لماذا ينتظر سنّة لبنان عودة الحريري إلى السياسة؟

وكأنه المخلّص...

AFP
AFP
رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري بعد تسميته رئيسا للحكومة للمرة الاولى في 1992

لماذا ينتظر سنّة لبنان عودة الحريري إلى السياسة؟

مع اقتراب الذكرى السنوية التاسعة عشرة لاغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري يوم 14 فبراير/شباط، دبت الحياة في أوردة وشرايين "تيار المستقبل"، بعد سنتين من الغياب غداة تعليق زعيمه سعد الحريري عمله السياسي في يناير/كانون الثاني 2022.

ازدانت شوارع بيروت والحواضر ذات الثقل الديموغرافي السني بصور الحريرييْن، مع سيل من الأخبار والتحليلات والتكهنات حول رجوع الحريري عن اعتزاله، ولا سيما مع التحضيرات المكثفة لإقامة تجمع جماهيري حاشد قرب ضريح الحريري الأب في ساحة الشهداء وسط بيروت.

لا ريب أن الحريري الابن حظي بتعاطف سني واسع وغير مسبوق منذ دخوله عالم السياسة عام 2005، تبدد جزء منه على وقع الأزمة الاقتصادية وما سبقها من تسويات كارثية. إلا أن الفراغ المهيمن على الساحة السياسية، وهزالة الحضور السياسي للسنة، أعادا تزخيم هذه العاطفة بشكل بدا معه السنة وكأنهم ينتظرون عودة المخلص.

السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي المتغيرات التي يمكن أن تدفع الحريري إلى الرجوع عن قرار اعتزاله؟

غياب "الشريك السني"

عقب اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، وما رافقها من "حرب مشاغلة" موازية بين "حزب الله" والجيش الإسرائيلي، زاد الاهتمام بالعاصمة اللبنانية. فقد كثر زوارها من الدبلوماسيين العاملين على ترتيبات "اليوم التالي" للحرب، بسبب ربط "حزب الله"، المهيمن على قرار الدولة اللبنانية، إيقاف "حرب المشاغلة" وأي تسوية سياسية، بإيقاف آلة الحرب الإسرائيلية في غزة. بيد أن ذلك لا يلغي وجود نقاشات ومفاوضات حول تسوية سياسية كبرى في لبنان، تعيد الانتظام إلى عجلة الدولة وعمل مؤسساتها، وتساعد على إخراجها من مستنقع الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ خريف عام 2019.

أفرزت انتخابات 2022 واقعا سياسيا غير مرض للسنة، حيث انعدم تأثيرهم تقريبا وصاروا على هامش اللعبة السياسية 

هذا بالضبط ما دفع بالنخب السنية، ولا سيما تلك المقربة من الحريري، إلى التفكير الجدي في ضرورة عودته إلى العمل السياسي، كشريك سني على الطاولة، كي لا تلتهم أي تسوية جديدة من حضورهم السياسي والوظيفي والمعنوي الآخذ في التآكل. فقد أفرزت الانتخابات النيابية في لبنان ربيع عام 2022، واقعا سياسيا غير مرض عند السنة، حيث انعدم تأثيرهم تقريبا في عملية صنع القرار، وصاروا على هامش اللعبة السياسية برمتها. فيما انحسر الصراع على السلطة والحكم إلى حد كبير بين الشيعة والمسيحيين. 

AFP
الدخان يتصاعد من مكان تفجير موكب رفيق الحريري في بيروت في 14 فبراير 2005

ومذاك إلى اليوم، وكل الأحداث والوقائع تصب في هذا المنحى، وخاصة حركة الموفدين الدوليين التي تجاهلت السنة، وهذا ما جعلهم يفتقدون إلى سعد الحريري. ذلك أن الأخير كان القطب السني الوحيد الذي يتزعم تيارا سياسيا يمتد على مساحة الوطن بأكمله، ولديه حيثية شعبية حقيقية في كل أماكن الانتشار الديموغرافي السني. في حين أن منافسيه، وكذلك الذين دخلوا العمل السياسي بعد اعتزاله، إما نواب يفتقرون إلى الكاريزما، وثقافتهم السياسية محدودة، وإما زعماء محليون، لا تتجاوز شعبيتهم حدود المدينة التي ينتمون إليها. ما زاد الطين بلة هو تفرقهم وتشرذمهم، الأمر الذي جعل تمثيل السنة على أي طاولة حوار سياسي معضلة بحد ذاتها. 
في المقابل، فإن الحريري احتفظ بنفوذ واسع عبر رجاله في مؤسسات الدولة، الذين أوكل أمر حمايتهم إلى رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، مقابل دعم ترشيحه لرئاسة الحكومة، وتعاونهم معه في تسيير شؤون الحكم. كذلك أثبتت انتخابات بعض نقابات المهن الحرة النخبوية مثل المحامين والأطباء، وخاصة في الشمال حيث الثقل السني، أن "تيار المستقبل" لا يزال فاعلا ومؤثرا، حيث نجح في تحقيق نتائج لافتة، أبرزها الفوز بمنصب نقيب المحامين في الشمال. 

تمدد "حماس" و"الجماعة الإسلامية"

من جانب آخر، ثمة قلق متصاعد في الأوساط السنية من انفلاش حركة "حماس" وربيبتها "الجماعة الإسلامية" في لبنان بدعم من "حزب الله"، وتأثيرهما في عودة الخطاب الإسلامي الراديكالي إلى الظهور من جديد، خاصة في الأوساط الشعبية، وقيامهما بتجنيد كثير من الشبان لتحويلهم إلى مجاهدين جدد. وينظر إلى سعد الحريري على أنه الشخص الوحيد الذي بإمكانه إحداث التوازن مع هذه الحالة الإسلامية الراديكالية الآخذة في التوسع، مثلما فعل سابقا إبان ظهور تنظيمات إرهابية متطرفة مثل "داعش" وغيرها. 
كل هذه العوامل، وخاصة الأخير، دفعت بقيادات "تيار المستقبل" إلى الأخذ بزمام المبادرة، ومحاولة إقناع الحريري بالعودة إلى العمل السياسي، من خلال التحضير لأوسع حشد شعبي ممكن خلال زيارته لضريح والده مثلما اعتاد في السنتين الأخيرتين، وذلك بهدف توجيه رسالة سياسية إلى الداخل والخارج، بأن الحريري لا يزال هو الرجل الأقوى عند السنة، والأكثر شعبية. 

التجمع الشعبي هو الفيصل

يبقى الخارج هو الأهم، إذ لطالما استند رئيس الحكومة الأسبق في عمله السياسي على الدعم العربي وخاصة السعودي، وشبكة العلاقات العربية والدولية المتشعبة التي ورثها عن والده. إلا أنه في المرحلة الأخيرة من عمله السياسي كان يفتقر بوضوح إلى الدعم السعودي، بعدما تحولت بيروت إلى عاصمة "محور الممانعة والمقاومة"، وقاعدة لتهديد أمن المملكة عبر دعم الحوثيين سياسيا وعسكريا وإعلاميا، وكذلك عبر تصدير الحبوب المخدرة (الكبتاغون) من الموانئ اللبنانية. 
تمدد "حماس" و"الجماعة الإسلامية" وآثاره المستقبلية، كان العامل الأساسي الذي ارتكزت عليه قيادات "تيار المستقبل" للحصول على دعم عربي واسع يحتاجه الحريري من أجل العودة إلى الميدان السياسي بفعالية، لمعرفتهم بموقف دول الاعتدال العربي من الحركات الإسلامية الراديكالية. 
حتى الآن لا يزال الحريري على قراره الذي علله وقتها بقناعته بأنه "لا مجال لأي فرصة إيجابية في لبنان في ظل النفوذ الإيراني والانقسام الوطني واستعار الطائفية". لكن يبدو أن الضغوط والتحولات الحاصلة قد أثرت فيه، وجعلته يترك الحرية لقيادات تياره للعمل. حتى إن اثنين من أبرز المقربين منه، وهما مستشاره السياسي، ورئيس أمنه الشخصي، اللذان يلازمانه في مقر إقامته في أبوظبي، عادا إلى لبنان للإشراف على التحضيرات، وحث الشخصيات والقيادات الشعبية السنية على المشاركة. 

AFP
سعد الحريري بين مؤيديه أثناء زيارته ضريح والده في وسط بيروت في 14 فبراير 2023

ومن الدلائل الأخرى التي تشير إلى تأثره أيضا، اجتماع مستشاره للشؤون الروسية جورج شعبان، مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف منذ أيام قليلة، وتوزيع خبر رسمي عن هذا الاجتماع على وسائل الإعلام، يتحدث عن عرض شعبان خلال اللقاء "رؤية الحريري وتصوره إزاء تطور الأحداث في لبنان، لا سيما مسألة انتخاب رئيس جديد للجمهورية". ومع أنه لم تتم إماطة اللثام عن فحوى هذا التصور، فإن تسويق خبر الاجتماع وطابعه السياسي يعد عملا سياسيا هو الأول من نوعه منذ الاعتزال.

تمدد "حماس" و"الجماعة الإسلامية" وآثاره المستقبلية، كان العامل الأساسي الذي ارتكز عليه "تيار المستقبل" للحصول على دعم عربي واسع

تشير المعلومات المستقاة من مصادر داخل "تيار المستقبل"، ومن شخصيات كانت مقربة منه، إلى أن النخب والقيادات المقربة من الحريري تعول كثيرا على التجمع الجماهيري يوم 14 فبراير، وأنه سيكون هو الفيصل في حسم قرار العودة إلى الميدان السياسي من عدمه. كما أنه سيكون الفيصل في إلقاء الحريري كلمة بالمناسبة، بعدما لاذ بالصمت المطبق في السنتين الماضيتين. كذلك تشير المعلومات، أنه في حال قرر الحريري العودة إلى العمل السياسي، فإنه سيزور روسيا ليلتقي بنائب وزير خارجيتها بوغدانوف، أي إنه سيمضي من حيث توقف مستشاره للشؤون الروسية، ليميط اللثام عن مبادرته السياسية.

AFP
سياسيون لبنانيون يقرأون الفاتحة عند ضريح رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في وسط بيروت في 14 فبراير 2022

لذلك، استنفرت قيادات "المستقبل" كل طاقاتها، وأطلقت حملة تحشيد هائلة تحت شعار "تعوا ننزل ليرجع" خلال اجتماع في "بيت الوسط"، مقر إقامة الحريري في بيروت، بما يحمل من رمزية لزعامته السياسية. وهذا الاجتماع الذي ترأسه أحمد الحريري، أمين عام "تيار المستقبل" وابن عمة سعد الحريري، ضم قياديين ومنسقي المناطق في التيار للمرة الأولى منذ تعليق العمل السياسي. كما عملت قيادات "المستقبل" على استثمار كل علاقاتها بوسائل الإعلام والوسط الصحافي، من أجل عرض تقارير تحفز الجماهير على المشاركة، وتسريب معلومات تتحدث عن كسر الاعتزال. 
وتحولت مقرات "تيار المستقبل" التي كانت خاوية إلى مركز نشاط محموم، حيث أعيد إحياء قنوات التواصل مع الكوادر الحزبية، والقيادات الشعبية، والمفاتيح الانتخابية، والمخاتير ورؤساء البلديات، وزعماء العشائر العربية. كما جرى استنفار شبكة رجال الأعمال التي كانت مقربة من الحريري والتي استفادت كثيرا من نفوذه السياسي، وذلك من أجل تأمين الميزانية المطلوبة للأمور اللوجستية مثل أجور المنظمين والمحروقات، وتأمين الباصات في المناطق البعيدة عن بيروت. 
الرغبة في أكبر حشد ممكن دفعت بعض قيادات المستقبل للذهاب بعيدا جدا في حملة التجييش من أجل دغدغة مشاعر الجماهير بعودة "المخلص"، وصولا إلى نشر تسريبات عن دعم خليجي وسعودي، وتسوية كبرى ستعيد الحريري إلى بيروت بطريقة تشبه عودة أبيه من السعودية عام 1992، وكأنه يحمل عصى سحرية ستفجر نهضة اقتصادية في لبنان، دون وجود أي سند حقيقي لهذا الكلام. 
ولا يزال رجوع الحريري عن اعتزاله صعبا، لكن مشهدية 14 فبراير في حال نجاحها ستشكل معطى سياسيا يصعب تجاوزه في أي تسوية مقبلة. ومما لا شك فيه أن عودته إلى الميدان السياسي تسهم في رتق الثوب السني المهلهل، وتعبر في الوقت نفسه عن مدى عمق الأزمة عند السنة، والمتمثلة في عجزهم عن إنتاج قيادات سياسية جديدة نتيجة السيرورة الانحدارية المستمرة منذ عام 2005، والتي كان "تيار المستقبل" أبرز المساهمين فيها.

font change

مقالات ذات صلة