"بنات ألفة" يروي حقبة "داعش" من زاوية الأنوثة المضطهدة

تجربة سينمائية تمزج بين التسجيل والتخييل

Courtesy of Cannes Film Festival
Courtesy of Cannes Film Festival
مشهد من الفيلم

"بنات ألفة" يروي حقبة "داعش" من زاوية الأنوثة المضطهدة

يتأرجح فيلم "بنات ألفة" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، بين التسجيل والتخييل على نحو يصعب معه تصنيفه إن كان فيلما وثائقيا أم روائيا، فهو شريط سينمائي يجمع بين الأسلوبين ضمن ما يعرف باسم "الدوكيودراما"، لكن أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة الأميركية، التي تنظم جوائز الأوسكار وتمنحها، حسمت أمرها حين اختارت الفيلم، ضمن القائمة القصيرة لفئة الأفلام الوثائقية التي تضم خمسة أفلام فقط، للمنافسة على جائزة "أفضل وثائقي"، وهي الجائزة السينمائية الأرفع على مستوى العالم.

اختيار "بنات ألفة" ضمن هذه القائمة القصيرة، هو إنجاز جديد يحققه الفيلم الذي عرض أخيرا في عدد من المدن الألمانية، وكان الفيلم قد اختير ضمن برنامج المسابقة الرسمية في مهرجان كان السينمائي في مايو/أيار الماضي، وهو، كذلك، من أبرز المحافل السينمائية عالميا، كما نال الفيلم الجوائز والتكريم في مناسبات مختلفة منذ صدوره بدعم من جهات عدة بينها صندوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي في السعودية، وحصد الفيلم خلال عرضه في الدورة الثالثة من المهرجان السعودي، جائزة قناة "الشرق" لأفضل فيلم وثائقيّ (وهي أول نسخة من الجائزة التي استحدثت تزامنا مع الدورة الثالثة).

حكاية مكررة بمقاربة مختلفة

يطرح الفيلم، الذي تؤدّي دور البطولة فيه هند صبري، حكاية الأم التونسية ألفة الرحموني وهي أم لأربع بنات، تكتشف ذات يوم من عام 2014 اختفاء ابنتها المراهقة غفران التي انضمت إلى تنظيم "داعش" في ليبيا المجاورة، وسرعان ما تلتحق بها شقيقتها الصغرى رحمة، وهذه الأخيرة تزوجت من أحد المتهمين بتنفيذ هجمات إرهابية وهو القيادي الداعشي التونسي نور الدين شوشان وأنجبت منه طفلة سمتها فاطمة، قبل أن يلقى الزوج حتفه في غارة أميركية استهدفت منزلا في مدينة صبراته الليبية عام 2016، لتلقي السلطات الليبية القبض على رحمة وغفران ويُحكم عليهما، لاحقا، بالسجن لستة عشر عاما، ليبدأ نضال الأم ألفة في استعادة ابنتيها اللتين لا تزالان مسجونتين في ليبيا مع حفيدتها فاطمة التي كبرت في السجن.

 الجديد في "بنات ألفة" هو المقاربة المختلفة إن كان على مستوى المضامين أو السرد والمعالجة الفنية

تبدو حكاية الفيلم عادية ومألوفة فهي تتناول مسألة الراديكالية الدينية التي حولت تونس إلى خزان بشري لرفد الحركات المتطرفة، خلال ما سمي بـ"الربيع العربي"، ذلك أن مسألة التغرير بالشباب من الجنسين وتسفيرههم إلى بؤر التوتر أو بحسب أدبيات الحركات المتطرفة إلى "ساحات الجهاد"، طرحت في الكثير من المسلسلات والافلام خلال العقد الأخير، ولعل الفيلم الأشهر الذي طرح موضوعا مماثلا هو فيلم "زهرة حلب" للمخرج التونسي رضا الباهي الذي سرد في فيلمه الروائي قصة أم تونسية، تؤدّي دورها، كذلك، هند صبري، وتعيش مع ابنها الشاب الذي تطرف دينيا بعد دوامة نفسية خاضها وقرر السفر للجهاد في سوريا، فتقرر الأم البحث هناك لتقع أسيرة بيد تنظيم إرهابي.

Vera de Kok
المخرجة التونسية كوثر بن هنية

قد يكون الإطار الحكائي لفيلم بن هنية مماثلا لفيلم رضا الباهي، لكن الجديد في "بنات ألفة" هو المقاربة المختلفة إن كان على مستوى المضامين أو السرد والمعالجة الفنية، فالمخرجة بن هنية لا تقتفي أثر البنتين غفران ورحمة اللتين انضمتا إلى تنظيم "داعش" في ليبيا، ولا تظهر الأخطار التي تعرضتا لها خلال عملية الفرار من المنزل، ولا تتوه في غبار المعارك، ولا ترصد المصاعب التي اعترضت سبيل البنتين لدى الوصول ومشاعر الندم التي ربما انتابتهما، أو مشاعر التحدّي والإصرار على المضي في خياريهما... تتجاهل كوثر بن هنية كل هذه التفاصيل لتعود إلى جذور المعضلة، إلى الأم المكلومة وابنتيها آية وتيسير اللتين لا تزالان ضمن رعايتها.

هنا في منزل الأسرة بمدينة سوسة، تغزل بن هنية خيوط فيلمها بعد أن تستعين بممثلتين هما إشراق مطر للقيام بدور غفران، ونور قروي للقيام بدور رحمة، كي يكتمل عقد هذه العائلة الذي انفرط تحت تأثير دعاية النسخة الأكثر تطرفا من الإسلام السياسي وهي "داعش".

بعيدا من أي إبهار بصري أو ديكورات مبالغ فيها، تصغي بن هنية إلى حكاية ألفة وبناتها، وتحاول دفعهن بكثير من الحذر والود إلى البوح والمكاشفة، وتستعين في بعض المرات بمقاطع فيديو من قنوات تلفزيونية كانت قد غطّت قصة الأم، كي تستكمل فصول هذه الحكاية التي راجت في الإعلام وأثارت جدالا واسعا.

Scott Garfitt/ALAMY
بطلات الفيلم والمنتج نديم شيخروحة في مهرجان كان السينمائي في جنوب فرنسا، مايو الماضي

من الواضح أن المخرجة بن هنية وخلال إنجازها الفيلم، لا تملك أجوبة مسبقة، أو مواقف جاهزة، ولا تثقل فيلمها بأي نوع من التلقين والوصاية، على الرغم من أن فيلما من هذا النوع يسهل وقوعه في فخ الأسلوب الوعظي المباشر، لكن بن هنية تظهر حرصا على الابتعاد عن أي معالجة نمطية، فيبدو أنها تتعرف إلى حكاية ألفة، بالتدريج، مثل المشاهد تماما، فهي ترغب في إشباع الفضول حيال حكاية هذه الأسرة من دون أن تتدخل كثيرا، إلى درجة أننا نسمع خلال الحوارات المؤثرة والجلسات المرحة أو الغاضبة أن ألفة وابنتيها والممثلات الثلاث، اللواتي يجسدن الأدوار أمام الكاميرا، يخاطبن المخرجة باسمها ويطلبن منها تعديلا هنا واقتراحا هناك وتوصية هنالك، في تجربة إخراجية مختلفة ونادرة تمزج بين المتخيل والواقعي، وتستحضر تفاصيل من الماضي كي نفهم حقيقة ما جرى. من هنا لا تنظر صاحبة "الرجل الذي باع ظهره" إلى فيلمها الجديد كمجرد فيلم، بل كـ"تجربة إنسانية غنية"، وفقا لتصريح سابق لها.

 كوثر بن هنية لا تملك أجوبة مسبقة، أو مواقف جاهزة، ولا تثقل فيلمها بأي نوع من التلقين والوصاية

وكان من الممكن اعتبار "بنات ألفة" عملا جديدا يضاف إلى سلسلة أعمال مماثلة تطرقت إلى موضوعة التشدد الديني، لولا مغامرة بن هنية في معالجة الموضوع بأسلوب غير تقليدي، عصي على التصنيف، وحافل بالعبارات الجريئة والمعبرة عن الجسد والجنس والأنوثة والهيمنة الذكورية فضلا عن مسائل دينية تطرح من وجهة نظر ألفة وبناتها... فتنجح المخرجة في ضبط إيقاع العمل، إذ عندما يتعذر على الأسلوب الوثائقي التعبير، تلجأ إلى الأسلوب الروائي المتخيل، والعكس صحيح. ففي بعض المشاهد التي تتطلب مهارات التمثيل تستنجد بن هنية بهند صبري أو بالممثل التونسي مجد مستورة (الذي يضطلع بكل الأدوار الرجالية في الفيلم) ويتم مثل هذا الانتقال من التوثيق الى التخييل دون إرباك في مونتاج الفيلم، بل يمكن القول إن ميزة الفيلم تكمن في هذا المزج المتماسك بين الأسلوبين، ناهيك بالتناغم الشديد بين البنات الأربع في الفيلم آية وتيسير، اللتين تجسدان شخصيتيهما الحقيقية، والممثلتين اللتين تجسدان دور غفران ورحمة... هؤلاء البنات الاربع يظهرن شقيقات حقا، ويخضن نقاشات مرحة ويرقصن ويغنين ويبكين ويغضبن ويعنفن بعضهن في مشاهد ولقطات محببة وشيقة تستعيد جانبا من ماضيهن الذي انتهى إلى المصير التراجيدي.

دوامة العنف

من المعتاد في فيلم من هذا النوع أن يتعاطف المخرج مع الأم في محنتها، لكن صاحبة "على كف عفريت"، لا تريد تلميع صفحة الأم وإظهارها ضحية فحسب، فهي بالقدر الذي كانت فيه ضحية كانت جلادة كذلك، ومسؤولة أيضا عن خيار ابنتيها، وهو ما يحيل على عنوان أحد كتب الراحل جورج طرابيشي "أنثى ضد الأنوثة"، واللافت أن الأم ألفة تملك من الشجاعة ما يكفي لتعترف أمام الكاميرا بأنها اخطأت في تربية بناتها، وبأنها كانت قاسية وعنيفة جدا معهن، وهي تقول إنها فعلت ذلك كي تمتلك بناتها شخصية قوية يواجهن بها مجتمعهن الذي لا يرحم، لكن هذه القوة استخدمت ضدها، كما تقول، مستشهدة بمثل يدعم رأيها "أعلِّمه الرمايةَ كلّ يومٍ/ فلما اشتدّ ساعدُه رماني"، في إشارة إلى أن ابنتيها قد غدرتا بها.

غير أن قسوة الأم تجاه بناتها، كما سنفهم من خلال مشاهد الفيلم، لم تأت من فراغ، فالأم ألفة عاشت في مجتمع ذكوري، تطغى عليه عادات وتقاليد بالية تنظر إلى الأنثى كـ"ضلع قاصر"، فقد عانت في طفولتها وصباها من سطوة أب متسلط كان يتحرش بها وبشقيقتها، كما تقول، ثم انتقلت السطوة إلى الزوج الذي كان يعاملها بسوء ثم طلقها وترك لديها أربع بنات يتطلبن الرعاية والاهتمام، وهو ما دفعها إلى العمل خادمة في البيوت في ليبيا، ثم تتزوج ألفة ثانية من أحد المدانين بجريمة قتل، لتتكرر فصول التعنيف والإذلال، بل إن هذا الزوج الجديد كان يستغل غيابها ليتحرش ببناتها الصغيرات.

غير أن قسوة الأم تجاه بناتها، لم تأت من فراغ، فالأم ألفة عاشت في مجتمع ذكوري، تطغى عليه تقاليد بالية تنظر إلى الأنثى كـ"ضلع قاصر"

هذه التفاصيل تقود إلى فهم الدوافع وراء خيارات المراهقتين غفران ورحمة، فلم يكن الأمر قناعة جوهرية بمبادئ التنظيم المتطرف، خصوصا أنهما كانتا في الخامسة عشرة (رحمة) والسادسة عشرة (غفران) عندما انضمتا إليه، أي أنهما كانتا في عمر لا يتيح لهما التمييز بين الخطأ والصواب. كان الانضمام هو نوع من الهروب من أسرة مفككة ومن الحياة الخانقة التي تعيشانها ومن الحرمان والفقر، وفي سنيهما الصغيرة كان يمكن بسهولة التغرير بهما، وهذا ما تدركه الحركات المتطرفة التي تختار الفرائس الأكثر ضعفا وهشاشة.

Courtesy of Cannes Film Festival
هند صبري في مشهد من فيلم "بنات ألفة"

يضاف إلى ذلك الفضاء العام في تونس الذي أعقب الثورة التونسية التي اندلعت في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 وسقوط نظام زين العابدين بن علي، الذي أفسح المجال لحركة النهضة الإسلامية كي تتسلم السلطة في البلاد وتتغلغل في مختلف مفاصل المجتمع التونسي، وأتاح المجال لأنشطة الإسلام المتشدد مثل الخيم الدعوية التي كانت تنصب في الشوارع تحت حراسة أمنية، وكانت غفران ضحية لأحد الشيوخ في تلك الخيم، وهذا ما يفسر جانبا من أن تونس غذت خزانا بشريا للكثير من الحركات المتشددة، وفي منتصف عام 2015، قدرت الأمم المتحدة أن أكثر من 5500 تونسي يقاتلون ضمن الجماعات الجهادية في سوريا والعراق وليبيا وغيرها.

مع ظهور تترات النهاية لا تنتهي قصة الفيلم، ذلك أن مأساة الأم لا تزال متواصلة، ففضلا عن ابنتيها المسجونتين اللتين تورطتا في قضية أكبر من مستوى وعيهما، فإن ما يثير الأسى هو فاطمة حفيدة ألفة المسجونة كذلك والتي تبلغ الآن نحو ثمانية أعوام ولم تر من هذا العالم الرحب سوى أربعة جدران، من دون أن تعي الذنب الذي ارتكبته.

font change

مقالات ذات صلة