غزة بين سأم بايدن وشجاعة مانديلا المفقودة

غزة بين سأم بايدن وشجاعة مانديلا المفقودة

في كل مرة تخضع فيها مفاهيم "عدم الإفلات من العقاب"، و"العدالة الانتقالية"، و"حقوق الإنسان" إلى الاختبار، تخفق في إثبات أن الحكومات والسلطات تقيم لها وزنا. يعتبر الجميع أن التطلع إلى المستقبل هو الغاية وليس نبش القبور ونكء الجراح وإخراج الهياكل العظمية من الخزائن.

المستقبل هو ما يجب أن يكون ملء نظر المواطنين وممثليهم، حتى لو كان دفن جثث الماضي لم يجر على ما يرام وظلت الأشلاء بارزة للعيان. وموازين القوى هي الفيصل في كيفية طي صفحات الصراعات خصوصا الدموية منها. والمُثل الأخلاقية التي حاول العالم إرساءها بعد الحرب العالمية الثانية، لم تجد من يدفعها إلى سوية الالتزام والواجب. بل ظلت استنسابية بل اعتباطية.

في واحدة من تجاربها المبكرة، أرسلت الأمم المتحدة قوات تحت رايتها للقتال في كوريا إلى جانب الجنوبيين والأميركيين ضد الشماليين وحلفائهم الآتين من الصين، بسبب ما اعتبر يومها انتهاكا شماليا للقرارات الدولية. في الوقت ذاته، اتسمت ردود فعل المنظمة الدولية بقدر أكبر من الهدوء حيال أزمات أخرى.

السلام، متى أتيحت فرصة تحقيقه، أثمن من إضاعته في البحث عن المجرم والقاتل

في لبنان، شهدنا هذا النوع من عدالة "العين الواحدة" بعد انتهاء الحرب الأهلية في 1990، عندما صدر قانون العفو العام عن الجرائم التي ارتكبت أثناء القتال، باستثناء عدد قليل منها. في المقابل، تعرضت فئات واسعة للمطاردة والتهميش على أيدي المنتصر في تلك الحرب. المجازر التي ارتكبتها الأطراف المنخرطة في القتال، وضعت جانبا، بغض النظر عمن نفذها. واعتبرت المصالحة السياسية بين القوى المتحاربة كافية لتحويل الأنظار إلى إعادة إعمار لبنان والاهتمام بأجياله الطالعة.

بعد أربعة وثلاثين سنة، ثبت أن الأجيال الشابة تحمل من الكراهية والحقد الطائفيين ما يفوق ما حملته الأجيال السابقة وأن النموذج الاقتصادي انهار كبيت من أوراق اللعب.

أشباه عديدة لهذه التجارب تمتد من كمبوديا إلى رواندا. الاستثناء الأهم مثلته جنوب أفريقيا التي شهدت محاكمة للمنتصرين كما للمهزومين، على جرائمهم أثناء الصراع، يبدو (الاستثناء) من النوع الذي يؤكد القاعدة. فالسلام، متى أتيحت فرصة تحقيقه، أثمن من إضاعته في البحث عن المجرم والقاتل والمرتكب والمسؤول عن اندلاع الحرب والأسباب والسياقات. ولا يتوقف الأمر عند التنازل السهل عن دروس الحرب العالمية الثانية التي حاول المجتمع الدولي الخروج بها وتكريسها في المؤسسة التي تحمل اسم "الأمم المتحدة" بل إن روح "الأحلاف المقدسة" التي تقاسمت أوروبا أثناء وبعد القرون الطويلة من حروبها وصولا إلى حملات نابليون بونابرت الطامحة إلى تنصيبه إمبراطورا على أوروبا، وأخلاق "مؤتمر برلين" في 1884 الذي تقاسم المشاركون الأوروبيون فيه، القارة الأفريقية وثرواتها وفق مصالحهم ونزواتهم، هي التي توصف بالواقعية التي يمكن عبرها إقامة السلام. وتنسحب إلى الزوايا المعتمة كل الدعوات إلى إنصاف الضحايا والتعويض عليهم أو على الأقل تبرير أسباب المعاناة التي نزلت بهم.

دروس ما بعد الحرب العالمية الثانية ستبقى نظرية. وليس في عالم اليوم نيلسون مانديلا جديد

دروس ما بعد الحرب العالمية الثانية ستبقى نظرية. وليس في عالم اليوم نيلسون مانديلا جديد يقبل أن يقدم إلى المحاكمة رفاقه القدامى في النضال ضد التمييز العنصري إذا ثبت ضلوعهم في جرائم حرب أو إرهاب بحسب ما تظهره تحقيقات "لجنة الحقيقة والمصالحة". الرئيس الأميركي جو بايدن "سئم" من الفظائع التي تجري في غزة وكأنه ملّ من تكرار تناول الطعام ذاته كل يوم وكأنه ليس زعيم الدولة الأقوى في العالم التي قدمت مالا وسلاحا لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، العنصري والمولع بالسلطة. 
كبير دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل منزعج من الإنذارات الإسرائيلية بإجلاء النازحين إلى رفح. ويتساءل ببراءة "إلى أين يرحلون؟ إلى القمر؟". 
غني عن البيان أن ما حاول العالم تطبيقه من معايير حقوقية وأخلاقية مستندة إلى دروس الماضي والساعية إلى الحيلولة دون تكراره، قد فشل. آلاف الضحايا تحت الأنقاض في غزة يشهدون على ذلك. ولم يعد أمام المنكوبين في عالم ظالم وموحش سوى التفرج على "شخص طيب لكنه ضعيف الذاكرة" على ما وصف تقرير قضائي أميركي الرئيس بايدن، وقد مل من مشاهدة فظائع أصدقائه يرتكبونها بسلاح زودهم به. 

font change