الاستهتار بالدم

الاستهتار بالدم

ما قيمة استعادة فلسطين إذا فني أهلها؟ لا تعجبوا من هذا السؤال، فكم من الشعوب فنيت واختفت من التاريخ بسبب وحشية الغازي وضعف المغزوين وقلة حيلتهم، ولعل الفيلم السينمائي الأميركي "قتلة زهرة القمر" الذي يعرض هذه الأيام يذكّر بقصة إفناء غزاة أميركا لسكانها الأصليين الذين كانوا بالملايين ولم يبق منهم إلا عدد قليل.

ما قيمة الأرض بلا أهلها؟ هذا هو السؤال الذي خطر ببالي وأنا أسمع أهازيج الحرب ودعاوى الصمود ومديح الجهاد والاستشهاد والانتصارات التي لا يراها أحد وعودة النقاشات المفعمة بالحماسة عن رائحة المسك تفوح من جسد الشهيد وكراماته الأخرى التي لا يراها إلا أفراد قلة للأسف مع وجود كاميرا الجوال وحضورها في كل ثانية. أرجوكم، لا تصدقوهم، فهؤلاء لا يحترمون عقولكم ولا دماءكم.

على مدى الأربعين سنة الماضية، كنت أسمع هذه العبارة "لا بأس أن يموت مئة ألف لكي تقوم دولة الخلافة الإسلامية"، سمعتها من عرب وسمعتها من خليجيين، ولم يشعروا بخجل البتة أن يتفوهوا بمثل الكلام أمام شاشات القنوات الفضائية، ولم يكن أحد يستنكر في تلك الفترة التي سميتُها قديما فترة الغفوة، ربما لأننا وإياهم كنا نعيش سكرة استثنائية قلبت كل المعايير الأخلاقية والإنسانية، حالة خدر تام، وكانوا يتكلمون ولا أحد يسأل أو يتشكك.

 ما قيمة الأرض بلا أهلها؟ هذا هو السؤال الذي خطر ببالي وأنا أسمع أهازيج الحرب ودعاوى الصمود ومديح الجهاد والاستشهاد والانتصارات التي لا يراها أحد

"لا بأس أن يموت مئة ألف"، المقصود هنا هم المسلمون، لأن من يرفعون هذا الشعار قد انتهوا منذ زمن بعيد من النقاش في دم غير المسلم، فهو حلال الدم عندهم ولا قوَد على من قتله ولا قصاص، وإن مارسوا التقية اليوم وخدعوا الناس لبعض الوقت، فلا بد أن تأتي لحظة يسقط فيها القناع وتظهر الحقائق. الجديد في هذه العبارة التي لم تعد جديدة هو أن الجماعات الأصولية لا ترى بأسا على الإطلاق بموت مئات الألوف من المسلمين لكي يصلوا هم إلى الكرسي ويستمتعوا بالمال والجاه والشهرة والزعامة وبقية الأشياء التي تصيب الإنسان بالجنون. الحوار الفاضح لخالد مشعل الذي بثته قناة "العربية" كان واضحا بما فيه الكفاية وقد تحدث فيه بكل وقاحة عن رغباته وإملاءاته التي سولت له نفسه أنه يستطيع أن يفرضها على الدول العربية، وسيخرج قريبا حافي القدمين ناسيا كل إملاءاته.

من هنا نفهم لماذا تستهتر "حماس" بحياة أهل غزة ولماذا تلقي بهم في الطاحونة الإسرائيلية المجرمة بهذا الشكل. لا بأس بالتضحية بعشرة آلاف ولا يزال الطريق طويلا للوصول إلى رقم المئة ألف. المهم هو ألا تفقد "حماس" قيمتها كقوة مقاومة، أما حياة الإنسان العادي الذي تسحقه الترسانة الإسرائيلية الوحشية، فهذا مجرد رقم وثمن يُدفع مقابل إقامة دولة الخلافة.

كل عربي عاقل يتمنى أن ينجح حل الدولتين، وأن تقوم للفلسطينيين دولة مدنية عاصمتها القدس الشرقية إلى جوار دولة إسرائيل، لأن هذا هو الممكن في عالم السياسة اليوم. وكل عربي عاقل لا يتمنى أبدا أن تقوم لـ"حماس" دولة ولا يليق بعاقل أبدا أن يدعو لقيام دولة "حماس"، فهم من ضمن من يرفعون شعار "لا بأس أن يموت مئة ألف لكي تقوم دولة الخلافة الإسلامية"، وقولهم "حتى تقوم دولة الخلافة" يتضمن تكفير كل الدول العربية والإسلامية. كانوا قديما يستثنون السعودية، لكن كشفت الأيام أن الأصوليين لا يستثنون أحدا، بل يكفرون الجميع. من الطبيعي ومن العقل أن نرفض "حماس" ودولة "حماس" المزعومة، فزعماؤها لا يخجلون أبدا من التصريح بأن حركتهم بنت من بنات الخميني مثل "حزب الله" تماما.

font change
مقالات ذات صلة