هذا ما تقوله "حكاية الأمم الأربع"

هذا ما تقوله "حكاية الأمم الأربع"

لو قُيض لمؤرخ ما أن يكتب "التاريخ الذاتي المديد" لمنطقة غرب آسيا، كما فعل إريك هوبسباوم مع القارة الأوروبية، لكان جديرا به أن يُخصص فصلا كاملا، وربما كتابا خاصا من سلسلة أعماله، عن التاريخ الخاص والتأثيرات الجوهرية لعمليات محق أربعة شعوب وأمم أساسية ومركزية طوال قرن كامل مضى من تاريخ الدول الحديثة في هذه المنطقة، هُم الأكراد والأمازيغ والبلوش والتاميل.

السياق السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي الذي عبرته هذه الجماعات القومية/العرقية الأربع خلال هذه المرحلة، بالذات من موقع ما تعرضت له من ديناميكية عُظمى للقهر العمومي في هذه الكيانات الحديثة، لم يكن سياقا خاصا وذا دلالة على تاريخ وحاضر هذه الجماعات فحسب، بل على كل شعوب وجماعات هذه المنطقة الشاسعة والمركزية من العالم، إنه ذو دلالة على نوعية دول كثيرة من هذه المنطقة وثقافاتها وهوياتها ومنتجاتها وشكل علاقاتها، الداخلية أولا، وشبكة علاقاتها وموقعها وموقفها من ومع كل العالم.

قهر هذه الجماعات الأربع، من حيث تطابق آليات ممارسته وأنماط تطبيقه في مختلف الدول، الممتدة من دول مثل باكستان وسيريلانكا وصولا إلى أخرى مثل الجزائر والمغرب، مرورا بإيران والعراق وتركيا وسوريا، يرسم مطابقة واضحة في ما بينها، يُثبت وجود بُنية ما كبرى، هي سمة التاريخ وشكل الحياة فيها خلال هذه الحقبة، شبيهة لما شهدته القارة الأوروبية مثلا في النصف الأول من القرن الماضي، من حيث ما عاشته من صعود النازية والفاشية العرقية، أو مآسي "عصر العبيد" في القارة الأميركية خلال القرن التاسع عشر. فما جرى بحق هذه الشعوب الأربعة كان بمعنى ما "هيكل الحياة وجوهر التاريخ" في هذه المنطقة خلال هذا القرن.

إن عمومية ظاهرة- كبح هذه الشعوب الأربعة- في دول اختلفت هوياتها الكيانية وطبائع أنظمتها السياسية، بعضها ملكية وأخرى جمهورية وثالثة ثيوقراطية، التي تفاوتت طبائعها العمومية بين اشتراكية وليبرالية، سلطوية وديكتاتورية وشبه ديمقراطية، بعضها دستوري وآخر شمولي مطلق، إنما يدل على مكانة وموقع حكاية وسردية هذه الشعوب بهذه البقعة الشاسعة من العالم في رسم ملامح وصورة وسياق هذه الدول ومجتمعاتها، بالذات من حيث القياس على الحداثة السياسية العالمية، باعتبارها- أي الحداثة السياسية- أداة معيارية تقوم في واحدة من أهم أركانها على بداهة حق الشعوب والجماعات الأهلية بالحضور والتعبير عن الذات، سواء داخل الكيانات الملونة، أو الاستقلال والتحرر من الكيانات الشمولية، وهو ما لم تشهده تجاربها مع هذه الشعوب.

هناك تاريخ خاص وتأثيرات جوهرية لعمليات محق أربعة شعوب وأمم أساسية ومركزية في هذه المنطقة طوال قرن كامل مضى من تاريخ الدول الحديثة، هُم: الأكراد والأمازيغ والبلوش والتاميل

إن الدول التي تأسست بالتقادم منذ أوائل القرن العشرين، أغلبها نتج عن تقاطع تاريخي بين تفكك إمبراطوريات العالم القديم مع تضخم الاستعمار على مستوى العالم، لم تكن دولا متحررة ومتجاوزة لإرث "العصبيات الأهلية" التقليدية، حسب قمعها لتلك الشعوب الأربع؛ فما كان منها قائما على قبيلة أو مدينة مركزية في إمارات العالم القديم، صار مبنيا على قوميات وأعراق مركزية، تملك رهابا أوليا ومطلقا على إمكانية تفككها وتبددها في أي حين. ولأجل ذلك، شيدت هذه الكيانات "الحديثة" ذاتها ودولها على محق الجماعات التي قد تنفي "صفاء العصبيات" التي قامت عليها. كانت تجربتها مع القوميات الأربع، والكثير من الجماعات القومية الأصغر ديموغرافية وتوزعا، دلالة على تلك النواة العصبوية، ونفيا لكل نزوع تعاقدي/ دستوري حديث، كما قامت عليها الدول الحديثة في العالم، وإن بنسبٍ مختلفة. 
العنف المفتوح الذي مورس ضد هذه التكوينات العرقية، خلال عقود مختلفة، وصل في مرات لا تُحصى إلى حد "تغيير أصل الأشياء"؛ قصف بالأسلحة الكيماوية، تهجير سكاني وتغيير ديموغرافي لمناطقهم الخاصة ضمن هذه الدول، سجون ومعتقلات على مدّ النظر لنشطائهم السياسيين وزعمائهم المحليين، من كل حدبٍ ودون أي تردد، إنما أثبت أيضا "مركزية العُنف" في هذا الفضاء من العالم؛ فما كان يُسمى في عصورٍ سابقة "فرق الإنكشارية"، و"قبضايات الأحياء"، و"فصائل المماليك"، و"فتوات الآغوات والمخاتير"، صار "فيالق عسكرية" وأجهزة أمنية، وتنظيمات استخباراتية، لكنها في الجوهر تؤدي الأدوار ذاتها، كأداة طيعة في أيادي الغالبين، من حكومات وزعماء وجماعات مركزية، شكل قمعها المستدام لهذه الشعوب الأربعة، دون تردد وبضمير مستريح، كشفا لمعطى العنف وأدواره الرئيسة بهذه الكيانات، في تحديده لمواقع الجماعات التكوينية في سلم القوة والسطوة ضمن هذه الكيانات. 

حين كانت عمليات المحق السياسي والأمني والثقافي تُمارس ضد هذه الجماعات الأربع بحيوية تامة، فإن صمتا عاما كان يلف المجتمعات النظيرة المركزية في هذه البلدان. صمت مغلف وكاشف لمستويات من الرضا والغبطة والقبول بما يجري بحق هؤلاء

في ذات السياق، وحينما كانت عمليات المحق السياسي والأمني والثقافي تُمارس ضد هذه الجماعات الأربع بحيوية تامة، فإن صمتا عاما كان يلف المجتمعات النظيرة المركزية في هذه البلدان. صمت مغلف وكاشف لمستويات من الرضا والغبطة والقبول بما يجري بحق هؤلاء، متعدد المستويات والاندراج في الأوساط الاجتماعية والثقافية والنُخبوية لأبناء الجماعات المركزية الغالبة. 
أخيرا، كانت مجموعة السمات التي أُلصقت بهم طوال هذه العقود، من اتهامات بالعمالة للغرب والتواطؤ مع أعداء هذه الدول والجماعات المركزية، وصولا لاتهامات أخرى بالعمالة والنزعة للانفصال، والتي اشتركت فيها الأنظمة الحاكمة مع مجتمعاتها المحلية، كان دلالة على عمق ومركزية "مروية العائلة الطاهرة"، وغياب سطوة أو حتى حضور رؤية "الدولة الحديثة" لنفسها، والرؤية التعاقدية لمواطنيها عن دولهم ومجتمعاتهم المتنوعة.

font change