"برلين السينمائي"... 4 أفلام تخوض رحلة البحث عن الهوية

من كوفيد19 إلى الهجرة ودلالات الإرث الثقافي

BERNINALE PRESS KIT
BERNINALE PRESS KIT
فريق فيلم "المطبخ" في مهرجان برلين السينمائي

"برلين السينمائي"... 4 أفلام تخوض رحلة البحث عن الهوية

برلين: حظي الفيلم الأيرلندي البلجيكي "أشياء صغيرة كهذه" Small Things Like These، من بطولة نجم "أوبنهايمر" كيليان مورفي، إلى جانب إيميلي واتسن ومن إخراج تيم ميلانتس، والذي افتتح دورة هذا العام من "مهرجان برلين السينمائي"، بقدر لافت من الإعجاب، مقارنة بأفلام افتتحت فعاليات المهرجان في نسخه السابقة، وستكون لنا عودة لاحقة إلى هذا الفيلم، إذ أن قياس المستوى في هذا النوع من المناسبات يحتاج إلى قدر من التأنّي، فأفلام الافتتاح هي طبق الضيافة الأول، وتترافق مع اللقاءات الترحيبية والاحتفالات القصيرة بكبار الشخصيات الذين يقصدون المناسبة للحفل لا لمشاهدة الفيلم.

رويزبالاسيوس و"المطبخ"

أول أفلام المسابقة الرسمية هو "المطبخ" أو "لاكوزينا" للمخرج المكسيكي ألونزو رويزبالاسيوس أحد أكثر المخرجين إخلاصا للمهرجان من المشاركين في هذه النسخة، والذي قدم قبلها ضمن المسابقة الرسمية أفلاما بارزة مثل "مويسو" في 2018، و"فيلم رجل الشرطة" في 2021.

في "المطبخ"، يترك رويزبالاسيوس الأسوار المكسيكية ليستكشف نيويورك، لكنه يحافظ على الروابط الثقافية بين شخصياته. هذه المرة تطوف الكاميرا بين المهاجرين المحاصرين في مطبخ خلفي صغير ملحق بأحد مطاعم نيويورك.

يبدأ الفيلم مع طفلة مكسيكية تبحث عن رجل يدعى بيدرو في مطعم يدعى "الشواية" في نيويورك، لتتقدم لوظيفة. وبمجرد وصولنا إلى هذا الطاهي "بيدرو"، أحد العاملين خلف كواليس هذا المطعم الفاخر، ندخل في أجواء فيلم يغوص في أعماق فوضى المطبخ وصخبه، والأجواء المشحونة بين الرؤساء والطهاة الذين جلّهم من المهاجرين غير النظاميين. ومن هذه النقطة تتحول القصة لتكون عن حب بين بيدرو والنادلة الأميركية جوليا، لنعبر رفقة هاتين الشخصيتين دهاليز الكفاح والطموح الحالم داخل مأساة بطلها بيدرو.

يطفح فيلم رويزبالاسيوس بضعف الحبكة وتخبطها وسطحيتها، مقابل السعي الفارغ لإثارة الدهشة

إلا أن الفيلم يجسد بجدارة الإشكالية المشتركة للمخرجين المكسيكيين خارج المكسيك، إذ يطفح الفيلم بضعف الحبكة وتخبطها وسطحيتها، مقابل السعي الفارغ لإثارة الدهشة.

ذلك الابتذال في السعي نحو إحداث المستحيل في خلق مشهدية الفيلم، لا يخدم أي شيء سوى رفع النغمة على مستوى الصورة من دون أن يجد ذلك صدى في المضمون الذي يخلو إلا من إلحاح في التعبير عن الهامش من دون النجاح في هذا المسعى.

Juan Pablo Ramírez / Filmadora
مشهد من فيلم "المطبخ" أو "لاكوزينا"

تتجلى هذه المشكلة بوضوح في كيفية حضور المطبخ في السيناريو من دون أن يكون فاعلا في تطوير الحبكة، فالأحداث نفسها يمكن أن تدور في أي مكان آخر، مما يفقد عنوان الفيلم والمكان المختار لتدور فيه الأحداث أي قيمة مضافة، فلا نشهد تطورا في النسيج داخل أسوار المطبخ، وكأن الدوافع والأحداث الحقيقية تقع خلف الكاميرا، لا أمامها ضمن ما يراه المشاهد.

أساياس "خارج الزمن"

فيلم آخر ضمن المسابقة، يأتي من مخرج ذي مكانة عالية في عالم المهرجانات، الفرنسي أوليفييه أساياس، الذي يعود بعد غياب طويل مقارنة بمسيرته الحافلة التي تضم أكثر من عشرين فيلما.

استغرق الأمر خمس سنوات حتى يعود أساياس أخيرا بفيلمه الأحدث "خارج الزمن"  Hors du Temps الذي يروي فيه قصة المخرج إيثان، الذي نشاهده أثناء فترة حجر كوفيد19 في مكان مغلق يشاركه فيه عشيقته وأخوه وزوجة أخيه، لنشهد في هذا المكان المغلق، حفرا شخصيا وتأملا في نظرة إيثان نحو تاريخه وتفكيره وعلاقاته، بما في ذلك علاقته المتوترة بأخيه.

Carole Bethuel
مشهد من فيلم "خارج الزمن"

ما نراه في صميم الفيلم هو تجسيد واضح لصنعة السينما لدى أوليفييه أساياس، في الحفر الذي يسعى من خلاله إلى فهم عشقه للسينما والتاريخ، بالإضافة إلى تاريخه الشخصي، وذلك من خلال تصوير ينحو نحو الذاتية بقدر أفلام زوجته السابقة ميا هانسن لوف. لكنه هنا يُظهر تأملا شخصيا بجودة أقل بكثير من أفلام لوف، فتظهر النرجسية والذاتية المسرفة والاعتماد على المفارقات الشخصية مثلما تظهر في أفلام وودي آلن، إنما بطابع فرنسي. وفي عودة أساياس هذه، نرى المشكلة الفنية الناشئة من انطلاق المثقف في تداع ذاتي مطوّل يفرغ من خلاله أفكاره على نحو عشوائي، فتكون النتيجة عند المشاهد إحباط سينمائي لا أكثر. وهو إحباط يستدعي إلى الذهن نرجسية مخرج آخر هو أليخاندرو غونزاليس إناريتو الذي تورط الورطة نفسها في فيلمه "باردو " (2022) من دون أن يصل بفيلمه إلى ما يحفز اهتمام المشاهد.

نيلي فولاتز و"نم بعينين مفتوحتين"

أما أجمل أفلام المهرجان حتى الآن، فلعله يكون فيلم "نم بعينين مفتوحتين" للمخرجة الألمانية المولد واللاتينية الثقافة نيلي فلاوتز، الذي عُرض ضمن قسم "لقاءات".

تدور أحداث الفيلم في البرازيل، وتبدأ القصة بالفتاة كاي، الآتية من تايوان إلى البرازيل محطمة القلب بسبب انفصال حبيبها عنها قبل رحلتهما المقررة إلى أكبر دول أميركا الجنوبية. ومع وصول كاي تلتقي عديدا من الشخصيات المهاجرة والمستقرة في البرازيل، وتأخذ المصادفات والتقاطعات دورا في تشكيل حكايات أخرى، يتصدرها العمال الصينيون المستقرون هناك.

يتميز الفيلم بطابع الكوميديا الهادئة وحضور المكان كعنصر مؤثر في توجيه الأحداث بشكل شعري للغاية.

تثير ديوب أسئلة الإرث الثقافي والتاريخ الأفريقي والهوية المتأرجحة في مجتمعات ما بعد الاستعمار

يذكرنا ثالث أعمال فلاوتز (42 عاما) بفيلم "قطار الغموض"1989  Mystery train  لجيم جارموش، إذ نجد فيه شعورا بالاشتياق إلى زمن مضى داخل هذه التقاطعات، ولمحة عن الانتماء تمتزج مع التناقض الجميل النابع من محاولة التكيف مع كل التغيرات والخصوصيات الجديدة، وعلى الرغم من أن تصوير الزمن يبدو ملتبسا، فإن ما يبقي إيقاع الفيلم متماسكا هو المحافظة على التسلسل المشهدي والتدفق الطبيعي في سرد الأحداث، وهو ما يتبدّى بجلاء سواء في البداية مع كاي، أو في العمق الذي يستند إليه الفيلم في منتصفه مع إبحاره مع شخصيتي وانغ وتشين ونويل باسكيارت في العمارة السكنية.

ماتي ديوب و"داهومي"

بعد فيلمها الطويل الأول "أتلانتيكس" 2019، تعود المخرجة الفرنسية السنغالية ماتي ديوب بفيلم طويل آخر بعنوان "داهومي"، وهو وثائقي يحمل حسّ  التجريب بقدر عملها القصير السابق "ألف شمس" (2013) لكنها تتجه هنا أكثر نحو الخيال السحري الذي يفرض منطقه على الفيلم ليتحرك بمعنى السحر ونسيجه تحت الأثر الواقعي والاجتماعي.

Les Films du Bal - Fanta Sy
مشهد من فيلم "داهومي"

يتناول الفيلم عودة 26 قطعة من آثار مملكة داهومي في بنين إلى موطنها الأصلي بعد قرن من الغياب في ظلمة المتاحف الفرنسية، مما يثير مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالإرث الثقافي والتاريخ الأفريقي، والهوية الثقافية المتأرجحة في مجتمعات ما بعد الاستعمار.

هذه الأسئلة تؤشر إلى جانبين يسيران بالتوازي، الأول عند شباب تلك المجتمعات في بحثهم عن هويتهم ومستقبلهم وخصوصيتهم، ومن جهة أخرى تتردّد في صدى صوت شبحي، من خلال تمثيل يتجاوز الصورة تقوم به هذه القطع الأثرية التي تحمل في طياتها الزمن والتاريخ دون المكان، حيث تكون القطع الـ26  هي صوت الراوي.

وتضبط ديوب من خلال هذين الخطين المتوازيين نسيجا سرديا واسع النطاق وتخلق متنا لهذه الأسئلة، مستعينة بموسيقى تصويرية رائعة تخلق غموضا أعقد يحيط بمستقبل لا يقلّ غموضا عن الماضي.

ولربما يكون فيلم ديوب هو أفضل أفلام المسابقة الرسمية حتى الآن.

font change

مقالات ذات صلة