التمدد الإيراني... من المسؤول؟

التمدد الإيراني... من المسؤول؟

يكرر الكثير من الكتّاب والسياسيين العرب تحميل إيران مسؤولية كثير من المصائب التي نزلت بالدول والمجتمعات العربية في العقود الثلاثة الماضية على الأقل. المسؤولية هذه تحملها، وبأقلام وتصريحات الكتاب والسياسيين أنفسهم أو من يشبههم، كل من إسرائيل والغرب. بيد أن هؤلاء يفوّتون السؤال الأبسط والأبرز في آن واحد: لماذا نجحت إيران وغيرها في إلحاق هذا القدر من الأذى بنا وفشلنا نحن في الدفاع عن أنفسنا؟

لا جدال في أن إيران ومنذ سقوط صدام حسين في 2003، فعلت في محيطها كل ما في وسعها لتدرأ عنها خطرين: أن تتجنب قتال الولايات المتحدة أو إسرائيل على أرضها، أو أن تحول دون ظهور جار آخر يفعل ما فعله الرئيس العراقي الذي شن حربا مريرة وطويلة. فقد بنت ميليشيات من الأتباع. أسقطت حكومات. اغتالت شخصيات عارضت خططها. أنشأت شبكة من الولاءات تمتد بعيدا وعميقا في الشرق الأوسط وخارجه.

الدفاع البعيد عن أراضي إيران (ومن ضمنها المشروع النووي وما يتفرع عنه) ومنع تكرار الحرب مع أي دولة في المحيط المباشر، تطلبا نشوء مركز إمبراطوري إقليمي صارت له مصالح وحسابات كبيرة ومعقدة تتطلب إنشاء جيوش من الوكلاء، استثمرت طهران في تسليحهم وتدريبهم مليارات من الدولارات على امتداد عقود، وبادلوها "الإحسان" بالولاء والطاعة والسير في مشروعها ولو على حساب مصالحهم الوطنية.

هؤلاء يفوّتون السؤال الأبسط والأبرز في آن واحد: لماذا نجحت إيران وغيرها في إلحاق هذا القدر من الأذى بنا وفشلنا نحن في الدفاع عن أنفسنا؟ 

يذكّر السؤال عن نجاح الآخرين والفشل العربي، بسؤال راج أثناء عصر النهضة العربية بين أواسط القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين عن "تقدم الغرب وتأخر الشرق" أو صيغ أخرى من السؤال ذاته: إنهم يتطورون ويتقدمون ونحن باقون على تخلفنا. 
في واقع الأمر، لا مفر من استرجاع نمط التساؤل ذاته عند التأمل في الدور الإيراني في الدول العربية في الأعوام الثلاثين الماضية. لقد خرجت إيران من الحرب مع العراق مدمرة ومنبوذة فيما كان العراق محاطا بدول عربية احتفلت بانتصاره في دفاعه عن "بوابة العرب الشرقية". لكن الصورة تغيرت سريعا بعد مغامرة صدام حسين المجنونة بغزو الكويت وإدخاله بلده في متاهة لا آخر لها من الحروب والانقسامات لا تزال قائمة إلى اليوم، من جهة، مقابل نجاح إيران في إعادة إعمار نفسها من خلال التفافها على عوائق صممت لإحباطها و"احتوائها" (بحسب التعبير المستخدم في الأدبيات السياسية الغربية). الكثير من التفاصيل الدقيقة يجب الالتفات إليها هنا لعدم السقوط في استنتاج متسرع. 
لكن، ومهما يكن من أمر، فإن المقالات الرائجة والتصريحات المنتشرة اليوم، تحمل المشروع الإيراني الإقليمي وتقديم طهران مصالحها على أي هم آخر من نوع استقرار المنطقة وازدهارها. العراق ولبنان واليمن وسوريا أمثلة جاهزة للإشارة إلى الاستغلال الإيراني المفرط للانقسامات الطائفية والأهلية من أجل بناء درعها بعيد المدى وحماية نفسها من أعدائها على حساب الآخرين. 
بيد أن أمثلة إضافية لا تدخل ضمن السياق هذا. لا علاقة لإيران بالحرب الدائرة في ليبيا منذ عشر سنوات ولانسداد أفق الحل السياسي فيها. والصلات التي أقامتها طهران مع النظام السابق في السودان لم تؤد أي دور في اندلاع الحرب الأهلية الحالية بين الجيش و"قوات الدعم السريع". 

يندرج إلقاء اللوم على إيران في كل صغيرة وكبيرة من مشكلاتنا ومصائبنا، في الأسلوب ذاته من تحميل الآخرين مسؤولية تقصيرنا في حق ذاتنا

للبحث عن إجابة معقولة، تتعين العودة إلى التاريخ القريب للدول التي تفرض إيران عليها همينتها حاليا. لم يكن النظام الإيراني قد قام عندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان. وسلسلة الانقلابات في سوريا واتجاه النظام فيها إلى مأسسة السيطرة الطائفية فيه سبقت عودة الخميني من باريس إلى إيران. والانتفاضات الكردية في العراق لم تكن صناعة "الحرس الثوري الإيراني" (وإن تدخل فيها نظام الشاه قبل أن يخذلها شر خذلان لاحقا) ناهيك عن المذابح ضد الآشوريين والكلدانيين واقتتال حزبي "البعث" و"الشيوعي"... إلخ. الشيء ذاته ينطبق على اليمن والتاريخ الحافل بالنزاعات الأهلية. 
بكلمات ثانية، يندرج إلقاء اللوم على إيران في كل صغيرة وكبيرة من مشكلاتنا ومصائبنا، في الأسلوب ذاته من تحميل الآخرين مسؤولية تقصيرنا في حق ذاتنا. الآخرون لا تنقصهم النوايا السيئة تجاه بلادنا ومواردنا. لكن النوايا والمخططات السيئة هي السمة المشتركة بين كل دول العالم حيال بعضها البعض. وإذا خطط الاستعمار لاحتلالنا ونجحت إسرائيل في استيطان أراضينا فهذا من طبيعة الأمور. السؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو: لماذا نجحوا في مخططهم وفشلنا في تداركه. 
في هذا السؤال والجواب، يقيم التفكير العربي منذ حوالي القرن ونصف القرن غير قادر على النظر إلى بيئته ومجتمعه واستخلاص مقومات فشله ونجاح أعدائه. استسهال التهرب من المسؤولية وعدم التمعن في بؤس المجتمعات وما ينتج من "نخب" سياسية، سيبقى مرافقا لنا لسنوات طويلة مقبلة.   

font change