"فيراري" لمايكل مان: حيث تختفي السرعة تنهار الدراما

اختيار سيئ لآدم درايفر وبينيلوبي كروز

AP
AP
مشهد من فيلم "فيراري"

"فيراري" لمايكل مان: حيث تختفي السرعة تنهار الدراما

السرعة هي موضوع فيلم "فيراري" 2023، للمخرج الأميركي مايكل مان، صاحب أفلام "لص" (1981)، و"حرارة" (1995)، و"جانبي" (2004). تدور أحداث الفيلم في عام 1957، وهو العام الذي ألغي فيه سباق "ميلي ميجليا"، وهو سباق دموي، كارثي، بطول 1000 كيلومتر بين المباني والمدن والطرق الضيقة والسريعة، تسبّب في موت تسعة مشجعين قريبين من سيارات السباق.

بارون السرعة في فيلم "فيراري"، الذي يأتي في الشهرة بعد البابا مباشرة، هو إنزو فيراري، المعروف بصناعة السيارات الحمراء الأكثر جاذبية في العالَم. يقول القس في قداس يجتمع فيه أبطال الفيلم، بأنه لو قُدِّر للمسيح العيش بيننا الآن ووُلد في بلدة صغيرة مثل مودينا، لعمل مثلكم في المعدن، أو الحديد، وليس في الخشب كنجّار. النجار صديق الخشب كما يقول جيل دولوز في كتابه "نهاية الفلسفة".

المعنى المقابل

نستطيع الانتقال سريعا إلى المعنى المقابل، أن إنزو فيراري، رجل الأعمال، والمحترف السابق في سباق السيارات، هو الراعي الرسمي لصداقة الحديد. يقوم المهندس الميكانيكي، صديق الحديد الحقيقي، ولم يعطه مايكل مان مساحة كافية في الفيلم، بتشكيل ونحت محرّك الفيراري بكمال أمثل، لتحقيق سرعة قصوى، تضعنا على بعد ثوان من الفوز بسباق، أو الموت.

يبدو أن اختيار آدم درايفر لم يكن موفقا، فهو ممثل يصلح فقط للأدوار الباردة، وليس للأدوار الحارة

يؤدّي الممثل آدم درايفر دور إنزو فيراري، ويبدو أن اختياره للدور لم يكن موفقا، فهو ممثل يصلح فقط للأدوار الباردة، وليس للأدوار الحارة، على سبيل المثل، كشخصية عملاق صامت، معدوم الرشاقة، في عالَم بيكيت القاحل. وليس غريبا أن أفضل أدوار آدم درايفر، دوره في فيلم "باترسون" 2016، للمخرج جيم جارموش، وهو المخرج الباقي من سلالة بيكيت الجمالية، أي مَنْ يعتمد في الدراما، الصمت الصقيعي، والكوميديا السوداء المتخشبة، والنهايات المبتورة.

يشرح إنزو فيراري، لابنه الصغير بيارو من عشيقته الممثلة شايلين وودلي في دور لينا، بحضورها الباهت في دراما الفيلم، طريقة عمل المحرّك، وكيف تؤدي الحركة المستمرة للوقود والهواء عبر نظام الاحتراق إلى دفع السيارة إلى الأمام. بيارو الصغير يريد أن يكون سائق سيارات سباق مثل أبيه، لكن الأب لم يفز في بداياته بسباقات كثيرة، فهو مثل ناشر كبير كان في بداياته نصف كاتب، نصف صديق للحديد، وصديق كامل للمال والأعمال.

AP
بينيلوبي كروز في العرض الأول لفيلم "فيراري"، في 4 ديسمبر 2023، لندن

عندما جاءت في فيلم "فيراري"، لحظة اختبار حرجة للممثل، وهي البكاء على موت ابنه من زوجته لورا، لم يستطع آدم درايفر، إنزال الدموع من عينيه، ولجأ إلى أسوأ حيلة في تاريخ التمثيل، وهي عصر الدموع الشحيحة بعضلات عينيه، وأطراف أصابعه. أيضا بصورة أقل، وفي مشهد بكاء آخر، لم ينفتح نبع الدموع، إلا بالكاد، في عيني بينيلوبي كروز التي تلعب دور لورا زوجة فيراري. في الحال يقفز إلى ذاكرة المُشاهِد، أداء بينيلوبي كروز في أفلام المخرج بيدرو ألمودوفار، مثلا في فيلم "العودة" (2006)، يأتمر النبع الحار، بأوامر ألمودوفار، فتقف الدموع في عيني بينيلوبي، وقفة استعراضية، ثم تسقط سلسة، واضحة، من دون رفة جفن.

كروز في دائرة ضيقة

وضع مايكل مان الممثلة بينيلوبي كروز في دائرة ضيقة من الغضب والكآبة والمرارة، في كل مشاهدها تقريبا، ربما كانت أمنية مايكل مان التي لم تتحقق، هي تحويل بينيلوبي كروز إلى نسخة ثانية من الممثلة الإيطالية الأسطورية آنا مانياني، عبر إهمال ملابسها، ومسحة الخشونة التي كانت تُميّز مانياني في أدوارها الشهيرة، مثل دورها في فيلم "ماما روما" (1962)، للمخرج بيار باولو بازوليني.

ربما كانت أمنية مايكل مان التي لم تتحقق، هي تحويل بينيلوبي كروز إلى نسخة ثانية من الممثلة الإيطالية الأسطورية آنا مانياني

لورا تحمّل زوجها فيراري مسؤولية موت ابنها دينو، وترفض أن يحمل ابنه الآخر بيارو من عشيقته لينا، اسم فيراري. خطأ آخر لمايكل مان في اختيار بينيلوبي كروز للدور، هو أنها ممثلة محجوزة للمخرج بيدرو ألمودوفار، كما كانت ليف أولمان ممثلة محجوزة للمخرج السويدي إنغمار برغمان، ومونيكا فيتي محجوزة للمخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، وكلاوس كينسكي محجوزا للمخرج الألماني فرنر هيرتزوغ.

هذا التقليد الأوروبي في السينما، لم تعرفه السينما الأميركية، مثلا المخرج الأميركي تيم برتون عمل كثيرا مع الممثل جوني ديب، لكنه لم يستطع احتجاز مواهبه، بل إن أفضل أدوار ديب كان تجسيده لشخصية القرصان جاك سبارو في سلسلة "قراصنة الكاريبي"، بينما اقتسم فرنسيس فورد كوبولا، ومارتن سكورسيزي، ومايكل مان، مواهب الممثل روبرت دي نيرو في أفلام "العرّاب" (1974)، و"سائق التاكسي" (1976)، و"حرارة" (1995).

ومع أن مايكل مان مخرج حركة وإثارة كبير في سينما هوليوود، وله قيادات لا تُنسى مع الممثلين، إلا أنه يتحمّل مسؤولية المقارنة الفنية المفروضة علينا كمشاهدين في كل مرة تعمل فيها الممثلة بينيلوبي كروز مع مخرج آخر غير بيدرو ألمودوفار.

أثناء تناول الطعام يحفّز إنزو فيراري السائقين، أصدقاء الحديد، بقوله عن السرعة في سباق السيارات: إنها شغفنا المميت، وفرحتنا الرهيبة. العبارة مأخوذة من السيرة الذاتية التي كتبها الصحافي الأميركي بروك ييتس في 1991 "إنزو فيراري: الرجل، السيارات، السباقات، الآلة".

عبادة السرعة

عبادة السرعة كديانة ثانية ليست غريبة على السينما الأميركية، وهنا يجد المخرج مايكل مان ضالته، ويتخلص أخيرا من الضعف الدرامي المتعلق بحياة إنزو فيراري الشخصية. اللقطات الخاطفة للكاميرا فوق أكتاف السائقين، وجوانب الإطارات، وقبضة الأيدي على ناقل السرعات. سيارات حمراء دموية تنهب المسافات، ورقصة مميتة للأقدام على دوّاسة الوقود والفرامل، وصوت محرك السرعة المتناغم مع زيادة ضخ الوقود، ومنحنيات الطرق التي تمثّل التحدي الأكبر، لتوازن رقصة الأقدام بين دوّاسة الوقود، ودوّاسة الفرامل.

المصور السينمائي اللامع إريك ميسرشميت يكمل ملحمة صوت المحركات، بالتقاط ضوء الشمس على وجوه السائقين في سباق "ميلي ميجليا"، وإريك هو مصور فيلم "مانك" (2020)، للمخرج ديفيد فينشر، ونال عنه جائزة أوسكار أحسن تصوير. لعب إريك في فيلم "فيراري"، على الظلال الضعيفة المرهفة للشمس الأوروبية الناعمة، طوال الثلث الأخير من الفيلم.

AP
نيون باتريك ديمبسي في دور بييرو تاروفي في مشهد من فيلم "فيراري"

يقول مايكل مان في مقابلة مع "ذي غارديان": "كنت حريصا على نقل هدير المحركات بمساعدة هينة من نيك ماسون، عازف الدرامز في فرقة بينك فلويد". يصمت مايكل مان قليلا ثم يقول مبتسما لمحاوره الكاتب والصحافي سيمون وورال: "إن سيارات فيراري تصدر صوتا ليس له مثيل في أي سيارة أخرى، إنه موسيقى. ولنقل تلك الموسيقى زرعنا 10 ميكروفونات في إحدى السيارات، وقمنا بقيادتها في الظروف المطابقة للفيلم، للحصول على صدى صوت المحركات".

يتعامل مايكل مان بشكل أفضل مع الخارجين عن القانون، المنعزلين، المجهولين، الذكوريين، المقدرين لصداقة الرجال

يقول الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو عن السرعة في كتابه "ست وصايا للألفية المقبلة": "إن السرعة المادية تأتي في المقدمة ثم تجلب معها سرعة الفكر، فتمنحنا فكرة عن المطلق". وفي رواية الكاتب الأميركي جاك كيرواك "على الطريق"، وفي الفيلم أيضا المأخوذ عن الرواية (2012) للمخرج البرازيلي والتر ساليس، يضع كيرواك في الآلة الكاتبة "ورقة رول"، طويلة لا تنتهي، لتحقيق المعادلة الساحرة بين سرعة الكتابة، وسرعة الفكر. وكأنّ حلم كيرواك في الكتابة، هو الضغط الجنوني على دوّاسة الوقود، والاستغناء نهائيا عن دوّاسة الفرامل.

أخرج مايكل مان في 2001 فيلم  "علي"، عن حياة الملاكم الشهير محمد علي كلاي، والآن فيلم "فيراري". إن عقبة الشهرة والمال في السيرة الذاتية لإنزو فيراري، ومحمد علي، وقفتْ حجر عثرة أمام صناعة فيلم بجودة فيلم "لص"، أو فيلم "حرارة". يتعامل مايكل مان بشكل أفضل مع الخارجين عن القانون، المنعزلين، المجهولين، الصارمين، الأخلاقيين، الذكوريين، المقدرين لصداقة الرجال، سلالة المخرج هاورد هوكس في أفلامه، مثل  "ريو برافو" (1959). الصداقة بين جون واين ودين مارتن، بنبلها وأخلاقيتها، هي نفسها الصداقة بين روبرت دي نيرو وفال كيلمر في فيلم "حرارة". أعلن مايكل مان أنه يعكف على تحضير فيلم "حرارة 2"، لكنه للأسف يفكر في إسناد بطولته الى الممثل آدم درايفر.

font change

مقالات ذات صلة