وكان "مهرجان دي كاف" قرر هذا العام مواصلة تقديم عروضه، بدلا من إلغاء البرنامج أو إرجائه، كما حدث على سبيل المثل مع مهرجاني الجونة والقاهرة السينمائيين. بعض العروض استُبقت بوقفات حداد على أرواح الضحايا في فلسطين، وبعضها الآخر تماسّ بطبيعة الحال مع الأجواء الحزينة والحضور الدائم لشبح الموت في حياتنا منذ بدأت حرب غزة، وذلك ينطبق على "الصوان". تدور المسرحية حول ثيمة تعاقب الموت والحياة، وتتفاعل شخصياتها مع إشكاليات الساعة مثل العنف نتيجة مباشرة للعجز عن التحاور، وكذلك الهجرة سواء هربا من الحروب وما تُخلِّفه من خراب، أو بحثا عن مستقبل أفضل في الحالات الأقل درامية. وهذا ما رشح "الصوان" لأن تكون محطة استراحة وتأمل في الآن نفسه لأسئلتنا المرتبكة على الصعيد العالمي والعائلي وأيضا الفردي.
قبل الكلام عن "الصوان"، من الأمانة الإشارة إلى حالة الارتباك العام التي وسمت هذه الدورة من "دي كاف"، بالأخص في ما يتعلق بالتنظيم، إذ ألغيت بعض العروض وتغيّر الجدول في اللحظات الأخيرة ومن دون إبداء أسباب، كإلغاء فعالية قراءة الكاتبة فاطمة قنديل لنصوص من روايتها الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ العام الماضي، "أقفاص فارغة: ما لم تكتبه فاطمة قنديل". إضافة إلى الارتفاع النسبي لأسعار التذاكر والاعتماد على نظام "تيكتس مارش" في الحجز عبر الإنترنت الذي يضع بدوره مصاريف إضافية بحجج غريبة، على الرغم من أن العروض معظمها، حصلت بشكل أو بآخر على دعم من مؤسسات مصرية أو أجنبية. مما أدى إلى حصر تعاطي المهرجان مع جمهور نخبوي نسبيا، وربما فئة قليلة للغاية من هذا الجمهور، مع أن العروض كانت تستحق الوصول إلى فئات أوسع. وسط هذه التفاصيل المزعجة، وقد يُبرَّر بعضها بتأثيرات الظروف الحالية، يظل التعاون الودود للشبان من فريق عمل المهرجان مع الجمهور، نقطة مضيئة في هذه الدورة، ذلك عدا عن تميّز العروض نفسها.
مشهد من المسرحية ( تصوير مصطفى عبد العاطي)
حيز افتراضي
السؤال الذي قد يُثور في الذهن تلقائيا بمجرد الاطلاع على فريق العمل في الكُتيب، هو ما السرّ في أن يتخذ فنان فرنسي الصوان مكانا ورمزا على الرغم من غيابه في طبيعة الحال عن الفضاء الفرنسي على الصعيد الاجتماعي وحتى التخييلي؟ ثم ما الجديد الذي يُمكن أن يخلقه هذا التفاعل بين مسرحي فرنسي وممثلين مصريين؟
الصوان إذا صممنا على تعريفه، هو فضاء اجتماعي في الثقافة المصرية، يُحتفى فيه بالمسرّات والأحزان – والاحتفاء المقصود هنا هو المشاركة في أداء الطقوس المعبرة - المسرّات من نوع حفلات الزفاف الشعبية، وفي رمضان موائد الإفطار الجماعية، والأحزان المتعلقة بالوفاة، كما يُستخدم بكثافة في الفعاليات السياسية. وهو فضاء افتراضي لأنه ليس موجودا بذاته، وإنما يُنصب للمناسبة ثم يُزال من بعدها ليُنصب في غير زمان ومكان. الصوان، في أحد مستويات التأمل، شكل من أشكال المسرح، غير الهادف للفن، على الرغم من أنه يُنتِجه على كل حال (لنتفكر في هيئة المعزّين المصطفّين في حزن، أو المدعوين المصطفّين في سرور)، لذا هو قادر على ضمّ الجماعة في سعيها للاستمرار عبر الزواج وتشكيل العائلة، كما هو شاهد في الآن نفسه على المحدودية الإنسانية لهذا السعي، متلخصة في الفناء التام بالطبع.
نتخيّل أن أجنبية المسرحي هي التي جعلته ينتبه إلى الصوان كمكان ورمز حين لمحه مثلا للمرة الاولى في إحدى زياراته للقاهرة، بينما قد نتفاعل نحن، أهل الثقافة، مع الوظائف التي يلعبها مباشرة، من دون أن ننتبه له هو كحاضن لهذه الوظائف. من المرجح أيضا، أن عدم وجود مقابل للصوان بالمعنى نفسه، على حد علمي، في الثقافة الفرنسية، قد ألهم الفنان لاستثماره فنيا بما أنه مناسب – وقد يكون الوحيد المناسب – لتجسيد قوة الحياة والموت معا. إلى هذا، هو مؤهل فنيا لحمل المعنى الذي كان يريد رامبرت أن يُعبّر عنه من خلال تتبع حياة هذه العائلة.
مشهد من المسرحية ( تصوير مصطفى عبد العاطي)
وسط العاصفة
يبدأ الصوان حين تُضاء الأنوار على المسرح ويلتفت مجدي إلينا أخيرا، في يده خطاب يقرأ منه حوارا متخيّلا مع والده الراحل، إذ لم يكن يتجرأ على محاورته في حياته، والصوان الآن منصوب لعزائه. يجثم عليه أولا شعور بالذنب: "إزاي الواحد يكون ابن صالح بعد الستين؟"، ثم العتاب: "كنت دايما بتقول إن الحياة هي أنك تبص على الخط الأزرق قدام كورنيش إسكندرية، لكن ده مش كفاية"، ليعود إلى ما يشبه الاستغفار: "أنا عمري ما بطلت أكون ابنك".
هذا الموقف الحائر للابن إزاء ما يُفترض أن يكون لحظة وداع والده، يفتتح حالة الرثاء في مسرحية تنهض بشكل ما على هذا الغرض، ليس فقط لرجل غائب حاضر في هذا الصوان، إذ لم يؤدّ شخصه أي ممثل، لكنه على ما يبدو أيضا رثاء لنوع من المثقف الشبه مثالي والمتجرد، الذي ربّى ابنه مجدي على حب خالص للوطن، حب جرّ من المتاعب والآلام ما لم يُطقه الابن، ومثله الأحفاد الذين هاجروا إلى الخارج بحثا ربما عن إمكانات مختلفة للحياة.
من خلال حوار مجدي مع زوجته نهى - تُسمى الشخصيات بأسماء الممثلين الحقيقيين الذين يؤدونوها – نتلمّس شيئا من التمزّق الحاصل في العائلة. وحين يصل الابن أحمد – يؤدّي دوره النجم أحمد مالك – بملامح غاضبة وجسد مستعد للعراك، نهتم أكثر بطبيعة هذا الصراع غير المعلن. أحمد مصارع، يلعب لصالح الأندية الأوروبية في الخارج، يعود موقتا من مهجره من أجل هذا العزاء. تطلب نهى من مجدي ألا يتصادم مع الابن، فنفهم من ذلك أن خلف الرجلين تاريخا من الصدام. لكن اللحظة العاطفية في النهاية تفرض نفسها، فيضطر إلى الحديث، فينخرط في مواجهة قد لا يبدو هذا أوانها: "أنا سفري برة يا بابا مش عشان أهرب منك". وحين لا يتفاعل مجدي يصرخ أحمد: "بابا أنت كنت بتتكلم مع أبوك قبل ما يموت؟". ويذيّل سؤاله باستنتاج غاضب: "هي ليه الآباء دايما بترفض تتحمل المسؤولية؟".
وإذا بالحوار هو الفضيلة الغائبة في هذه العائلة التي يصفها مجدي قائلا: "إحنا عيلة مش سهلة، فرع بيطرح رجالة صعبة"، لكن هل يقتصر غياب هذه الفضيلة على عائلة مجدي؟ نرى تجسيدا آخر لغياب الحوار بوصول حاتم – يلعب دوره أحمد حاتم – الأخ الأكبر المصارع هو الآخر، والمغترب في أوروبا كذلك، لكن في غير بلد، مع رفيقته السورية ناندة – تلعبها ناندة محمد – إذ يشتبك الأخوان بالأيدي، كأنها طريقتهما الوحيدة في التفاعل، وربما العناق.