"الدولة الإسلامية" في الصحراء الكبرى... "داعش" الساحل الأفريقي

خزان بشري يفرخ المقاتلين الجاهزين للسفر والقتال عبر الحدود

AFP
AFP
جندي من القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية في دورية راجلة في إطار عملية خاصة لمحاربة عناصر من "داعش"

"الدولة الإسلامية" في الصحراء الكبرى... "داعش" الساحل الأفريقي

منذ انطلاقته في العراق وتمدده في سوريا، يراقب العالم "داعش" عن كثب، ويسعى لمحاربته والحد من تمدده. لقد استغل التنظيم التوترات الطائفية في العراق ليقوم على أنقاض "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين" وفلول نظام حزب "البعث" الذي وجد نفسه خارج اللعبة بعد سقوط النظام عام 2003.

ولإضفاء شرعية "المقاومة للاحتلال"، تم اختيار اسم "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق" في 2006، ليتمدد بعدها في سوريا مستغلا الصراع الذي انقدحت شرارته في 2011، ليتحول الاسم إلى "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" في 2014، ومن هنا جاء اسم "داعش".

إن تمدد التنظيم الميداني على أراضي البلدين صاحبه استدعاء واستغلال للتاريخ الإسلامي، كون سوريا والعراق تضمان حاضرتي الدولتين الأموية والعباسية. ومن أجل استغلال شرعية "الخلافة الإسلامية" فإن التنظيم ينتهج تطبيق تفسير متشدد للشريعة الإسلامية ضد مخالفيه وذلك لإرسال رسالتين: الأولى أنه "لا تأخذه في الله لومة لائم"، والأخرى أن من يحاول مجابهة "الدولة الإسلامية" سينال عقابا مرعبا.

تشكل قوة التنظيم وأجندته التوسعية تهديدا متزايدا لدول العالم الإسلامي وشركائهم الدوليين حيث إن فكرة "الخلافة" العابرة للحدود تجعل من "داعش" تنظيما دوليا يتطلع لإقامة دولة لا تعترف بالقانون الدولي، بل تجمعها "الخلافة" المزعومة، ولذلك تمدد "داعش" لمناطق تبعد آلاف الكيلومترات عن العراق و"الشام". وقد أعلن التنظيم عن إنشاء ثماني ولايات خارج العراق وسوريا، هي: خراسان (أفغانستان وباكستان) والجزائر والقوقاز ومصر وليبيا وجزيرة العرب (المملكة العربية السعودية) واليمن، والساحل الأفريقي.

إن الخطر الدولي لتنظيم "داعش" اليوم يتركز بشكل أساسي في منطقتين: أولاهما: إقليم خراسان/أفغانستان التي ينشط فيها التنظيم متحديا سلطة "طالبان" ومزايدا عليها في التشدد، وهذا ما ينقله الإعلام لنا بشكل يومي. غير أن القسم الأكثر خطورة هو فرع التنظيم في الساحل الأفريقي.

إن تمدد "ولاية غرب أفريقيا" أمر شبه مغيب عن الإعلام العربي، رغم أن تقارير مجلس الأمن الدولي تشير إلى أن الهجمات الإرهابية التي نفذها تنظيم "داعش- ولاية غرب أفريقيا" فاقت في وحشيتها تلك الهجمات التي نفذتها حركة "بوكو حرام" التي كانت تصنف بأنها المنظمة الأكثر تطرفا في القارة الأفريقية. والجدير بالذكر أن عدة تنظيمات متطرفة في أفريقيا قد قامت بمبايعة "داعش"، وعلى رأسها "بوكو حرام" نفسها التي بايعته عام 2015 لتصبح جزءا منه إضافة لعناصر منشقة من تنظيمات أخرى مثل تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". وقد تأخر اعتراف "داعش" بـ"الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" كمقاطعة رسمية حتى مارس/آذار 2022.

وفي المقابل، فإن صعود "داعش" في أفريقيا أدى إلى تدخل دول الاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا إضافة إلى روسيا وشركة "فاغنر" المشهورة بتجنيد المرتزقة للقتال في المنطقة.

أدى سقوط الدولة في ليبيا عام 2011 إلى ازدياد انتشار السلاح في منطقة الساحل

منطقة الساحل الأفريقي

يقصد بهذا الاسم منطقة السافانا الاستوائية في أفريقيا الممتدة على هيئة حزام بطول 5900 كيلومتر بين الصحراء الكبرى شمالا والسودان جنوبا، وبين إريتريا شرقا إلى السنغال غربا، وهي دول تجمع الساحل الأفريقي الخمس (موريتانيا، بوركينافاسو، مالي، النيجر، تشاد) إضافة إلى السنغال، نيجيريا، السودان، الجزائر، الصومال، وجيبوتي. وقد سميت "الساحل" لأنها منطقة تنبت فيها نباتات صحراوية تشكل حدودا طبيعية للصحراء القاحلة الواقعة شمالها وجنوبها، فكأنما هي ساحل صحراوي. وتمتاز هذه المنطقة بقسوة مناخها ووعورة تضاريسها، حيث ندرة الأمطار والجفاف ودرجة الحرارة المرتفعة طوال العام، التي تمتد على منطقة مكونة من عدة هضاب معزولة وسلاسل الجبال التي تشكل جغرافيا المنطقة.

نبذة تاريخية

في الفترة الممتدة بين القرنين الـ 13-17 ظهرت عدة ممالك في منطقة "الساحل"، وكانت الحياة السياسية مستقرة بشكل ازدهرت فيه صناعة تعدين الذهب وتخزين فوائض الحبوب، إضافة للتجارة عبر طريق الصحراء التي يتقن سكانها التنقل بين مناطقها. وتدريجيا، تحولت الأمور في المنطقة بعد تزايد أطماع المناطق الأخرى في مخزون الذهب في الساحل، فتزايد الغزو من المناطق الشمالية ليليه الغزو الأوروبي. وقد نتج عن تلك التحولات السياسية كساد اقتصادي واستعباد لكثير من أبناء المنطقة الذين تم نقلهم لأماكن أخرى ليعيشوا حياة العبودية بعيدا عن موطنهم الأصلي. وخلال القرون الـ18-20 عاشت المنطقة- مثل معظم أرجاء القارة الأفريقية- تحت الاحتلال الأوروبي.

AP
المئات من مقاتلي "حركة الشباب" يقومون بتدريبات في الصومال

وقد حصلت معظم دول منطقة الساحل على استقلالها في الستينات من القرن العشرين. ومنذ ذلك الوقت، ظهرت الحركات المتطرفة نتيجة لضعف الحكومات التي ولدت فاقدة للشرعية بسبب عجزها عن توفير أبسط مقومات الحياة لشعوبها في ظل التدهور الاقتصادي والآثار المتفاقمة لتغير المناخ. وزاد من عدم شرعية تلك الحكومات تنافس النخب السياسية على السلطة وقيام الحروب الأهلية التي تدافع عن مصالح القيادات الحزبية وليس مصالح الشعوب، مما شكل حالة سخط شعبي على النخب الحاكمة. وقد أسهم ذلك في تصاعد مستويات العنف والجريمة التي نتجت عن الفقر وفساد السلطات السياسية.

وقد تزايد تصاعد العنف والصراع والجريمة على مدى العقدين الماضيين، متجاوزا الحدود الوطنية لتلك الدول فارضا تحديات كبيرة داخل وخارج المنطقة على حد سواء. ولعل أبرز بؤر العنف والكارثة الإنسانية تقع في منطقتي ليبتاكو- غورما، وحوض بحيرة تشاد الإقليمية.

لقد أدى سقوط الدولة في ليبيا عام 2011 إلى ازدياد انتشار السلاح في منطقة الساحل، حيث تدفقت الأسلحة من هناك بسبب غياب نفوذ نظام معمر القذافي في المنطقة. كما أدى تدفق المتطرفين إلى شمال دولة مالي إلى إشعال تمرد "الطوارق" الذين كان مسلحوهم في حالة خمود لسنوات عدة، حيث يمثل الطوارق 10 في المئة فقط من سكان مالي، وهم منظمون في إطار "الحركة الوطنية لتحرير أزواد"، ويسعون إلى إقامة دولة مستقلة. ويرتبط "الطوارق" بتحالفات مع مجموعات إسلامية متعددة، بما في ذلك تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، و"حركة الوحدة والجهاد في غرب أفريقيا" و"أنصار دينيتو"، تدفع القوات الحكومية للخروج من الشمال.

لقد أطيح بالرئيس المالي أمادو توماني توري في انقلاب مارس/آذار 2012 من قبل الجيش الذي عزا أسباب الانقلاب إلى فشل الحكومة في قمع التمرد. وقد أدى الانهيار اللاحق لمؤسسات الدولة في الشمال إلى تمكين "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" (الطوارق) من الاستيلاء على العواصم الإقليمية لغاو وكيدال وتمبكتو، وكانت الجماعة قد أعلنت استقلال أزواد في شمال مالي بحلول أبريل/نيسان 2012.

الاتحاد الأوروبي قلق من تزايد نفوذ المتطرفين في أفريقيا بسبب القرب الجغرافي

تنظيم "داعش- ولاية غرب أفريقيا"

في 10 سبتمبر/أيلول 2021، كتب ستيفن سيمون ودانييل بنجامين لـ"معهد كوينسي" بواشنطن مقالا بعنوان "نهج أكثر ذكاء في مكافحة التطرف أصبح في متناول اليد الآن"، ومن أبرز ما جاء فيه: "تعد منطقة الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا حاليا أكثر نطاقات الجهاد نشاطا، وغالبا ما تكون الخيار الاستراتيجي لتلك الجماعات العنيفة في هذه المناطق أن تنضم إلى تنظيمات معروفة مثل القاعدة، أو داعش".

في نيجيريا حيث تنشط جماعة "بوكو حرام" منذ عام 2002، قامت الجماعة بمبايعة تنظيم "داعش" في 2015، وغيرت اسمها إلى "الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا". وبالرغم من بعض الانشقاقات في الجماعة، فقد نجح "داعش" في القضاء على المنشقين، ففي عام 2021 قتل "تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا" زعيم الجماعة المنشقة في نيجيريا، واستولى على الأراضي التي كان يسيطر عليها المنشقون مجبرا إياهم على الفرار إلى مناطق نائية بالقرب من بحيرة تشاد. ومنذ ذلك الحين، فرض "داعش" سيطرته على شمال شرقي نيجيريا وأجزاء من دولة النيجر.

في هذا الصدد، أشار تقرير الأمم المتحدة الصادر في 11 يناير/كانون الثاني 2021 إلى الهجمات الإرهابية الأخيرة التي نفذها تنظيم "داعش- ولاية غرب أفريقيا" بأنها فاقت في وحشيتها تلك الهجمات التي نفذتها حركة "بوكو حرام". وقد نشر معهد "بروكنغز" في قطر بتاريخ 30 أغسطس/آب 2021 تقريرا بعنوان "عشرون عاما بعد 11 سبتمبر... تصاعد الإرهاب في أفريقيا". أشار فيه إلى ازدياد نشاطات المنظمات "الجهادية" مثل "أنصار الدين"، و"حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا" بالتزامن مع تمرد "الطوارق" في شمال مالي عام 2012. ومن العوامل التي ساهمت في "التمرد الجهادي": البحث عن هوية عالمية، والبحث عن هدف يوحد الشباب المهمشين والمحبطين، وسط انهيار الهياكل الأسرية التقليدية.

في هذا الصدد، كتب مارك لندلر في صحيفة "نيويورك تايمز" بتاريخ 10 سبتمبر 2021: "لم تفشل بعض العمليات الأميركية، كما حدث في دولة بوركينا فاسو الواقعة في غرب أفريقيا، في القضاء على التطرف فحسب، بل ربما أدت- دون قصد- إلى تفاقمه". ولعل ما ورد في مقال لندلر يفسر موقف الولايات المتحدة الحذر من التدخل المباشر بضرب الجماعات المتطرفة في دول الساحل الأفريقي. وفي المقابل، فإن الموقف الأميركي قد يعطي تلك الجماعات مزيدا من الفسحة في تطوير قدراتها القتالية.

وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، نشرت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية تقريرا أشار إلى كون "التمرد الإسلامي" في منطقة الساحل الأفريقي هو الأسرع نموا في العالم. وقد تطرق تقرير "الإندبندنت" إلى ارتفاع حدة التطرف في القارة الأفريقية وتحديدا منطقة الساحل، مما أدى إلى ارتفاع تصنيف الخطر في القارة الأوروبية. يرجع ذلك لكون زيادة حدة التوترات في أفريقيا التي تحوي خزانا بشريا في مجتمعات بدائية كفيلا بأن يساهم في زيادة حدة التوتر في مناطق شرقي أوروبا التي تطرق لها تقرير "الإندبندنت" الذي خص بيلاروسيا وبلغاريا والبوسنة، بزيادة التطرف على أراضيها. وهذه مناطق لها تاريخ في التطرف، وخاصة البوسنة التي كانت مسرحا للمقاتلين الذين انتقلوا إليها من أفغانستان في فترة التسعينات.

من الواضح أن الاتحاد الأوروبي قلق من تزايد نفوذ المتطرفين في أفريقيا، وذلك بسبب القرب الجغرافي؛ فالقارة السمراء لها تاريخ طويل في الهجرة غير الشرعية شمالا نحو أوروبا. وهذا ما يفسر كون القلق الأوروبي أكبر بكثير من الأميركي الذي يتعامل مع الأمر بوصفه قضية استراتيجية أكثر منها أمنية عاجلة.

وبحسب مقال طارق الشامي في "الإندبندنت-العربية" بتاريخ 29 مايو/أيار 2022، فإن من أبرز دلائل امتداد التهديدات الإرهابية لتنظيم "القاعدة" أو الجماعات المنتسبة له في أفريقيا، موافقة الرئيس بايدن في مايو 2022 على نشر قوات أميركية خاصة في الصومال لمواجهة التهديد المتزايد هناك من "حركة الشباب" التابعة لـ"القاعدة".

يسعى "داعش" إلى الهيمنة على أكبر مساحة من أفريقيا دون مراعاة لمبدأ الأيديولوجيا التي يتبناها

في 29 نوفمبر 2021 نشر موقع "فورين بوليسي" تقريرا بعنوان "أوغندا والكونغو في حالة حرب مع تنظيم الدولة الإسلامية"، والذي تناول فيه تصاعد نشاطات "داعش" في أفريقيا ومقارنتها بالوضع في أفغانستان في أعقاب الانسحاب الأميركي وتصاعد نشاط "داعش خراسان". وقد احتوى التقرير على بعض الفظائع التي يقوم بها أعضاء "تنظيم الدولة في أفريقيا"، والتي تضمنت الإعدامات بقطع الرؤوس في الشارع، وتسجيلها.

ثمة مفارقة هامة في الوضع في أوغندا والكونغو، حيث ينشط تنظيم أطلق على نفسه اسم "القوات الديمقراطية المتحالفة" يتبنى العنف في تسيير أموره ومواجهة خصومه. تكمن المفارقة في اعتراف "داعش" بانتماء هذا التحالف له في نهاية عام 2018، أن اعتراف "داعش" بتنظيم يطلق على نفسه صفة الديمقراطية أمر يبدو غريبا، غير أنه يفسر برغماتية التنظيم، حيث يسعى للهيمنة على أكبر مساحة من القارة دون مراعاة لمبدأ الأيديولوجيا التي يتبناها (فالخلافة الإسلامية بعيدة عن العناوين العلمانية، وعلى رأسها الديمقراطية). يذكر تقرير "فورين بوليسي" أن "القوات الديمقراطية المتحالفة" قد سبق لها التواصل مع الجماعات الإرهابية التي تطلق على نفسها صفة "الإسلامية" في الفترة بين 2016-2017، ومن أبرز تلك الجماعات المذكورة جماعة "مدينة التوحيد والمجاهدين" والتي ترفع علما شبيها بعلم تنظيم "داعش".

انسحاب قوات حفظ السلام من مالي من شأنه أن يزيد من وتيرة العنف في المنطقة

انسحاب القوى الغربية

في الربع الأول من عام 2022، قررت فرنسا الانسحاب من مالي بعد أن قتل يحيى جوادي الشهير بـ"أبو عمار الجزائري"، وهو قيادي بارز في تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، حيث كان يشرف على الشؤون المالية واللوجستية. ولعل أبرز أسباب ذلك الانسحاب يرجع لتزايد نشاط مجموعة "فاغنر" المقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي تنشط في جمهورية مالي ولها تعاون مباشر مع المجلس العسكري الحاكم في باماكو. وقد حذت بقية الدول الأوروبية التي تنشط في مالي حذو فرنسا، حيث سحبت الدنمارك قواتها الخاصة من مالي بعدما أعلن المجلس العسكري في باماكو أن تلك القوات غير مرحب بها. وقد أثر انسحاب فرنسا وشركائها الأوروبيين من مالي على عمل بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي.

ولأن انسحاب قوات حفظ السلام من شأنه أن يزيد من وتيرة العنف في المنطقة ليس فقط على مستوى الجماعات الإرهابية، بل حتى المؤسسات الحكومية التي يتزعمها قادة لهم أجنداتهم الشخصية والفئوية، فقد أشارت عدة تقارير لتورط القوات الحكومية في كل من مالي وبوركينا فاسو في ارتكاب مذابح ضد المدنيين في الدولتين.

US Air Force photo by Staff Sgt. Enrique Barcelo
قوات العمليات الخاصة الأميركية قبل الصعود على متن طائرة حربية لإجراء مهمة في الصومال

كما اتهمت الأمم المتحدة الجيش المالي بإعدام 500 مدني خارج إطار القانون في مارس 2022، وبأنها استعانت بمقاتلين مجهولي الهوية لمساعدة الجنود في إتمام هذه المهمة. يضاف لذلك أن انسحاب القوات الدولية المدربة يعطي فرصة للجماعات المتطرفة في الاستحواذ على المواقع العسكرية التي توجد فيها قوات حكومية ضعيفة التدريب، تماما كما جرى في بوركينا فاسو وما تلاه في مالي.

وجود ولايتين لـ"داعش" لا يعني التنسيق بينهما بقدر ما يعني تقاسم النفوذ

داعش غرب أفريقيا"... و"داعش الصحراء الكبرى"

قام التنظيمان بمعزل عن بعضهما البعض قبل أن يندمج "تنظيم الصحراء الكبرى" (يعرف كذلك بـ"داعش الساحل الأفريقي") مع غرب أفريقيا في الفترة بين مارس 2019 إلى مارس 2022. وقد عاد "تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" للنشاط بوصفه ولاية مستقلة تدين بالولاء لـ"دولة الخلافة الكبرى". ولعل الانقسام بين الفصيلين يرجع للسياق الثقافي السياسي للقارة الأفريقية التي عرفت بالصراع على الزعامات الجغرافية وبأن القائد يجمع تحت لوائه مجموعة من المقاتلين الذين يدينون بالولاء له شخصيا. إن ما يجري لدى التنظيمات المتطرفة لا يختلف كثيرا عما يجري لدى القادة العسكريين في تلك المنطقة، والذين يتحينون الفرصة للانقلاب على بعضهم البعض.

إن البعد الجغرافي بين الفصيلين يشجع على الانقسام الإداري. لذلك، ليس من المستغرب أن تنشط تنظيمات أصغر حجما وأضيق نطاقا. فما زالت "القاعدة" تنشط في القارة الأفريقية تحت عدة تسميات، منها "أنصارو" (Ansaru) شمالي نيجيريا، والذي يرفع شعار "حماية المسلمين" في أفريقيا السوداء. تشكلت في الأصل كجناح تخصص في عمليات الاختطاف مقابل فدية لجماعة "بوكو حرام" التي انفصلوا عنها في عام 2012، ويمتد نشاطهم خارج نيجيريا ليشمل بنين. والقائمة تطول بتلك الجماعات المتناثرة في القارة والتي تنشط بوصفها قوى فاعلة غير حكومية (non-state actor). على سبيل المثال: جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، و"القاعدة في المغرب الإسلامي"، و"فصيل شيكاو"، و"الشباب" (الصومال)، و"التوحيد والجهاد"، و"لواء الملثمين"، وغيرها.

AFP
سيارة جيب تابعة لـ"داعش" في غرب أفريقيا

إن وجود ولايتين لـ"داعش" لا يعني التنسيق بينهما بقدر ما يعني تقاسم النفوذ. وإذا كان "تنظيم الدولة في غرب أفريقيا" يؤثر على المنطقة المطلة على المحيط الأطلسي وخليج غينيا، فإن "تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى" والذي يمتد على طول الساحل الأفريقي هو الأخطر، نظرا لاتساع المنطقة الجغرافية التي ينشط فيها، إضافة للظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها سكان المنطقة والتي تشجع على الانضمام للتنظيمات المتطرفة.

تميز "تنظيم الدولة الإسلامية في الساحل" بمرونته في التعاون مع الجماعات المتطرفة بحسب ما تقتضيه المصلحة. فقد نشط التنظيم بقيادة أبو وليد الصحراوي (قتل في 17 أغسطس 2021) في التعاون مع الجماعات المرتبطة بـ"تنظيم القاعدة". وقد أتاحت العلاقات بين الصحراويين وأعضاء جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" لتفادي التضارب العملياتي، وحتى التعاون بين المجموعتين.

الفقر الاقتصادي الذي ترزح تحته المنطقة يصاحبه فقر في التعليم والوعي

"داعش الساحل" حالة خاصة

عند الحديث عن الجماعات الأفريقية المتطرفة التي تطلق على نفسها صفة "الإسلامية" يجب الأخذ بعين الاعتبار كون قياداتها وكوادرها محلية بنسبة تكاد تكون كاملة. على عكس بقية ولايات تنظيم "داعش" الذي يقوم على تجميع المقاتلين الأجانب في بقعة جغرافية معينة، فإن "داعش الساحل" يستقطب المقاتلين من المجتمعات التي يسيطر عليها مما يكسبه شرعية اجتماعية وتعاطفا من الأهالي الذين لديهم أقارب يقاتلون في التنظيم.

إن الفقر الاقتصادي الذي ترزح فيه المنطقة يصاحبه فقر في التعليم والوعي. لذلك فإن شعوب المنطقة عرضة لتفسيرات ضيقة للشريعة فيما يتعلق بمفاهيم مثل "الولاء"، و"البراء"، و"العدالة". نستذكر هنا التسجيلات التي انتشرت لـ"حركة الشباب" في الصومال وهم ينفذون حد السرقة في رجال يبدو عليهم الفقر. ظهر في تلك التسجيلات تجمع بعض الأهالي الذين بدا عليهم الترحيب بفكرة تنفيذ العقوبات الجسدية على مخالفي قوانين الشريعة. يحدث ذلك في دول تعيش تحت خط الفقر الذي من أحد مسبباته الفساد المالي والإداري لتلك التنظيمات المتطرفة التي تسيطر على مناطق الساحل الأفريقي.

لقد نجح قادة ووعاظ التنظيمات المتطرفة كـ"حركة الشباب"، و"داعش" في الساحل الأفريقي، في إقناع كثير من الأهالي بفكرة أن العدالة تبدأ بعقاب اللصوص الصغار، هذه الفكرة تلقى صداها في المجتمعات البدائية التي غيب الجهل عنها أن تطبيق الشريعة أوسع من مجرد قطع يد السارق أو رجم الزاني أو إعدام المرتد. لكن التنظيمات المتطرفة العاجزة عن توفير الرخاء لمحكوميها تقوم بدغدغة مشاعرهم بأن طريق العدل يبدأ من خلال تنقية المجتمع من الفساد الأخلاقي. ولعل كون القادة والكوادر الذين ينفذون تلك الأحكام المتشددة من أبناء تلك المجتمعات- أو يشبهونهم في الشكل- أمر يساعد في زيادة تقبل تلك الأحكام، أو السكوت عنها. لا نجد هذا في بقية ولايات "داعش" التي يسيطر عليها الأجانب سواء على مستوى القيادة أو الكوادر.

لأفريقيا تاريخ في معسكرات التدريب المتطرف في مناطق مثل الصومال وإريتريا

لماذا القلق من هذه المنطقة؟

تهدد القوة المستمرة والمتنامية للمنظمات المتطرفة العنيفة في منطقة الساحل بتفاقم الأزمة الإنسانية ونشر عدم الاستقرار في جميع أنحاء أفريقيا، مما يشكل مخاطر أمنية ومالية كبيرة على بقية دول العالم. وقد أدى الانهيار الوشيك للدعم الدولي لمكافحة الإرهاب، فضلا عن إضعاف الجهود القيادية الإقليمية، إلى خلق فراغ يمكن أن يتوسع فيه التطرف العنيف. وقد استفادت مجموعة "فاغنر" الروسية (التي شاركت في القتال في عدة مناطق توتر ومنها سوريا وليبيا وحاليا تنشط بقوة في الساحل الأفريقي) بالفعل من هذا الفراغ. فقد انتقلت "فاغنر" إلى مالي وشنت عمليات عشوائية ضد المدنيين الماليين.

ويشكل التقارب بين المنظمات المتطرفة في منطقة الساحل ومجموعات المرتزقة (مثل "فاغنر") تهديدا من شأنه أن يؤدي إلى ازدياد التعاون بين المنظمات الإرهابية (وعلى رأسها ولايتا "داعش في غرب أفريقيا والصحراء") وجماعات الجريمة المنظمة التي تنشط في مجالات تهريب المخدرات والإتجار بالبشر. نستذكر في هذا الصدد التقرير المنشور في يناير/كانون الثاني 2023، حيث دعا خبراء الأمم المتحدة إلى إجراء تحقيق مستقل في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها القوات الحكومية ومجموعة "فاغنر" في مالي. وزعم الخبراء أن "مناخ الإرهاب والإفلات التام من العقاب" ارتبط بأنشطة مجموعة "فاغنر" في البلاد، مشيرين إلى مذبحة مورا في مارس 2022.

إن قارة أفريقيا هي المنطقة الأكثر إثارة للقلق بأن تكون الخزان البشري الذي يفرخ المقاتلين الجاهزين للسفر والقتال عبر الحدود، ولذلك قد تتحول تلك المناطق إلى بؤر استقطاب للمتطرفين للحصول على التدريب قبل أن ينتقلوا لتنفيذ عمليات في مناطق أخرى من العالم. ولأفريقيا تاريخ في معسكرات التدريب المتطرف في مناطق مثل الصومال وإريتريا.

font change

مقالات ذات صلة