باكستان...فجر جديد وبداية جديدة

نواز شريف يمهد الطريق لولايته الرابعة كرئيس للوزراء

AP
AP
نواز شريف متوسطا شقيقه شهباز وابنته مريم يحيون المؤيدين في لاهور بعد إعلان النتائج الأولية في 9 فبراير

باكستان...فجر جديد وبداية جديدة

شهد الواقع السياسي الباكستاني انعطافة بالغة الأهمية، حين أعلن رئيس الوزراء السابق نواز شريف فوزه في الانتخابات العامة في البلاد لعام 2024. وفيما كانت أصداء الأخبار تتردد في جميع أنحاء العالم، كان المراقبون الدوليون من مختلف العواصم يرقبون التطورات، مدركين أهمية هذا الحدث الانتخابي في منطقة جنوب آسيا.

خرج نواز شريف، السياسي المخضرم ذو الماضي المضطرب، منتصرا تحت راية "الرابطة الإسلامية الباكستانية– نواز" (PML-N)، وحصل على أكبر حصة من أصوات الناخبين، وفق ما أعلنته لجنة الانتخابات الباكستانية. وبدا الزعيم البالغ من العمر 74 عاما، محاطا بشقيقه الأصغر ورئيس الوزراء السابق شهباز شريف، وابنته مريم نواز، واثقا عندما أعلن عن نية حزبه تشكيل حكومة، في إقليم البنجاب ذي الكثافة السكانية العالية وعلى المستوى الفيدرالي، من دعم الأطراف المتحالفة.

ومد شريف غصن الزيتون للأحزاب السياسية الصغيرة والفائزين المستقلين، ودعاهم جميعا إلى الاتحاد من أجل الصالح العام لباكستان، الدولة المسلمة في جنوب آسيا والتي يبلغ عدد سكانها 240 مليون نسمة، غالبيتهم من المسلمين. وتشير أحدث النتائج إلى أن حزب نواز شريف السياسي برز كأكبر حزب في البنجاب، وهو الإقليم الأكثر اكتظاظا بالسكان، ولكنه حل في المرتبة الثانية على الصعيد الوطني بحصوله على 70 مقعدا، فجاء بعد المستقلين الذين حصدوا 96 مقعدا، بينما اكتفى حزب الشعب الباكستاني بـ53 مقعدا. وحصل شركاء شريف في الائتلاف على المقاعد المتبقية. وبهذه الأرقام، وجد نواز شريف نفسه في وضع مناسب لتشكيل الحكومة المقبلة في الوسط بدعم من شركائه في الائتلاف.

ولا يحتاج الحزب السياسي، في النظام البرلماني الباكستاني، إلا إلى أغلبية بسيطة تبلغ 169 مقعدا من أصل 342 مقعدا في البرلمان لتشكيل الحكومة الوطنية. ويجري انتخاب رئيس الوزراء، في مجلس النواب، المعروف باسم الجمعية الوطنية، ويتعين أن يكون رئيس الوزراء عضوا في الجمعية. وبالمثل، تقوم مجالس المقاطعات الأربع أيضا باختيار رؤساء وزراء الأقاليم، باتباع إجراءات مماثلة.

لا يحتاج الحزب السياسي، في النظام البرلماني الباكستاني، إلا إلى أغلبية بسيطة تبلغ 169 مقعدا من أصل 342 مقعدا لتشكيل الحكومة 

لكن بهجة الاحتفالات والمناورات السياسية شابتها مخاوف منظمات حقوقية وهيئات رقابية دولية حول سير العملية الانتخابية، ولا سيما في ما يتعلق بالقيود المفروضة على الإنترنت خلال عملية الاقتراع. وبينما بررت حكومة تصريف الأعمال هذه التدابير بأنها ضرورية لمكافحة التهديدات الأمنية المحتملة من العناصر الإرهابية، شكك المنتقدون في تأثير تلك الخروقات على شفافية العملية الانتخابية ونزاهتها.

AP
مؤيدو نواز شريف يحتفلون بفوزه بعد إعلان النتائج الأولية في لاهور في 9 فبراير

ورغم ورود أنباء عن وقوع أعمال عنف في بعض المناطق، ما أدى بشكل خاص إلى سقوط ضحايا في خيبر بختونخوا وبلوشستان، فقد أشادت القوات المسلحة الباكستانية بالسلوك السلمي الشامل للانتخابات. ومع نشر قوات الأمن بشكل كبير، تمكنت البلاد من اجتياز العملية الانتخابية، وإن كانت مليئة بالتحديات، ما يدل في النهاية على التزام جماعي بدعم المبادئ الديمقراطية. 
بينما يستعد نواز شريف لولايته الرابعة كرئيس للوزراء، فإنه يواجه سلسلة من التحديات الصعبة التي تتطلب حلولا عاجلة ومدروسة. وتأتي على رأس القائمة الأزمة الاقتصادية في باكستان، والتي أبرزتها المحادثات الوشيكة مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة الإنقاذ. ومع ذلك فإن علاقات شريف الراسخة مع لاعبين دوليين مهمين، مثل واشنطن والرياض وأبوظبي والدوحة، تمنحه موقعا متميزا للمشاركة في هذه المفاوضات الحيوية، التي تشكل مفتاحا للاستقرار الاقتصادي في باكستان.
من جانب آخر، لا يزال شبح التشدد يطارد الأمة، مع تجدد الهجمات التي تشنها الجماعات المسلحة مما يشكل تهديدا كبيرا للأمن والاستقرار. إن إعادة تنظيم المنظمات المحظورة، مثل حركة "طالبان باكستان"، في أفغانستان المجاورة، إلى جانب الأسلحة المتطورة التي خلفتها القوات الدولية المنسحبة، تؤكد على ضرورة التصدي العاجل لهذا التهديد. بالإضافة إلى ذلك، تشكل حركات التمرد العرقية القومية، وخاصة في بلوشستان، تحديات أمنية معقدة تتطلب نهجا متعدد الأوجه.
وفي التعامل مع المشهد المعقد للعلاقات الدولية، تواجه باكستان تحديا كبيرا يتمثل في معالجة التوترات الإقليمية والشبكة المعقدة من القضايا الجيوسياسية من خلال الدبلوماسية الماهرة والمبادرات الاستراتيجية. إن العلاقة المتوترة مع أفغانستان، والتي تفاقمت بسبب قضايا التشدد عبر الحدود، تدعو إلى تبني استراتيجية متأنية ومدروسة لبناء الثقة والتعاون. وبالمثل، تسلط الصراعات المستمرة مع الهند الضوء على الحاجة إلى حوار هادف واستراتيجيات فعالة لحل الصراعات لمنع المزيد من التصعيد وتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة.

تواجه باكستان تحديا كبيرا يتمثل في معالجة التوترات الإقليمية والشبكة المعقدة من القضايا الجيوسياسية من خلال الدبلوماسية الماهرة والمبادرات الاستراتيجية

مع تولي نواز شريف القيادة مرة أخرى، تبدأ باكستان مرحلة جديدة في رحلتها السياسية، تتسم بالتعهدات بالإنعاش الاقتصادي، والجهود الدبلوماسية الاستباقية، والجهود الحثيثة لتحقيق الوحدة الوطنية. وتتوافق رؤية شريف الجريئة لتحويل باكستان إلى مركز اقتصادي مع آمال الشعب، وتوفر منارة للتفاؤل في مواجهة التحديات المستمرة. ومع ذلك، فإن نجاح هذه الأهداف يعتمد على قدرة الحكومة على تنفيذ سياسات سليمة، وتعزيز الشمولية، والالتزام الثابت بالقيم الديمقراطية وسيادة القانون.
وبينما يبدأ نواز شريف أولى خطواته في هذه الرحلة، فإنه يحمل معه إرثا من إنجازات الماضي وخطط الأعمال غير المكتملة، ما يؤكد ثقل التوقعات وحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه. وقد يكون الطريق إلى الأمام محفوفا بالعقبات والشكوك، ولكنه مشبع أيضا بالوعد بمستقبل أكثر إشراقا لباكستان وشعبها.
وعلى حد تعبير شريف نفسه، الذي تردد صداه في أروقة السلطة وشوارع الأمة، فقد حان الوقت "لإعادة تصور باكستان"– لتصور مستقبل يحدده التقدم والازدهار والسلام، والشروع في رحلة جماعية نحو تحقيق تلك الرؤية، خطوة بخطوة.

AFP
مؤيدو رئيس الوزراء الأسبق عمران خان يقطعون طريق بيشاور- أسلام آباد احتجاجا على نتائج الانتخابات في 11 فبراير

في المشهد الديناميكي للخطاب السياسي الباكستاني، يبرز نواز شريف برؤية تَعِد بالتغيير. لقد استحوذت أجندته الطموحة لتحويل باكستان إلى قوة اقتصادية رائدة في آسيا على اهتمام البلاد، مما يشير إلى تعزيز كبير في مساره السياسي حيث يحتمل أن يخطو إلى دور رئيس الوزراء مرة أخرى.
لقد أعرب شريف، طوال حملته الانتخابية، عن رؤية ترتكز على حلول عملية للقضايا الملحة. وتضمن بيانه الانتخابي تعهدات بمعالجة التضخم، وتعزيز التجارة من خلال الصادرات، وتقوية العلاقات السلمية مع الدول المجاورة. وقد صاغ ذلك في رؤية يتردد صداها بعمق لدى شعب سئم عدم الاستقرار ويتوق إلى التقدم.
وما يميز نواز شريف عن غيره في نظر كثير من الباكستانيين هو تاريخه الحافل بالوفاء بالتزاماته، فخلال فترة قيادة حزبه، وحزب "الرابطة الإسلامية الباكستانية- جناح نواز"، للحكومة التي بدأت عام 2013، كانت البلاد تواجه أزمات خانقة، وكانت لا تزال تعاني من آثار حربها ضد الإرهاب، وتعطلت الحياة اليومية لمواطنيها بشدة بسبب تساقط أحمال الكهرباء على نطاق واسع ونقص الغاز الطبيعي. ولم تعالج الحكومات السابقة هذه المشاكل بالقدر الكافي، بل اكتفت بإلقاء اللوم على إهمال البنية الأساسية للطاقة في عهد الدكتاتور العسكري السابق مُـشَرَّف.
ومع ذلك، تحت قيادة شريف، تحققت خطوات كبيرة. وبحلول عام 2018، انخفض بشكل كبير فقدان أحمال الكهرباء والغاز إلى حد كبير، ما وفر راحة كبيرة لعدد لا يحصى من الأسر. وتصدت الحكومة بفعالية لحرب العصابات سيئة السمعة في كراتشي، الأمر الذي أعاد الشعور بالأمن إلى المركز الاقتصادي للبلاد. وفوق ذلك، نجحت إدارة شريف في إتمام التعداد السكاني الذي طال انتظاره، وحلت مشكلة إدراج المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية ومنطقة باتا في إقليم خيبر بختونخوا، وأحرزت تقدما ملحوظا في تطوير البنية التحتية.

من غير المؤكد ما إذا كان شريف سيتمكن من تحويل استراتيجياته الشاملة إلى نتائج ملموسة

اقتصاديا، حققت حكومة حزب "الرابطة الإسلامية الباكستانية- جناح نواز" إنجازات بارزة، فأضيفت أكثر من 10 آلاف كيلومتر من الطرق السريعة إلى البنية التحتية للبلاد، ما يسّر الاتصال والتجارة. وأدى إدخال 11500 ميغاواط من الكهرباء إلى الشبكة الوطنية من خلال مصادر متنوعة إلى تخفيف أزمة الطاقة، مما أدى إلى تغذية النمو الصناعي. والجدير بالذكر أن الحكومة لعبت دورا محوريا في تعزيز الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، وهو المشروع الرئيس لمبادرة الصين الطموحة "حزام واحد طريق واحد".
ولكن على الرغم من هذه الإنجازات، فإن التغيير اللاحق في الحكومة جلب معه تحديات جمة، فتباطأ زخم تقدم الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، مما ألقى بظلاله على الفوائد الاقتصادية المحتملة التي يمكن أن يجلبها لباكستان.
وبينما تبحر باكستان في المشهد السياسي، ينظر الشعب إلى زعماء مثل شريف بشيء من التفاؤل وشيء من الحذر. وتوفر خطط شريف للتقدم الاقتصادي في البلاد مصدرا للأمل خلال هذه الأوقات التي لا يمكن التنبؤ بها. 
ومع ذلك، لا تزال هناك عقبات عديدة تنتظرنا. ومن غير المؤكد ما إذا كان شريف سيتمكن من تحويل استراتيجياته الشاملة إلى نتائج ملموسة. ومع ذلك، فإن سجل إنجازاته في نظر كثيرين ينبئ بالكثير، ويغرس الثقة في أن رحلة باكستان إلى التحول إلى قوة اقتصادية ربما تكون في متناول اليد هذه المرة تحت قيادته.

font change

مقالات ذات صلة