"سكرولينغ" في عالم اليوم

"سكرولينغ" في عالم اليوم

بعد سنوات، عندما يحاول من بقي حيا منا، مراجعة أخبار الأيام الجارية، قد نسأل أنفسنا: هل كان كابوسا؟ هل هذه فقاعة عابرة في مسار الزمن الذي ينبغي أن يسير نحو ازدهار ورفاه سكان هذا الكوكب؟ أم إننا سنترحم على الوضع الحالي مقارنة مع ما ستجلبه الأحداث من كوارث ودمار؟

الأسئلة الساذجة أعلاه، والمفترض أن لا يراودا ذهن من عايش واطلع على تجارب الماضي، يبررها وقوف طال أمده للعالم على مفترق طرق تزداد الإشارات إلى أننا سنسير في الاتجاه الكارثي منه بالتزامن مع تدافع يظهر كأنه غير مسبوق ولا مفهوم للناظر. الحروب والاستبداد والفقر والجوع والخراب متعدد الوجوه، في المجتمع والاقتصاد والثقافة، تجذب كلها البشرية إلى هاوية سحيقة ومظلمة لا قرار لها، فتبدو صور المستقبل الزاهي ووعود الاستقرار والنمو أوهاما سوّق لها أصحاب نوايا مبيتة، أضمروا غير ما أعلنوا.

لم يعد سهلا الإبحار بين أمواج الأنباء الكاذبة التي بات لها دعاتها ومنصاتها وسياسيون متفرغون للترويج لها. ولم يعد سهلا كشف زيف يُبث وينشر عمدا ويتحول إلى قناعات راسخة لدى الأجيال الجديدة والمخضرمين سواء بسواء. أصبحت الحقيقة والتثبت منها عملين شاقين. أما الدفاع عنها فمسألة تنطوي على الخطر والمغامرة وتعرض من يتجرأ على طرق هذا الباب إلى النبذ والتشهير وهدر الدم.

أن يُشكل تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة، الأغنى والأقوى في العالم، لمواجهة ميليشيا تسيطر على ثلث مساحة اليمن، وهو من بين الأفقر في العالم "بعد توجيه إنذارات أخيرة إلى حكام صنعاء"، وأن تقصف ايران في اقل من 24 ساعة العراق وسوريا وباكستان، في وقت تتصاعد فيه التحذيرات من اتساع حروب تجري في غزة وأوكرانيا واتخاذها طابع الدوام، مسائل تدعو إلى التفكير في كيفية سير شؤون سكان هذا العالم ومن يسيره.

المناظرات التلفزيونية بين مرشحي الحزب الجمهوري في أميركا والتي يتغيب عنها المرشح الأبرز دونالد ترمب، تدعو إلى الإحباط، جراء المستوى الضحل من الجدال

ننحي جانبا تصدر تيارات شعبوية متطرفة الحياة السياسية في دول كانت تعتبر حتى وقت قريب موئلا للعقلانية والرشد السياسيين. ونغض النظر عن أزمات اقتصادية صارت مزمنة وغير قابلة للعلاج في بعض بلاد عاشت في رخاء لقرون، لنلتفت إلى غياب حقيقي وعميق في القيادة التي سلمها العالم طويلا إلى الغرب وإلى القوة الأبرز فيه: الولايات المتحدة.

والحال أن المناظرات التلفزيونية بين مرشحي الحزب الجمهوري والتي يتغيب عنها المرشح الأبرز دونالد ترمب، تدعو إلى الإحباط جراء المستوى الضحل من الجدال. لقائل أن يعترض موضحا أن المناظرات لم تصل بعد إلى المراحل الحاسمة، وأن السمات الشخصية والاستعراضية تسيطر على المراحل الأولى لجذب الناخبين المحتملين. بيد أن الدورتين الانتخابيتين السابقتين، لم تكن جولاتهما الأخيرة أفضل حالا من بداياتهما.

أمر مشابه في الحملات الانتخابية في كثير من البلدان الغربية، ما يُعلن من دون تردد عن تفضيل عام بين السياسيين لعوامل الإثارة والتشويق الانتخابية على البرامج المعدة بهدوء.

السياسات التي تركز على الهوية والجندر وتستثمر في الذعر من المهاجرين دون إبداء اهتمام بأسباب الهجرة ودوافعها، هي الرابحة اليوم، وهي الأقرب إلى "روح العصر"

دول الشرق ليست أفضل حالا؛ الهند التي تبدو مسرورة بالعثور على طريقها نحو النجاح على المسارين الداخلي والخارجي، لم يجد سياسيوها أفضل من استغلال التحريض الطائفي لخلق إجماع وطني جديد ضد عدو داخلي محاصر ومعزول. الصين لم تهنأ طويلا بتصدرها الاقتصاد العالمي، ذلك ان تقلص عدد سكانها راح يهدد طموحاتها الكبيرة.  أما إسرائيل "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، فلم تعد النقاشات السياسية فيها إلى قيد الحياة إلا بعد فشل حكومتها في القضاء- خلال مئة يوم- على العدو الذي وحّد المجتمع الإسرائيلي للمرة الأولى منذ عقود: "حماس". ولا بأس من القضاء على كل فلسطينيي غزة وما تيسر من أهالي الضفة الغربية.

السياسات التي تركز على الهوية والجندر وتستثمر في الذعر من المهاجرين دون إبداء اهتمام بأسباب الهجرة ودوافعها، هي الرابحة اليوم، وهي الأقرب إلى "روح العصر" التي تتلخص في تصفح مجريات الحياة على طريقة مشاهدة مواد موقع "تيك توك"، أو "سكرولينغ"؛ حيث ينتقل المشترك من فقرة ترفيهية إلى أخرى إخبارية، فثالثة سياسية، قبل أن يصل إلى مقتطف من عظة دينية عميقة. دفق من الصور والأفكار والآراء المتناقضة لا يربط بينها غير صعوبة فهم سياقها، تماما كما هي الحال في سياسة دنيا اليوم. الثبات في المكان والموقف والمضمون والتبدل السريع غير العقلاني في الصورة والمشهد والنغم، في حياة كان يجب ان تكون اغنى قليلا بالمعنى من تصفح "تيك توك".  

font change