المبدع والتعدد الثقافي

المبدع والتعدد الثقافي

إلى أي حد، ينفتح الشعراء، أو الفلاسفة والفنانون من مسرحيين وسينمائيين وتشكيليين وروائيين وغيرهم، على بعضهم، يتبادلون تجاربهم وآراءهم وأعمالهم؟ هل تكفي ثقافة كل من هؤلاء لتغْتَني نصوصهم، أَمْ أن كل جنس من هؤلاء يكتفي بثقافته الخاصة: الشاعر يكتفي بالشعر، والفيلسوف بالفلسفة، والروائي بالرواية؟

من خلال نشاطاتي المسرحية في عشرات المهرجانات، قلما شاهدت زواراً من أنواع أخرى، يتابعون أو يهتمون، بهذا الجزء من الإبداع. ويمكن هنا إدراج الآخرين المختلفين، كل على حِدَة منغلق على نفسه، أو على هاجسه وميراثه وتخصصه.

قال بعضهم: إن كثرة الانفتاح على النتاجات الأخرى قد تؤثر سلباً على صاحبها. فالفنان التشكيلي يخشى من أن يفقد هُويته إذا اهتم كثيراً أو قليلاً بالرواية أو الفكر أو الآداب. إذن كانت هناك بين الإبداعات المختلفة أسوار وحدود مغلقة. هذا ما يمكن تلمسه من الواقع (باستثناء أعداد صغيرة).

فمن خلال مناقشات مع عدد من المبدعين المختلفين في ثقافتهم، تكتشف أن، كلا منهم مرتبط بموقعه، وأن الحديث يشكو فراغات وسوء تفاهم. لكن ألم يُقَل إن الفنون والآداب منفتحة على بعضها، تعطي بقدر ما تأخذ؟ أَلَمْ يُقَل إن الأديب الذي تقتصر علاقته بالأدب، يفقد خزاناً من الأفكار والصور والمتعة من الرسوم واللوحات، والألوان والبنيات؟ والشاعر الذي يعزل نفسه في الشعر ألا يفقد عناصر أساسية من الفلسفة، ويستل منها ما يستل، وتساعده على التعمق في عمله، وخصوصاً في ما يتصل بالبنية ومقاييسها وإيقاعاتها وضبطها مستفيداً من "عقلانية" الفلسفة لشحذ قصيدته، حتى الغنائية منها، بل حتى السوريالية؟

قلما نجد من فلاسفتنا العرب المعاصرين، مَن تناول من موقعه شعراء أو فنانين أو مسرحيين


لو عدنا إلى التجارب الغربية، لوجدنا أن بعض الفلاسفة والمفكرين شعراء: كنيتشه، وجبران، وفي الجاهلية زهير بن أبي سلمى، وفي العصر العباسي أبو العلاء المعري، وأن المتنبي استفاد من الفلسفة اليونانية والدينية، من دون أن ننسى المفكر الكبير والشاعر بول فاليري.

ونتذكر أن الفيلسوف الألماني الكبير هايدغر (أستاذ سارتر) قدم أهم دراسة عن الشاعر الألماني هلدرلن. وأن المفكر الفرنسي دولوز هو من أهم من تناولوا الشعر الفرنسي والعالمي. في المقابل قلما نجد من فلاسفتنا العرب المعاصرين، مَن تناول من موقعه شعراء أو فنانين أو مسرحيين، كأنما يتركون هذه المهمة للأساتذة المتخصصين في الأدب أو في تاريخه أو في نقده، سواء ضمن مدارس نقدية أو من دونها، فتبدو كتاباتهم مفتقرة إلى عوامل مهمة.

وهل ننسى الحروفية العربية كيف امتزجت مع كبار الفنانين باللوحة، أو بالرسمة، وهل ننسى أثر اللوحة التشكيلية في السينوغرافيا المسرحية؟ وهل ننسى الصورة السينمائية وأثرها في بعض الشعراء، وهل ننسى كَمْ خدم الأدب الفنون الأخرى؟ وكلنا يعرف، أن مجمل الفنون البصرية والكتابية، تلتقي في الشعر أو في الرواية، أو الرقص، أو الفن.

ثمة روابط عميقة، تجمع كل هذه الفنون والآداب والفكر، وإهمال بعضها، واكتفاء كل مبدع باختصاصه، يؤدي إلى فقْر في المخيلة، وفي طرق المعالجة وفي التجديد، وهكذا يقع العديد من الكتاب والفنانين في التكرار، أو في النضوب، أو في الوهن، فهي أن التقت أخصبت بعضها، وإن افترقت أفقرت بعضها. لا نقصد أن يكون الشاعر مثلاً فيلسوفاً أو رساماً، أو مخرجاً مسرحياً أو أي شيء آخر غير موهبته، ليس هذا المطلوب. بل إن التجربة الإنسانية والاجتماعية العمومية والخاصة، من الصعب أن تستمر، بقوتها وجسارتها وتجربتها وتنوع مراحلها، من دون أن تغرف من كل شيء في الواقع، وهذا يلبي تنوعها وعمقها وغموضها وتوهجها.

هل يُقدر المسرحي كمْ يفوته في عمله إذا أهمل مثلاً السينما، والفن التشكيلي، وحتى الرواية؟ فالمسرح عملية شاملة تتضمن الحوار (السرد)، والديكور (الشكل)، والصوت والحركة (الكوريغرافيا)، واللفظ (مخارج الحروف) أي الأدب، والجمالية (الصورة)، والعمق (الفلسفة)، أي الفكر والمجتمع.

ألا يضجر الكاتب أو الشاعر، سواء تأبط أحد المذاهب الأدبية أو الفنية، من نفسه عندما يكتب نصاً يكرره كل حياته؟


بل أكثر أن هذه الثقافات المتعددة، التي تتباعد عندنا (أو تلتقي مصادفة أو فردية) تساعد كثيراً على تجاوز "القصيدة الواحدة" أي الأسلوبية، كأن يرتضي الشاعر أو الفنان، أو حتى الفيلسوف، بالنموذج الأحادي يكرره، أو يجتره، فكأن نتاجه وإن كان غزيراً لا يكون إلا في وجهة واحدة: فالإكثار من المرجعيات المتناقضة هي التي توحي (عن وعي أو غير وعي)، بخروج المؤلف أو الكاتب من سهولة النمطية الواحدة أو المناخ الواحد، فتقرأ كل كتبه أو أعماله، وكأنك قرأت كتاباً واحداً. ألا يضجر الكاتب أو الشاعر، سواء تأبط أحد المذاهب الأدبية أو الفنية، من نفسه عندما يكتب نصاً يكرره كل حياته؟ فتفجير المراحل عند الأدباء والفنانين، مرتبط بتفجر القراءة، أو المقابسة. فالسوريالي إذا اكتفى ببيانات أندريه بريتون "المقدسة" يكتب وكأنه يصوغ قاعدة واحدة أو قصيدة واحدة، معروفة سلفاً. وهذا يجري مجرى عثور كاتب أو شاعر على منحىً جديد، وبدلاً من أن يطوره ويعمقه يقلده. أي يقلد نفسه، وتقليد النفس سواء برَعَ فيها هذا أو ذاك، تطمس كل الاعتمالات الواسعة، والتجارب المتنوعة.

إن هذه الأفكار التي سِقتها قد تبدو بديهية عند شعراء أو كتاب أو فنانين عديدين، لكن أهم الأسباب التي جعلتني أعاودها هو الواقع الذي يعيشه الجيل الجديد من الكتاب والشعراء وسواهم، والتي توحي أن كثيراً منهم، إما يكتفي بقراءة الشعر إذا كان شاعراً، أو بالمسرح إذا كان مسرحياً، خصوصاً توقفهم عند أول تجربة ثم تكرارها، أو حصر اهتمامهم بنوع من النص، وبجزء من الثقافة، يكررونهما، وينصرفون عن مجمل التجارب الشعرية منذ الجاهلية وحتى جيل الستينات والسبعينات: فالتراث اللغوي في الشعر العربي، مهم جداً وفريد جداً، ولا يمكن أي كاتب أن يجافيه أو يهمله، إنه خزان من الأساليب وثراء اللغة والقصائد المهمة. فانفتاحهم على تجربة واحدة (تأثروا بها) من خلال مَنْ سَبَقَهم هي "مقتلهم"، ومن الضروري أن يتناولوا كل النصوص والتجارب لكي لا يقعوا في الاتباع الأحادي بديلاً من تعدد المحاولات والنصوص.

font change