إلى أي حد يمكن للإعلام أن يكون محايدا؟

أخبار التلفزيون عرضة للانتقادات من الجانبين

Nash Weerasekera
Nash Weerasekera

إلى أي حد يمكن للإعلام أن يكون محايدا؟

كان أحد أسلاف الرئيس جو بايدن هو الذي قال إنه "من الأفضل أن تظل صامتا ويُظنّ بك الحمق بدلا من أن تتحدث فيتأكد ظنّ الناس بك". وسوف تكون هذه القاعدة مفيدة، فقط لو تمسك بها أولئك الذين يتسنمون مناصب السلطة والنفوذ، ولكنهم في الأغلب الأعم يفضلون إزالة كلّ شك لدى الناس حولهم.

عندما وصل جو بايدن إلى إسرائيل، بدا متيبسا ومتقدما في السن بشكل ملحوظ. وعندما اقترب منه بنيامين نتنياهو ليعانقه، لم يكد الرئيس يتمكن من ذلك، فأعاد جموده إلى الأذهان على الفور فيتو كورليوني من فيلم "العراب". لقد صوّر الممثل مارلون براندو دور زعيم المافيا باللامبالاة الصارمة نفسها، فكان الآخرون يحتضنونه دون أن يفعل ذلك هو، كان الدون رجلا قليل الكلام، ولكن من الأسلم أن يصغي المرء إلى ما يقوله بعناية.

كان هذا هو الانطباع الأولي الذي نقله الرئيس عند وصوله: رجل مستعد لتقديم بعض الحب القاسي للإسرائيليين. ومع ذلك، فإن هذا الانطباع لم يستمر. وعندما طُلب منه تفسير الهجوم على المستشفى الأهلي العربي، التفت بايدن إلى نتنياهو، وقال: "يبدو أن الفريق الآخر هو من قام بذلك، وليس أنتم". كان هناك شيء ما في عبارة "الفريق الآخر" يجعل من الصعب إقناع أي شخص بأن أميركا منزعجة بالقدر نفسه من الخسائر في صفوف المدنيين على جانبي الصراع. وكاستعارة رياضية، فقد كشفت حقيقة انحيازه عن غير قصد.

عندما وصل جو بايدن إلى إسرائيل، بدا متيبسا ومتقدما في السن بشكل ملحوظ. وعندما اقترب منه بنيامين نتنياهو ليعانقه، لم يكد الرئيس يتمكن من ذلك، فأعاد جموده إلى الأذهان على الفور فيتو كورليوني من فيلم "العراب"

في المقابل، قدم البابا فرانسيس موقفا أكثر حيادا وإقناعا عندما حث المؤمنين على "الوقوف إلى جانب واحد فقط في هذا الصراع، وهو جانب السلام. ولكن ليس بالكلمات، بل بالصلاة والالتزام الذي لا يتزعزع". وفي الوقت نفسه، جمع جوستين ويلبي، رئيس أساقفة كانتربري، ممثلين عن مختلف الأديان حوله ونقل رسالة مماثلة. ولم تكن كلماته خطابة فارغة. لقد زار ويلبي بالفعل المستشفى المعني. وعندما تحدث عن حزنه العميق، كان بإمكانك الشعور بصدقه.
ويمتلك القادة الدينيون مهارة استخلاص الدروس الأخلاقية من الأحداث المختلفة، وهو ما يتوافق مع دورهم. وفي المقابل، يواجه السياسيون في كثير من الأحيان صعوبات عندما يحاولون القيام بنفس العمل الفذ. ويرتبط هذا التناقض بافتراضنا أن السياسيين يفكرون بعناية في العواقب المحتملة لكلماتهم قبل أن يتحدثوا. عندما يفشلون في القيام بذلك، وتظهر مشاعرهم الحقيقية لفترة وجيزة، فإن تلك الهفوة اللفظية تكشف مكامن أنفسهم، وبدلا من تلقي الثناء على صدقهم، يُنتقدون لارتكابهم زلة.
والشيء بالشيء يذكر، فقد ارتكب بعض الأفراد في وسائل الإعلام مؤخرا أخطاء مماثلة. ظهرت ليلى موران، أول نائبة برلمانية من أصل فلسطيني، في برنامج "صباح الخير يا بريطانيا" (Good Morning Britain) على قناة "آي  تي في" "ITV" لمناقشة الأحداث في غزة، خاصة أن لها أقارب يعيشون هناك. ومع ذلك، لم تكن مستعدة لسؤال ريتشارد مادلي، الذي يلمح إلى أنه ربما كانت لديها معرفة مسبقة بالأحداث بسبب علاقاتها العائلية: "مع روابطك العائلية في غزة، هل كان لديك أي مؤشر على ما سيحدث بعد عشر سنوات؟ منذ أيام، قبل أسبوعين؟ هل كان هناك أي خبر في الشارع؟".
أجابت موران: "لا على الإطلاق. أعتقد أن الجميع، بما فيهم أنا، قد فوجئوا بالتوقيت والتعقيد والطريقة التي حدث بها ذلك. ما يمكنني قوله هو أنني، مع أعضاء آخرين في البرلمان، حذرنا من مثل هذه الأمور منذ عدة سنوات". ثم شرعت في وصف محنة الفلسطينيين، وعدم التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض، والحاجة إلى وقف دائرة العنف، مدركة طوال الوقت أن المحاور أشار ضمنا إلى أن عائلتها ربما كانت على علم بالهجمات مسبقا. وقد أصدر مادلي بعد ذلك اعتذارا علنيا. 

منذ بدء الحرب، فشلت شبكة "بي بي سي" في إرضاء أي طرف. ورفضت الشبكة التي تفتخر بحيادها تصنيف حماس على أنها "إرهابية"، وبدلا من ذلك اختارت مصطلح "المسلحين"

أكثر قليلا من أسبوعين، منذ بدء الأزمة في إسرائيل، كانت هناك عدة حالات قام فيها أشخاص بالإعراب عن آرائهم بشكل علني تماما. لنأخذ هيئة الإذاعة البريطانية" بي بي سي" (BBC) على سبيل المثال، والتي كثيرا ما ينتقدها الحزب الحاكم في بريطانيا. فمنذ بدء الحرب، فشلت الشبكة في إرضاء أي طرف. ورفضت الشبكة التي تفتخر بحيادها تصنيف "حماس" على أنها "إرهابية"، وبدلا من ذلك اختارت مصطلح "المسلحين". وبررت ذلك بتأكيد استقلالها عن الحكومة، التي تستخدم وصف "الإرهابيين". ولم يرق هذا الموقف تحديدا لمجموعة من المتظاهرين المؤيدين لإسرائيل الذين تجمعوا خارج مقر هيئة الإذاعة البريطانية.
وربما لم ينتبه هؤلاء المحتجون أنفسهم كيف أشارت هيئة الإذاعة البريطانية إلى المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين على أنهم أنصار "حماس". لقد اعتذرت بعد ذلك على الهواء بعد هذا الخطأ البسيط. لكن المتظاهرين المؤيدين لفلسطين أعلنوا بالفعل عن آرائهم بشأن تغطية "بي بي سي" بشكل عام من خلال الظهور في مناسبة منفصلة أمام المتظاهرين المؤيدين لإسرائيل، رشقوا فيها أبواب بناء مقر "بي بي سي" " ونوافذه باللون الأحمر. ولعل هؤلاء المحتجين لم ينتبهوا إلى مقابلة مؤثرة مع رجل في مدينة غزة كان يتوقع الموت هناك بدلا من التخلي عن منزله، كما أنهم لم يلاحظوا أن "BBC" لديها معلقها الفلسطيني، رشدي أبو علوف، الذي يقدم تقارير مباشرة ومخيفة من منطقة الحرب. 
مع استمرار القصف على قطاع غزة، أثار انفجار كبير في أحد المستشفيات المزيد من الجدل حول تغطية "بي بي سي". ونقل الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ اعتقاده لرئيس الوزراء البريطاني بأن وصف هيئة الإذاعة البريطانية لحركة "حماس" يشوه الحقائق.
وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول، اتخذ الحساب الرسمي للحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي خطوة أخرى إلى الأمام، حيث اتهم "بي بي سي وورلد" بـ"التشهير بالدم". تعود هذه الإشارة إلى الاتهامات التاريخية المعادية للسامية بأن اليهود كانوا أثناء تأدية طقوسهم يقتلون أطفالا مسيحيين، واختتمت التغريدة بعبارة "نحن نراكم" مؤكدة أن الاتهامات أصبحت الآن أمام أعين الجمهور.
ودافعت شبكة "بي بي سي" عن تغطيتها على صفحة التصحيحات الخاصة بها، ولكنها اعترفت بأن مراسلها، جون دونيسون، كان مخطئا عندما تكهن في تحليله مباشرة بعد الهجوم، ولكنها أكدت أيضا أن المراسل لم يلقِ بمسؤولية القصف على إسرائيل، وشددت على أن تغطيتها العامة قدمت وجهتي النظر المتباينتين حول الانفجار، مع توضيح قائل كل فكرة، دون أن ندعي معرفة ما لا نعرفه.
يمكن القول إن تحديد "الادعاءات المتنافسة" حول أي جانب من جوانب الحرب يضع هيئة الإذاعة البريطانية في مشكلة. وحتى الوقوف إلى جانب السلام، كما يحث البابا مؤمنيه، ليس مبدأ مقبولا عالميا، ولا يبدو الجنوح إلى السلم أمرا جيدا. ولكن من دون التورط في الحجج الأخلاقية، فإن الجهود الرامية إلى تحقيق الحياد مستمرة، وإذا لم تتمكن من إرضاء أي من الطرفين، فلعلها تكون في واقع الحال قد حققت غايتها وفازت بطلبها. وبالفعل، فإن نصف الشكاوى البالغ عددها 1500 شكوى حول تغطية "بي بي سي" كان يتعلق بالحرب.
في هذه الأثناء، واجهت "سكاي نيوز" تحدياتها الخاصة. فقد أجرت مقابلة مع حسام زملط، السفير الفلسطيني لدى المملكة المتحدة. وعلى الرغم من سلوك زملط المتزن في ظل الظروف، إلا أن بعض كبار مذيعي القناة ومراسليها وصفوا موقفه بالقول: "لقد جنى الإسرائيليون على أنفسهم". وينبع هذا التفسير من حجة زملط بأن تغلغل "حماس" في إسرائيل كان نتيجة لتاريخ طويل من القمع. في البداية، ركزت وسائل إعلام كثيرة على إدانة الإرهابيين، وكانت أي محاولة لمناقشة الأسباب الكامنة وراء ذلك توصف غالبا بالتعاطف مع "حماس".
من الوجاهة أن نتساءل عما إذا كان من الممكن تجنب أي من هذه المشاكل. وحتى لو كان بإمكانهم فعل ذلك، فمن المرجح أن تظهر تحديات جديدة. ويعيد هذا الوضع إلى الأذهان أقوالا مألوفة، مثل "ضباب الحرب"، و"الحقيقة هي الضحية الأولى". وكما أشار رافائيل بير في صحيفة "الغارديان" يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فإن مسرحية شكسبير "هنري الرابع الجزء الثاني" تبدأ بظهور شخصية تدعى "إشاعة" (Rumor) على المسرح، لتصورها على أنها تجسيد للقيل والقال والمعلومات الكاذبة. تنشر هذه الشخصية الشائعات والتقارير الكاذبة، ثم يضيف بير إلى أن الفرق اليوم هو أن الشائعات تنتشر بسرعة الضوء عبر الألياف الضوئية.

ليست الحقيقة وحدها هي التي عانت في هذا الوضع؛ كما تم اختبار المعايير الصحافية بشدة. وعندما يُنظر إلى حقيقة كل جانب على أنها كذبة الطرف الآخر، فإن الحفاظ على الحياد يصبح مهمة صعبة

ومع ذلك، ليست الحقيقة وحدها هي التي عانت في هذا الوضع؛ كما تم اختبار المعايير الصحافية بشدة. وعندما يُنظر إلى حقيقة كل جانب على أنها كذبة الطرف الآخر، فإن الحفاظ على الحياد يصبح مهمة صعبة. 
إن تشبيه الرئيس بايدن للصراع بلعبة ما، يتردد صداه مع حقيقة معينة: غالبا ما يجد الصحافيون أنفسهم في موقف الحكام الذين لا يحسدون عليه، وحتى أكثر الحكام مهارة قد يواجهون ادعاءات بالتحيز تجاه أحد الجانبين.

font change

مقالات ذات صلة