب، فيقول إنّ "المستبدّ يحبّ أشباه الكتّاب، لأنّهم يدورون في فلك لغته التي غالبا ما تكون إنشائيّة، خطابية، لا قيمة إبداعيّة لها، تمنحه قوّة وهميّة، ليقودهم بعيدا عن الحقيقة". وهؤلاء (الأشباه) "يكرّسون طريقة تفكير المستبدّ"، الذي "يمنحهم مرجعيّة واحدة للكتابة، وطريقة واحدة للتفكير"، فيتماهون "في مفرداته، ويساهمون في إنتاج ثقافة تشبههم وتشبهه". وفي الوقت ذاته "يكره المستبدّ الكتّاب لأنّهم يجعلونه يحسّ بعجزه عن التعبير، واستحالة تدجينهم بمؤسساته، يدمّرون لغته بقوّة سردهم، ويفضحون منظومته وهشاشتها وعدم صمودها أمام امتحان التاريخ"، فهو "يكره الكتّاب لأنّهم يحطّمون سرديته وتماثيله".
لقد بدا خالد خليفة (59 عاما) في سنواته الأخيرة مكتملا، لكنّه بقي في المقابل يكابد وجع بلده، بالرغم من الأمل المبثوث في كلماته وسهراته المبهجة مع رفقاء الأيّام، فمع قسوة الاستبداد لا يكتمل الكاتب إلاّ ليموت، يموت كمدا
وإذ يقول خالد إنّ الكتّاب حين يشرحون مهنتهم "يبدون كلاعبي أكروبات في سيرك، يستجدون تعاطفا من جمهور لا يفقه شيئا في السيرك وقوانين التوازن"، إلا أنه في تدوينه لهذه الملاحظات عن الكتابة يقدّم لنا خبرته الكتابية في أوج اكتمالها.
فيبدو هذا الكتاب للقارئ وكأنّه الوصيّة الأخيرة لابن سوريا التي سرد حكاياتها ولم يتراجع عن إعلان موقفه من مجمل تحولاتها.
أتذكّر آراءه الشجاعة في لقائي الأوّل معه، في مهرجان الأدب العالمي في برلين عام 2009، ثم رسالته التي وجّهها في بداية فبراير/ شباط 2012 لزملائه الكتّاب والصحافيين في كلّ أنحاء العالم والتي يعبّر فيها عن اليتم الذي يشعر به السوريون أمام "العمى الذي أصاب العالم" بتشجيعه "النظام على تصفية الثورة السلمية في سوريا"، وإثر ذلك أُعتقل بعد أشهر في أثناء تشييع جنازة أحد قتلى الثورة.
لم يُنس خالد على صورته هذه، وقد أذهلتني اللافتات التي تحمل اسمه في الانتفاضات الأخيرة، كتحيّة له، أذهلني التصفيق الذي صاحب نزول جثمانه إلى القبر مع نشيج بكاء لفقد عزيز من قبل كلّ الذين حضروا في حياته.
لقد بدا خالد خليفة (59 عاما) في سنواته الأخيرة مكتملا، فصار يكتب رواية كلّ سنتين، أو ثلاث، ويذهب لإقامات أدبية عالمية ولديه وكيلة أدبية تنسّق ترجمات رواياته إلى مختلف لغات العالم، كما حظي بالتقدير بصفته كاتبا محترفا ومثابرا، لكنّه بقي في المقابل يكابد وجع بلده، بالرغم من الأمل المبثوث في كلماته وسهراته المبهجة مع رفقاء الأيّام، فمع قسوة الاستبداد لا يكتمل الكاتب إلاّ ليموت، يموت كمدا.