الخوف المعمّم ونهاية الجغرافيا

كيف أصبح ظاهرة عالمية

 REUTERS
REUTERS
بلجيكا، 6 ديسمبر 2023.

الخوف المعمّم ونهاية الجغرافيا

"الخوف أكثر القتلة شراسة، لكنه لا يقتل، وإنما يحول دون الحياة".

مضى زمن ليس بالبعيد، كان نضج المرء يعني أنه خلّف مخاوفه وراءه، كي يتجه، شيئا فشيئا، نحو سن الرشد. كان النضج يتطلّب التحرر من الأشباح المخيفة، وكل ما يتولد عن تصور مشوش عن العالم، كي يأخذ المرء بزمام أموره، فيساهم في بناء مصير جماعي. إلا أن الخوف اليوم انتقل من عالم الأشباح المتوهمة هذا، كي يصبح ركنا من أركان الوجود. فهو لم يعد حالة نفسية تتعلق بالأفراد، وتكون دراستها وقفا على السيكولوجيا، وإنما غدا ظاهرة اجتماعية عامة تنكبّ عليها السوسيولوجيا.

لقد انقلبت القيم، فلم يعد الخوف إحساسا مشروعا، وإنما كثافة لا مجال للاستغناء عنها. غدا علامة على نضج، وأداة تفكير. ولا شك أن وراء هذا التحوّل عوامل فلسفية وسياسية معقدة يجملها زيكمونjباومان في كتابه "الحاضر السائل" في كون الحداثة أخذت تمر من مرحلتها "الجامدة" كي تنتقل إلى ما يطلق عليه المرحلة "السائلة".

تخلخل البنى

في هذه المرحلة لم تعد البنيات الاجتماعية التي تحدد الاختيارات الفردية قادرة على الصمود. كما أن العلاقة بين السلطة والدولة أخذت تنفك عراها، لأن السلطة تبعثرت في فضاء لم يعد للدولة عليه سلطان. فضلا عن ذلك فإن الضمانات التي كانت الدولة توفرها للأفراد حال تعرضهم لمكروه، قد عرفت كثيرا من التناقص. مما جعل الأفراد يبحثون عن حماية، وما من شأنه أن يحقق لهم بعض الطمأنينة. بل إن باومان يذهب حتى التأكيد "أن الأحلام المعاصرة، وصورة التقدم قد انتقلت من تقاسم تحسين الأوضاع، إلى رغبة الفرد في أن ينجو بمفرده. فلم يعد التقدم يفهم في سياق وثبة نحو المستقبل، وإنما فقط في ارتباطه بالرغبة في البقاء ضمن المتسابقين". لم يعد رغبة في أخذ قصب السبق، وإنما في عدم الإقصاء من السباق.

بهذا المعنى يغدو الخوف وسطنا الذي نعيش في أحضانه، إنه بيئتنا وعالمنا

تمخّض عن كل هذا انهيار الفكر، وفقدان القدرة على التنبؤ والفعالية على المدى البعيد، خصوصا بعد ما لحق البنيات الاجتماعية التي كان الأفراد يجدون فيها كل عون، مما جعلهم مضطرين إلى أن يواجهوا، وحدهم، ما قد يحل بهم من كوارث، بحيث لم يعودوا يعولون كثيرا على مغيث.

وما يزيد الأمر تعقيدا هو أن مخاوفنا اليوم، سرعان ما تصبح قادرة على تطعيم نفسها، وعلى أن تضمن هي نفسها البقاء لذاتها. فكأنها تكتسب حركية ذاتية تخوّلها أن تستمر في التزايد والنمو مكتفية بمصادرها. فما أن يتسلط الخوف على عالم البشر، حتى يكتسب قوته الخاصة وطاقته الذاتية، فلا يعود في حاجة إلى من يغذّيه ويرعاه كي يزداد انتشارا. حينئذ لا تكمن خطورته في ذاته، وإنما في الاتساع الذي سيتخذه، والانتشار الذي سيعرفه.

هانز يوناس

الخوف الإرشادي

لعل هذا ما دفع الفيلسوف الألماني هانز يوناس الى أن يجعل من الخوف "مبدأ إرشاديا" بحق. فهو يرى أنه، لإقامة فكر صحيح، وقبل اتخاد أي قرار سياسي أو علمي، علينا أن ننطلق من الخوف، كالخوف الذي ينتابنا اليوم من الإمكانية الواردة لاختفاء كوكبنا. لم يعد الخوف وراءنا، وإنما غدا يتقدّمنا ويترصّد قدومنا. لا عجب أن يزداد عدد من يؤمنون بافتراض الأسوأ كممكن من الممكنات، كأنه قد حصل وتمّ، فتلك في نظرهم هي الطريقة الوحيدة التي ستحركنا وتدفعنا نحو العمل. فكأننا مضطرون إلى أن نعيش في حالة رعب دائم، حتى نهزم بصفة فعالة المخاطر التي تتهدّدنا. ما يتبقى لنا إذن هو مداراة هذا الخوف وأخذه في الحسبان، أو كما يقول بول فيريليو، "السهر على تسييره وإدارته".

AFP
تظهر هذه الصورة الملتقطة من جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة الدخان يتصاعد بعد غارة إسرائيلية على الأراضي الفلسطينية في 4 ديسمبر/ كانون الأول 2023.

بهذا المعنى يغدو الخوف وسطنا الذي نعيش في أحضانه، إنه بيئتنا وعالمنا. فبعد أن كان ظاهرة مرتبطة بأحداث محدودة في المكان، محصورة في الزمان، مثل الحروب والمجاعات والأوبئة، صار اليوم مبثوثا في أنحاء العالم، بل إنه هو العالم ذاته وقد غدا محدودا مشبعا منكمشا، ذلك العالم الذي يحتضننا ويضغط علينا في نوع من رهاب الأماكن المغلقة: الأزمات النقدية المُعدية، الإرهاب الأعمى، الأوبئة، والانتحارات المرتبطة بمهن بعينها.

لقد انقلبت القيم، فلم يعد الخوف إحساسا مشروعا، وإنما كثافة لا مجال للاستغناء عنها. غدا علامة على نضج، وأداة تفكير

تسيير الخوف

ما يطلق عليه بول فيريليو "التسيير الإداري للخوف" يعني، في ما يعنيه، أن الدول صارت تميل إلى أن تجعل من الخوف، ومن تدبيره ومسرحته، سياسة. وهو يجمل مصادر التخوف في عالمنا المعاصر إلى ثلاثة يطلق عليها القنبلات الثلاث: القنبلة الذرية التي عشنا ويلاتها، والقنبلة البيئية التي تترصدنا، إلا أن هناك قنبلة لم تعد ذرية، وهي ليست بعدُ بيئية، وإنما هي إعلامية. وهي تتولد عن التواقت اللحظي الذي تحققه وسائط الاتصال، وخصوصا عند نقل المعلومة، وهي تلعب اليوم دورا حاسما في بث الرعب في مستوى الأوساط العامة، ما دامت تسمح بتواقت الانفعالات على المستوى العالمي.

بول فيريليو

هذه القنبلة ليست محلية: وهي تنفجر كل لحظة، إما عقب هجوم، أو كارثة طبيعية، أو أزمة صحية، أو شائعة خبيثة..  فتولد "انفعالات معولمة". وهكذا فقد صرنا، عندما نخاف، نخاف جميعا، وفي اللحظة نفسها. هذا التبادل اللحظي نقلنا من فضاء يسمح بالابتعاد والتأمل والتفكير Réflexion، إلى فضاء الاستجابات اللحظية وردود الأفعال الآنية    Réflexe التي تسوقنا نحوها الانفعالات. هذا ما يسمح بظهور حالات الذعر على نطاق واسع. وهذا هو شكل الانفجار الكبير للعلاقة مع الواقع. وهو ما يدعوه بول فيرليو نهاية الجغرافيا ردا على ما يقوله فوكوياما عن نهاية التاريخ.

font change