كتابة اليوميات في فضاء الإنترنت

كتابة اليوميات في فضاء الإنترنت

أن يسجّل كاتب يوميّاته أو مذكّراته في كتاب، اعتبره كثيرون نوعا أدبيّا ثانويّا، وحتى الكتابات الخاصة الطالعة من المخزون التذكاري المباشر، تلقى المصير ذاته، "أي ليست ذات أهميّة". وفي فرنسا وسواها يمارس عدّة ملايين هذا النوع، مع تطوّر وسائل الاتصال، حتى مسَّ هذا النوع مجالات أخرى عديدة من السينما والرسوم المتحرّكة، إلى اليوميّات التي تدوّن عبر الإنترنت.

بدأت هذه النزعة في الجزء الثاني من القرن العشرين وإن على شيء من الحذر، وعلى الرغم من ذلك، اعتبرها بعض الكتّاب بالريبورتاجات (الشاعر الكبير ستيفان مالرمه)، ووصمها الكاتب بروتونييه "بالثرثرة"، وآخرون شبّهوها كمَنْ يسجّل لائحة تسوّق من البضائع الاستهلاكيّة اليوميّة. لكن، مع تطوّر الأمور، على امتداد القرن العشرين صارت عند بعض الكتّاب وممارسيها (من الفنانين) رياديّة، نجد فيها أشكالا جديدة انسحبت إلى بعض كتّاب "الدفاتر اليوميّة"، من السرديات، وتسجيل الأفكار والملاحظات (أي من الأشكال التقليديّة) إلى ممارسة العمل على اللغة، خصوصا مع الحركات الروائيّة فإلى نوع من التجريبيّة حول المواضيع واللغة، كما نجد عند الروائيين جورج بيريك وكلود مورياك. بمعنى آخر تجاوزت هذه الكتابات الخاصة المجال المرجعي إلى آخر علائقي. وقد برزت هذه الظاهرة عند الروائي الفرنسي الكبير أندره جيد المؤسس للأوتوغرافيا (الكتابة الذاتيّة في كتابه "إذا ماتت الحبة"، 1921)، لكن إلى هذا لم يكن هناك من كتّاب "ذاتيين" بفعل سيادة الرواية، مع استثناء بارز للشاعر بيار ليريس في كتابه "عمر الإنسان" (1939)، وخلاف ذلك بالمضمون والأسلوب عند جان بول سارتر في كتابه "الكلمات". وكذلك عند الروائي الكبير أندره مالرو في كتاب "عكس عكس الذكريات".

انتشرت في السنوات الأخيرة موجات من المقاربات الحميميّة واليوميّة مع تطوّر أداة تقنيّة تعبر من المكتوب إلى الشاشة سُمّيت "Blogs".ينشر فيها الكاتب بحرّيةوانتظام شؤونه اليوميّة

وفي 1975 صدر كتاب "رولان بارت بقلم رولان بارت" بيوغرافيا ذاتية نجد فيها نصوصا أدبيّة وتحاليل، وأفكارا وذكريات، وخواطر كأنّما بات أمام نفسه "شخصيّة روائيّة". وقد تتابعت أنواع هذه الكتابة بالمتخيّل الذاتي، كأنّما تزخيم في المعطى الأدبي. نتذكر هنا الروائي الكبير مارسيل بروست. لقد نجح هذا النوع المتنامي الذي يعتمد على المتخيّل الذاتي، في تغيير المعطى الأدبي. قرأنا ذلك عنده في بدايات القرن الماضي، فالذات التي تنتج خصوصيتها الأَنَوِيّة في الوجود بهواجسها وأسئلتها، ألغت الحدود بين ما هو شخصي يكتب ذاته والآخر الذي يتلقاه. إنها الحميميّة التي اتخذت أطر الروايات والأشكال الإبداعية.

لكن على الرغم من ذلك انتشرت في السنوات الأخيرة موجات من المقاربات الحميميّة واليوميّة مع تطوّر أداة تقنيّة تعبر من المكتوب إلى الشاشة سُمّيت "Blogs".ينشر فيها الكاتب بحرّيةوانتظام شؤونه اليوميّة، أي تسمح للفرد أن يعبر باسمه مقابل انتشار واسع يدرك ملايين الناس، وها هي تنمو اليوم بعد ظهورها المحدود منتصف التسعينات لتشمل الملايين على المستوى الكوني.

لكن المفارقة، أن قلّة من الكتّاب الفرنسيين أو الإنكليز (والفرانكوفيين) استخدموا هذه الأداة، بينما غَزَتْ عالم الباحثين والموسيقيين والرسّامين هذه الأداة، ليحقّقوا ذلك الانتشار غير المسبوق.

لكن هذا لا يعني أنّ كل الكتّاب امتنعوا عن استخدامها، بل إن بعض الكتّاب اليوم يتبنّونها أمثال بيار أنسولين، وفرنسوا بون، وميشال دي كاستيلو، والروائي الفرنسي الكبير ميشال هولبيك… لكن بعض هؤلاء يستعملونه كمحطة اختباريّة (كما فعل سابقوهم) لكن معظم الآخرين لا يوظفون هذه الأداة مثل هؤلاء، بل كمجرّد وسيلة لنشر آرائهم حول الأدب وعالمه، يحدث ذلك سجالات وردود فعل نقدية كما يقول الكاتب جان لوي كومز إن "البلوغ على خلاف دفتر اليوميات الذي ينحصر في زاويته الضيّقة، فبفضله تتم الممارسة على مرأى من القارئ وبفضل ذلك ينشأ نوع من التبادليّة أو السجاليّة حول تلك المسائل الأدبيّة وسواها، ليذكّرنا ذلك بالصالونات الأدبية القديمة".

ولأنّ هذه المساحة تنشغل بالتعبير عن "الأنا" فيمكن الكلام على خلاف "اليوميات" عن نوع من الحميميات القريبة والشخصيّة، التي استحدثت نوعا أدبيّا ربّما جديدا، يقوم على تجريب السرديّة في زمنها الحقيقي. فالكتابة اليوميّة تنتج نصوصا قصيرة، وهنا نجد فكرة الحصول على المعلومة في الزمن المعلوماتي.

ويشرح الكاتب فرانسوا بون رأيه في العلاقات بين الأدب والإنترنت فيرى أن "ما من فضاء تقليدي رسمي بين الأدب والإنترنت الذي يلعب دور الجسر بينهما، أي كسند مساعد.. ففيه يولد نوع من التعبير الخصوصي يرقى إلى مبادرة أدبيّة لأنه يتصل بالمجتمع وتماثلاته ما يستدعي الشعرية، فأيّا كانت طريقة استعماله سواء في نص أدبي أو غير أدبي يبتعد عن المناقشة ويؤدي إلى نشر المكتوب، ومن خلال ذلك وسائل الكتابة ويفتح على آفاق جديدة". لكن على خلاف كل ذلك، فإن العديد من الكتّاب الذين أشرنا إلى بعضهم، يستخدمون هذا الحيّز كأداة شفّافة لنشر يومياتهم الحميمة، والخاصة ومشاغلهم وتفاصيلهم.

إذا راجعنا بعض تلك الصفحات فلن نجد سوى غبار تنفضه عنك فور قراءته، كأنّه في عمقه لا يختلف عن "بريد القرّاء" في بعض المجلات والجرائد، بل إنه أسوأ تعبير عن "الأنا" وأضعفها وأكبرها نرجسيّة

نستنتج من كلّ ذلك أن هذه الصفحات الذاتية، تتجاوز بطبيعتها ما توصل إليه الكتاب السابقون، من نقل المعلومة والرأي، والأدب المهم، والإيجازات اللغويّة، والأفكار الجادّة، المركّبة كأنّما تبسيط العلاقات بين المستعمل والآخر، فقير عند هؤلاء، يشبه من يسجّل حركاته وخطواته وخواطره، فيعتبر علاقات عابرة هشّة بينه وبين مَنْ يتعاملون معه أي ملايين المتابعين عبر العالم. ومجرّد طموح "البلوغ" إلى مثل هذه الأعداد فيعني أنّه اختار مستخدموه مجافاة العمق، والاختلاف في البوح، أو فتوحات روائيّة أو أدبيّة أو أيّ جديد يثير الأسئلة. كأنّه في طموحه قرين السرعة التي يسقط منها كلّ شيء، بل التسرع بخوائه، ومخاطر القضاء على مجمل الإرث الإبداعي والجدّي والاختباري والطليعي، سواء من خلال الحداثة التي بنت زمنا ثوريّا في كل المجالات الأدبيّة والفنيّة. كأنّ هذا "البلوغ" صورة دامغة لما بعد الحداثة، التي بدا كأنّها تصفّي كل ذلك الإرث العظيم، بما في ذلك الكتاب، والمسرح، بل والمدنيّة نفسها بحسب "المثال الإغريقي".

كأنّه ينقل الكتابة إلى أمكنة لتنفي نفسها وتقع في ما يشبه "اللعب" وتمضية الوقت، وإفراغ العالم من تاريخه. وإذا راجعنا بعض تلك الصفحات فلن نجد سوى غبار تنفضه عنك فور قراءته، كأنّه في عمقه لا يختلف عن "بريد القرّاء" في بعض المجلات والجرائد، بل إنه أسوأ تعبير عن "الأنا" وأضعفها وأكبرها نرجسيّة مبسّطة فارغة.

  

font change