من يملك قرار الحرب على جبهة لبنان؟

من يملك قرار الحرب على جبهة لبنان؟

خرجت الحرب في جنوب لبنان من يد "حزب الله". استوعبت إسرائيل كامل الضغط الميداني الذي سعى الحزب من خلاله إلى التخفيف من عبء الهجوم الإسرائيلي على غزة وانتقلت إلى المبادرة على نحو لعله فاق توقعات مخططي الحزب.

التحذيرات التي ينقلها الموفدون الدوليون إلى لبنان تتغير لهجتها مع الوقت. السقف المرتفع للتهديدات الإسرائيلية بـ"تحويل بيروت إلى غزة ثانية" ليس جديدا، لكن ما أضفى صفة الخطر الشديد عليه، بروز مستوى الاختراق الأمني الإسرائيلي الذي تمثل في اغتيال الرجل الثاني في "حماس" صالح العاروري في الضاحية الجنوبية، واغتيال بعض أبرز قياديي "الحزب" الميدانيين، واستهداف غرف العمليات بكامل عناصرها.

الحسابات السريعة لا تبدو في مصلحة "حزب الله" حتى الآن؛ فقد خسر حوالي 160 من مقاتليه (دون حساب عناصر "حماس"، و"الجماعة الإسلامية"، وغيرهما من الفصائل، وعشرة مواطنين) مقابل أربعة بين مدنيين وعسكريين اعترفت بهم إسرائيل.

ثمة عشرات الآلاف من الإسرائيليين الذين غادروا مستوطنات الجليل نحو العمق في الوسط، وما يعادل عددهم من اللبنانيين الذين تركوا قراهم الحدودية. بيد أن الحصيلة العسكرية التي تميل عدديا لصالح إسرائيل، تترك انطباعا بوجود نقاط خلل كبيرة في إدارة المعركة من جانب "حزب الله" خلافا للأعوام الماضية.

ثمة من يتحدث عن خروقات أمنية واسعة يعاني الحزب منها وانكشاف اتصالاته وتحركاته على نحو غير مسبوق عند الإسرائيليين الذين ركزوا جهودهم في الأعوام الماضية على تحصين جبهتهم الشمالية (على حساب غزة على ما يقال في تفسير نجاح "حماس" في تجاوز التدابير الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول).

طهران لا ترغب في الحرب المباشرة لا مع إسرائيل ولا مع الولايات المتحدة. وأعلنت مرات عدة أنها غير مسؤولة عن تصرفات القوى المحسوبة عليها

الأداء الميداني المتواضع لمقاتلي "حزب الله" والثمن الباهظ الذي يدفعونه قد يكونان السببين في تشجيع بنيامين نتنياهو وممثلي المستوطنين في حكومته على الاندفاع شمالا، حيث يمكنه تدمير لبنان على نحو مشابه لما فعله في غزة من جني مكاسب سياسية داخلية عدة، كإرضاء النازحين الإسرائيليين الذين يرفضون العودة إلى بيوتهم قبل إبعاد "الحزب" عن الحدود، وتوجيه رسالة قاسية إلى إيران التي تعتبر "حزب الله" درة التاج في استراتيجيتها الخارجية، وأحد عناصر حماية برنامجها النووي ودعاواها الآيديولوجية. 
وفي ظل الغيبوبة التي تعاني منها الدولة اللبنانية ومؤسساتها، بدا واضحا أن طهران لا ترغب في الحرب المباشرة لا مع إسرائيل ولا مع الولايات المتحدة. وأعلنت مرات عدة أنها غير مسؤولة عن تصرفات القوى المحسوبة عليها. بيد أن خسارتها ذراعها الشمالية قرب الحدود الإسرائيلية، في ظل إصرار نتنياهو على إنهاء وجود "حماس" العسكري والسياسي في غزة، وبالتالي اختفاء الذراع الإيرانية الجنوبية، وظهور إشارات على تحول في طرق تصدي الأميركيين لعمليات أنصار إيران في العراق والبحر الأحمر، سيحمل طهران على إعادة النظر في ما تبقى لديها من أوراق، خصوصا أن قيادة "العالم الحر" في واشنطن لم تتأثر بالمظاهرات الحاشدة ولا بالدعوات إلى وقف إطلاق النار. 
وها هو وزير الخارجية أنتوني بلينكن يرفض أية دعوة إلى وضع حد للقتال، ويشدد على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"... سياسيا لم يتزحزح الموقف الأميركي وهو الوحيد الذي يمكن أن يؤثر على مجرى الحرب، عما كانت عليه في الأيام الأولى التي أعقبت "طوفان الأقصى". 

من الصعب الرهان على تقبل موجة جديدة من ارتفاع الأسعار على المستهلك في أوروبا جراء إطلاق الصواريخ والمسيرات على السفن المارة عبر باب المندب

السلوك الذي تبناه الإيرانيون بانتظار ما سيسفر الميدان عنه في غزة مع تحريك محدود للحلفاء في باقي الساحات ضمن مقولة "الصبر الاستراتيجي"، قد لا يصمد طويلا. الأميركيون بدأوا بقتل منفذي الهجمات على قواعدهم في العراق. والهجمات الحوثية في البحر الأحمر تثير الغضب في الغرب الذي لم يبرأ بعد من آثار صدمة الحرب الأوكرانية اقتصاديا وسياسيا. ومن الصعب الرهان على تقبل موجة جديدة من ارتفاع الأسعار على المستهلك في أوروبا جراء إطلاق الصواريخ والمسيرات على السفن المارة عبر باب المندب. 
على هذه الخلفية، تبدو مفهومة اللهجة الهادئة التي يلجأ إليها المتحدثون باسم "الحزب" اللبناني الذي انهارت بعض شعاراته عن بنائه الردع الاستراتيجي لإسرائيل، ناهيك عن رفض عارم للانجرار إلى حرب واسعة النطاق من أكثرية اللبنانيين، ما يضع "حزب الله" وجمهوره في حالة من العزلة. التوتر الطائفي في صعود. والكراهية المتبادلة بين اللبنانيين في حالة ازدهار. دفع البلد الى انهيار جديد لن يكون خطوة حكيمة. 
هناك ما يزيد عن التلويح بالحرب من قبل إسرائيل، من دون الوصول إلى إطلاق عنانها. يقابله إصرار على متابعة القتال بوتيرة منضبطة من قبل "حزب الله". وليس معروفا كم سيستمر هذا الوقوف المتأرجح على حافة الهاوية.

font change