الهزائم و"كأس" عبدالناصر

الهزائم و"كأس" عبدالناصر

في تصريح للمفكر السياسي المصري والدبلوماسي السابق الدكتور مصطفى الفقي، قال فيه إن الرئيس السابق جمال عبدالناصر كان يشعر بالدفء العائلي في منزل أنور السادات، خاصة بعد هزيمة 1967، فيذهب إلى هناك "ليشرب"، والمقصود طبعا الكحول.

أثارت تصريحات الفقي ردود فعل عنيفة لم تخل من التجريح الشخصي بحقه، اضطر بعدها إلى أن يعتذر، قال إن الأمر خطأ غير مقصود، وقال إنه ظن هذا الجزء من كلامه "دردشة غير مسجلة"، وقال "أنا مخطئ خطأ كبيرا لأنني لم أدقق، وأبدي أسفي وندمي تماما"، وذكر أنه اتصل بابنة عبدالناصر الدكتورة هدى وأخبرها باعتذاره وأسفه وكل ذلك. ومما قاله: "يعز عليّ تماما أنا أكون طرفا في خصومة مع طرف يمتلك فكرة أنتمي إليها".

اعتذارات الدكتور الفقي وأسفه وندمه لم تشفع له، استمرت الحملة عليه، ورفض الحزب العربي الديمقراطي الناصري برئاسة الدكتور محمد أبو العلا، اعتذار الفقي، مشترطا أن "يُعلن الدكتور مصطفى الفقي أمام الجميع كواليس تلك التصريحات، هل كان مريضا وقتها أم إنّ السبب هو تقدم السن حتى نستطيع أن نقبل اعتذاره".

وأكد أبو العلا أن "المخابرات الأميركية أعلنت خلال عهد عبدالناصر، أنها لم تتمكن من الحصول على ما يدين الرئيس الراحل سواء على مستوى قيادته للدولة أو المستوى الشخصي، فكيف لمصطفى الفقي أن يقول مثل هذه الأقاويل ثم يعتذر".

كيف لمجتمعات تقول إنها تناضل من أجل الحرية السياسية أن تستنكر حرية الأفراد الشخصية وتتناسى بل وتبرر في كثير من الأحيان انتهاكات حرية الأفراد وخياراتهم؟

تقرأ هذه التصريحات وغيرها وتتابع ردود الفعل على أمر كنت تظنه هامشيا جدا، وأن بعض الظن إثم، فترجع رأسك إلى الوراء قليلا، وتحاول أن تفهم حقا ما الذي يجري؟ كيف وصلنا إلى هنا؟
هل سنحاسب حقبة جمال عبدالناصر وتجربته انطلاقا من كونه كان يحتسي الكحول أم لا؟ نتحدث عن هزيمة 67 التي لم يتوقف العرب جميعا عن دفع أثمانها الباهظة إلى اليوم، بل واليوم تحديدا كما الأمس تدفع غزة والفلسطينيون ثمن تلك "النكسة". نتحدث عمن امتلأت المعتقلات في عهده بالمعارضين من جميع الاتجاهات، شيوعيين وإسلاميين وما بينهما، نتحدث عمن عرفنا معه إمكانية أن انتخابات تجري وتكون نتيجتها 99.99 في المئة لصالح السيد الرئيس، نتحدث عمن صار القمع والديكتاتورية يسميان في عهده استقرارا؟ نتحدث عمن حارب العرب باسم العروبة؟ أم حقا إن كان عبد الناصر قد احتسى الكحول ام لم يحتسه هو ما نناقشه؟ هل أثر الأمر أم لم يؤثر في ما وصلنا إليه؟ هل هذا حقا ما يدين حقبة هذا الرجل؟
أخطأ الدكتور الفقي باعتذاره، أخطأ حين اعتبر أن هذا التفصيل سيجعله "طرفا في خصومة".
الأمر لا يتعلق بمن يشرب ماذا ومن يأكل ماذا؟ فكيف أصبحت حرية الأفراد الشخصية حتى داخل جدران المنازل أمرا بحاجة إلى رأي الجموع وإجماعهم؟ كيف لمجتمعات تقول إنها تناضل من أجل الحرية السياسية أن تستنكر حرية الأفراد الشخصية وتتناسى بل وتبرر في كثير من الأحيان انتهاكات حرية الأفراد وخياراتهم؟
هل انتهينا من معرفة أسباب النكسة ومحاسبة من تسبب فيها؟ هل عالجنا أسبابها؟ هل عالجنا نتائجها؟ الجواب قطعا لا.

على الكثير من نخبنا الاعتذار، لأن الكثيرين منهم لم ولا يملك الجرأة ليناقش أسباب ما أوصلنا إلى ما نحن فيه، إن كانوا يخافون من مخالفة رأي الجموع حتى صاروا يسبقونها بتلك المزايدات والشعبويات


منذ 75 عاما ونحن نهرب من كل هزائمنا، حتى الهزيمة نسميها كل شيء إلا هزيمة، قد تكون نكسة وقد تكون ابتلاء، ولكن لا نملك الجرأة لنقول إننا مهزومون.
كيف لنا أن نواجه الهزيمة إن لم نعترف بها؟ كيف لنا أن نواجه مرض السرطان ونحن نخاف حتى من ذكر اسمه، إنه "هداك المرض" كما يقال، إنها نكسة، مجرد نكسة خسرنا معها الضفة وغزة، خسرنا القدس والجولان وسيناء، خسرنا الإنسان، ولكنها مجرد نكسة.
كيف؟ ومن أراد لنا أن نصل إلى هنا؟ كيف صرنا نناقش الأشخاص لا الأفكار؟ وهل حقا صرنا هكذا أم نحن هكذا؟ إن كان على الدكتور الفقي الاعتذار، فعليه الاعتذار عن اعتذاره.
على الكثير من نخبنا الاعتذار، الاعتذار لأن الكثيرين منهم لم ولا يملك الجرأة ليناقش أسباب ما أوصلنا إلى ما نحن فيه، إن كانوا يخافون من مخالفة رأي الجموع حتى صاروا يسبقونها بتلك المزايدات والشعبويات، فلن نعرف في المستقبل القريب أقله إلا الهزائم، وسينصب إبداعنا الفكري على ابتكار أسماء جديدة لهزائمنا.

font change